تحديد المفاهيم
لابد في أي دراسة من تحديد المفاهيم، لأنه البداية الصحيحة لتناول أي موضوع بطريقة منهجية وعلمية. فما معنى العناد؟
العناد سلوك يختاره الشخص إراديا بعد أن يكون على وعي تام بأمر معين فيرفضه جحودا وترفعا. وهذا المعنى هو الذي يعبر عنه مصطلح العناد في كتاب الله تعالى: واتبعوا أمر كل جبار عنيد (هود، 59)، واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (إبراهيم، 15)، ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (ق، 24)، إنه كان لآياتنا عنيدا (المدثر، 16).
ولذلك نقول الطفل قد يعارض أوامر الآباء أو يكون متشبثا بآرائه ولا نصفه بالعناد، لأن هذا الوصف لا يتوافق مع حقيقة الحالة من جهة، ومن جهة أخرى يعطي انطباعا أننا أمام ظاهرة مرضية لا دخل للكبار في صنعها ولا مسؤولية لهم في معالجة أخطائهم في ذلك.
ومعلوم أن أية معارضة للآباء هي مرفوضة في الثقافة الأبوية التي تعتمد على الموروث والتجارب الشخصية، بل هناك من يصبغها منذ المراحل الأولى للطفل بصبغة دينية، فيشهر سلاح السخط والرضا في وجه كائن ما يزال لا يدري من أمره شيئا.
حقيقة “العناد”
نودّ في هذه المقالة القصيرة أن نؤكد أن رفض الأبناء لتوجيهات الآباء في مراحل مبكرة، تبدأ من سن السنتين، ليست ظاهرة سلبية، إذ إنها تعبر عن حاجتهم الملحّة للاستقلال ذاتيا وتحقيق كيانهم والاعتماد على أنفسهم حتى في صناعة القرارات، وهي دليل على نمو شخصية سويّة تتمتع بصحة نفسية.
لكن يبقى الحفاظ على هذه الصحة النفسية رهين بوعي الآباء وحسن استيعابهم لأطفاهم في هذه المرحلة العمرية، التي تستمر إلى سن المراهقة. وإلا فإنها تتحول إلى ظاهرة مرضية في حال عناد الآباء.
وهنا نستعمل مصطلح عناد، لأن الآباء يفترض فيهم النضج والوعي أن الإكراه ليس أسلوبا ناجحا للتربية، وأن الطاعة دافعها الحب وليس الإلزام. لكن الجهل بهذا هو ما يفسر عنادهم، فينبغي على المربين أن يتعلموا قواعد التربية قبل التفكير في مشروع الإنجاب، لأنها ترتبط بأخطر وأهم مشروع؛ ألا وهو صناعة الإنسان.
العناد كظاهرة مرضية وعلاجه
حينما يتحول “العناد” من مرحلة عمرية طبيعية لنمو الشخصية إلى حالة مرضية بسبب سوء تصرف المربّين، فهاهنا نتحدث عن أساليب العلاج. والعلاج يبدأ بمحاولة ترميم الشرخ الذي أحدثه الآباء بعدم تقبل حريّة الأطفال واستقلال آرائهم ومقابلتها بأساليب عنيفة، أي يجب التأسيس لعلاقة جميلة وماتعة بين الآباء والأبناء، وذلك أهم ما يحتاجه الطفل المسمّى عنيدا، وتقديم “كمّية” كبيرة من المشاعر، وشحنة هائلة من العواطف، وإيقاف تكرار الأوامر المباشرة.
من أهم المشاعر التي تساعد على استرجاع التوازن لنفسية الطفل:
مشاعر الحبّ: ويكون التعبير عنها شفويا، وكذلك جسديا من خلال تكرار الضمّ؛ أربع مرّات على الأقل في اليوم، وكلّ ضمّة لا تقلّ عن دقيقة واحدة، كما يذكر المتخصصون، لنسمح للغة الجسد بالتجلّي. ويكرر ذلك لمدّة شهر لتظهر آثاره.
مشاعر الإعجاب: من خلال المدح المتكرر لسلوكاته الحسنة التي ينبغي أن يسلّط عليها الضوء، وتجاهل تلك التي تبدو سيئة. ويكون المدح أحيانا أمام الأقران والأصدقاء لتعزيز ثقته بنفسه. كذلك إبداء الإعجاب بشكله؛ وأنه مقبول ومتميّز، وهو جانب لا يقل أهمية في تعزيز الثقة.
مشاعر التقدير: من خلال احترام احتياجاته المختلفة؛ وخاصة الحاجة للعب والإبداع، بل ومشاركته فيها، ويكون التقدير كذلك من خلال مشاورته في أمور تخصّه، وتقديم خيارات مساعدة.
سيكون بإمكانك بعون الله بعد أن تواظب على هذه السلوكات، بمحبّة ودون ملل واستعجال للنتائج، أن توجّه ابنك لما كان يعاند فيه سابقا بطريقة سهلة وسلسة، ويمكنك إن لم توفّق في ذلك أن تعتمد أساليب أخرى كأسلوب ربط الحاجات بالامتيازات، فتشترط تحقيق رغبة من رغباته بعمل إيجابي ترغب في تعويده عليه، حتى تزرع فيه القدرة على الاختيار وتحمّل نتيجة تصرّفاته والاستقلال بالتفكير، وهو ما يحتاجه هذا النوع من الأطفال.
ولكي لا نتماهى في مراودة الأبناء إلى أبعد الحدود، فإنني أؤكد على ضرورة عدم تنازل الآباء في مواضيع هامّة ترتبط بمصلحة الأبناء الآنية أو المستقبلية، ولكن ليس بأسلوب العناد أو الضرب أو غيرهما من أساليب التعنيف اللفظي والجسدي، بل من خلال التذكير والتبليغ والتوضيح الدائم والمستمر، يقول تعالى في الحثّ على الصلاة كأهم موضوع يرتبط بمصير أخروي وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها (طه، 132)، بمعنى ينبغي التسلح بالصبر الكثير في التبليغ والتحفيز وتنويع أساليب التحبيب.
ولمساعدة الطفل في التنفيذ ينبغي تجنب كثرة التوجيهات في مواضيع مختلفة، وتحديد واحد منها، والتدقيق في ما يجب فعله للوصول إلى السلوك الصواب أو الأمثل، وتوضيح الفائدة منه.
ولمزيد من الواقعية فإن الآباء قد يضطرون أحيانا من أجل توفير الحماية للأبناء، التي هي من أهم مسؤولياتهم، إلى إلزامهم في أمور خاصّة تستدعي سرعة التدخّل وإن لم يقتنع الطفل، ثمّ نتابع معه أسلوب الإقناع والتوضيح بعد ذلك؛ كإلزامه بشرب الدواء من أجل شفائه. لكن الضرورة تقدّر بقدرها، أي لا ينبغي لجعل الحادث سببا للعودة لأساليب تدمير الشخصية من اللوم أو السخريّة أو النقد أو الضرب، والتي ستتفاقم آثارها لاقدّر الله وتبدو بشكل أكثر إزعاجا خلال مرحلة المراهقة.
ونختم بالتذكير أن الدعاء بصلاح الأبناء يبقى سرّا من أسرار التربية، ينبغي أن يرافق الآباء في كلّ هذه الخطوات، فتكلّل بالتوفيق والسداد بإذن الله.