مفاهيم أساسية في تربية الشباب في فكر الإمام عبد السلام ياسين

Cover Image for مفاهيم أساسية في تربية الشباب في فكر الإمام عبد السلام ياسين
نشر بتاريخ

افتتاح:

-1-

طَــوَى الرَّدَى فِتْيَةً تَصَــيَّدَهُــمْ

فِي غَـفـَلاتِ المـُجُوِن واللَّعِـبِ

مِن سَهَراتِ الفُسوقِ في لَهَفٍ

لِسَهَـرَاتِ الكُــؤوسِ والطَّـرَبِ

مَلَـكَ لُـبَّ الشـبـابِ غـانِـيـَــةٌ

تَمِيسُ مَيْسَ الثعبانِ ذِي الذنَبِ

جَـرَفَـهـُم مَـوْجـَــةٌ مُـخــَــدِّرَةٌ

عـمَّتْ بـِلاداً لِلْعـُجْم والعَــرَبِ 1

-2-

أنقِذ النَّشْء مِنْ غيـاباتِ جُـــبٍّ

عَلِّمْ النَّـشءَ حـَقَّ مَــا قـَدْ عـَلـِمْتَه

واصْطَنِعْ آمِرينَ بالعُرْفِ جـِيــلاً

طاهراً مِنْ صَفِّ الشَّبَاب اجْتَبَيْتَه

وعلى النُّكْرِ حَرِّض الجيلَ عَزْماً

«وأعدوا» أمـْرٌ عـزيــز تـَلـَوْتـه 2

تمهيد:

تقف هذه الفقرات عند جملة من المفاهيم التي نراها أساسية في فهم المنهاج النبوي في تربية الشباب التربية الإيمانية الجهادية كما يعرضه الإمام عبد السلام ياسين؛ أولا: بالنظر إلى الوضع الاعتباري المهم الذي يمثله الشباب في المنظور الإسلامي عموما بما هم عمدة الفتوة والقوة، وفي المنظور المنهاجي خصوصا الذي يتقدم به الإمام عبد السلام ياسين في تصوره العام لبناء المجتمع الذي يريد أن يؤسس للأرضية الصلبة للنهوض من الكبوة الفتنوية العامة إلى أفق البناء الصاعد نحو استعادة الشهود الحضاري المسدد نية وإرادة وسلوكا في اتجاه إعداد البنية العدلية الإحسانية البانية لمشروع العمران الأخوي في غد الخلافة الراشدة. ثم ثانيا: بالنظر للغنى الإشاري والدلالي للمفاهيم المستعملة لدى الإمام في تربية الشباب احتضانا متكاملا تربويا وتعليميا وقيميا وسلوكيا بما يمكنهم من الإسهام الفاعل الناجع في جهاد التحرير والبناء.

الوضع الاعتباري للشباب في جهاد التحرير والبناء

يقول الإمام عبد السلام ياسين في كتاب المنهاج النبوي، متحدثا عن تربية الشباب، ثم عن تربية المؤمنات: “إننا بحاجة لبناء أمة، والشباب يكونون في مجتمعاتنا المفتونة جيشا من العاطلين الذين أسيء تعليمهم وتربيتهم. فإذا حصلوا بين أيدينا قبل قيام الدولة وبعده يجب أن نعدهم إعدادا جادا ليكونوا جند التحرير والبناء. ومتى حصرنا الشباب عن الحركة ولم نهيئ لهم مجالا لصرف نشاطهم خارج جلسات الأسرة انفجروا في حركية عنيفة تضطرب ولا تبني. فلابد للشباب من رياضة وخرجات في المعسكر وسياحة. أقصد سياحة الدعوة والخروج في القرى والمدن لدعوة الناس إلى الإسلام. وفي الجامعات ينظمون أنشطتهم بما يظهر قوة المؤمنين وصحة عقيدتهم وفكرهم.

يعم المؤمنات ما يعم المؤمنين في إطار الشرع. فينظمن أسرهن وجلساتهن ودعوتهن، ويتحملن مسؤوليتهن العظيمة في دعوة وتربية شطر الأمة. ولا يمنع إماء الله من مساجد الله، يحضرن حلقات العلم ومجالس الإيمان ومواسم الخير أين ما كانت. بآداب الشرع وضوابطه” 3.

يفيدنا هذا النص كبير إفادة في استجلاء عناصر مهمة في فهم الوضع الاعتباري للشباب عند الإمام عبد السلام ياسين؛ من ذلك:

– أن لا مناص لأمة تريد النهوض، وتروم المستقبل من أن تضع في حسبانها دور الشباب ووظيفتهم الحاسمة في بناء الأمة، وإذا كان بناء “الأمة” في المعنى الإسلامي بما هي مقصود ضروري للوحدة المنظمة، والقوة الحاملة شرط إمكان بناء المستقبل الموعود تمكينا وخلافة، فإن الاعتناء بالشباب، وكذا بكل فئات المجتمع، هو شرط إمكان التأسيس لهذا البناء من خلال حشد المجموع المتعدد المختلف لأفراد المجتمع ليجسد القوة التي بغيرها لا موقع لأي مشروع تغييري في دنيا وزمن التغول الاستكباري الذي لا مكان فيه للضعيف الهش.

– أن العامل الذاتي حاسم أساسي في أي عملية تغييرية، وإن الذي يروم تغييرا بذوات خاملة هاملة مائلة، إنما يغزل بخيوط الوهم والحلم قصورا تتهاوى عند أي احتكاك بواقع الفتنة التي يتمتع فيها الشباب المسلم بنصيب وافر، تجعلهم بحسب النص كما غثائيا من الأرقام التي لا وزن لها، وكيفا هلاميا من العطالة والبطالة، التي تجعل منهم “جيوشا” أريد لهم أن يصنعوا كذلك على هيئتهم تلك بفعل تعليم سيء، وتربية أسوأ منه. ولنلتقط هنا تأكيد الإمام عبد السلام ياسين على فعل التربية المضادة في بناء الشباب، ودور التعليم السيء في وضع الشباب، وفي حسم التعليم الجيد والتربية الجادة في قلب الوضع وإعادة البناء.

– أن هناك مهمات أساسية سابقة قبل أي عملية لتربية الشباب، تمثل ضرورات حيوية ممتدة قبل قيام الدولة الإسلامية، وأثناءها وبعدها. أولى هذه المهمات الضرورية الحيوية هي “التحصل” على هؤلاء الشباب؛ أي استقطابهم للصف، واحتضانهم في المحاضن التربوية. ثم “الإعداد” الذي اشترط فيه الإمام عبد السلام ياسين الجدية التي تتجاوز عبث البرامج التربوية وتفاهتها وسفاهتها، وهذا كله ليصنع من هؤلاء الشباب “الجند” العدة الحاملة لمهمتي التحرير والبناء. التحرير من ضغط الفتنة وشروطها، والبناء الدؤوب المستمر للقوة العلمية والعملية لتأسيس المجتمع المراد.

– أن تهيئة البنية المناسبة لتصريف الشباب لطاقاتهم المختلفة، عنصر مهم آخر في تحصين البناء من الارتداد عوض الامتداد، بما تضمنه هذه التهيئة من فرص لاحتواء الشباب، وتوجيه ميولاتهم، وتنويع آفاق حركتهم، على نحو يمنع من العنف الذي يهدم فقط من دون أن يبني. وهذا لعمري لإدراك واع من الإمام بخطوة الانزلاقات التي تولد التطرف والتعصب والنزقية الناجمة عن انعدام التربية أولا، وانعدام توازنها ثانيا، وضياع استكمال آلات الحركة المتئدة الصابرة في مضمار دعوة خلق الله إلى باب الله.

– أن الإبداع في أساليب العمل، وتنويع الأنشطة له من الأهمية المكانة المعتبرة اللازمة إلى جانب المكانة المعتبرة التي وجب أن تكون لوضوح الرؤية، ووضوح الطريق، أي لوضوح المنهاج؛ وهنا يقترح الأستاذ ما يسميه بـ”سياحة الدعوة” التي تفتح للشباب عوض الانغلاق في صور “المجالس المنحبسة” آفاقا رحبة عامة للخروج للناس في قراهم ومدنهم ومنتدياتهم، بغاية الدعوة إلى الإسلام. هذا إلى جانب المجال الذي يراه الإمام خاصا بالشباب والمتمثل في الجامعات مثلا حيث الحاجة إلى التنظيم الفعال الذي يسهم في إبراز مختلف جوانب قوة الإسلام عقيدة، وفكرا وتنظيما.

– أن تربية الشباب عند الإمام عبد السلام ياسين، لا تحمل أي رؤية تجزيئية أو تمييزية تقصرها على الشباب الذكور فقط دون الإناث، بل إن التربية التحريرية البنائية يجب أن يستوي في تلقيها المؤمنون والمؤمنات. ولأمر ما جاء الحديث عن تربية المؤمنات مباشرة من بعد الحديث عن تربية الشباب؛ لنفهم أن حركية المجتمع لا يمكن أن تقوم برجل واحدة، إنما يلزم أن تتحمل المؤمنات الشابات مسؤوليتهن، فيؤدين وظائفن الدعوية والتربوية والعلمية في تربية “شطر الأمة”. كل ذلك بالانضباط التام لمقتضيات الشرع وآدابه التي تلزم النساء بخصوصيات تجعلهن في حاجة إلى إبداعات تنظيمية تلائم وضعهن وظروفهن.

مفاهيم أساسية في تربية الشباب عند الإمام عبد السلام ياسين

مفهوم المحضن الإيماني:

ليس أضر بالشباب من الانغماس في بيئة فاتنة مفتونة، وليس هناك أشد تضييعا له وتحريفا لوجهته من صحبة تقوده إلى مهاوي الغفلة واللهو والعبث؛ لذا يحتاج الشاب لمن ينقذه من براثن الفتنة، ويستخلصه من شباك الضلال عن سبيل الحق، وذلك أمر لا يمكن أن يتحقق إلا بتخليصه من رفقة السوء وضمه إلى المحاضن التربوية الإيمانية التي تدله على الله، وتعينه على معرفة دينه، والوعي بواقعه، وتحمل مسؤولية نفسه ومسؤولية التهمم بأمته وقضاياها.

في محاضن الإيمان يتجدد فهم الشاب للدين بمراتبه بتجدد بعثة المجددين، ويتجدد الإيمان بدوام ذكر الله عز وجل، ويتجدد العمل للإسلام باقتحام عقبات القعود بإيثار السلامة والعافية والاستقالة من أمر الأمة، وعقبات الهوى المتمتعة بالشهوات والملذات، وعقبات التبعية الإمعية لما هو سائد قائم مسيطر. ومن محاضن الإيمان يخرج الشاب من سمات الأعرابية القاعدة المتخلفة إلى الترقي في مدارج نصرة الدين وهجرة المنكر وتحمل لمسؤولية القيادة.

يحتاج الشباب في زمن الفتنة التي يحياها إلى صحبة تنتشله من ربقة الغفلة، وتجمع أمره على الله معرفة ومحبة وسلوكا، وتذكي فيه شعلة الإيمان المتقدة، إن صدقت النية، وذكر الله كثيرا، ليتحرر الشاب من عبودية غير الله عز وجل، ومن سيطرة الهوى، ويتحرر من حب الذات الأنانية، ويندمج في سلك العمل الجماعي المنظم المنتظم بمسؤولياته، وأجهزته، ونواظمه، وفاعليته البنائية وسط الأمة.

مفهوم التربية المتوازنة:

إن كانت التربية الأداة التي تصنع الجيل المشوه التائه الضائع، فإن التربية أيضا هي التي تصنع جيل الرجولة الشاهدة القائمة بالقسط؛ وعليه فالتربية ثم التربية ثم التربية هي الأداة العملية، إن كانت على المنهاج النبوي الذي ربى به رسول الله صلى الله عليه وسلم الزمرة الصالحة الأولى من صحابته الكرام، التي على جديتها وجدواها وجودتها وفاعليتها ونجاعتها تتأسس الشخصية الكاملة التي يمكن أن تقود عملية تحرير النفس وتحرير الأمة لتتأهل لمهمات البناء والجهاد.

لا بد للشباب من تربية نبوية تستقي معينها من الوحي الرباني وبالمنهاج النبوي ليكتسب الشاب مجموعا طيبا متكاملا من شعب الإيمان، ولا بد لهم من تربية متوازنة تربي الإيمان في القلوب ليتجدد، وتربي الحكمة في العقول لتتنور، وتربي الجهاد في الإرادة لتتحرر وتتوثب. وبهذه التربية المتوازنة يتحقق للشباب الاستواء النفسي، والاتزان العقلي، والتؤدة الحركية؛ فتجنبهم منزلقات الزهادة المستكينة، ومنعرجات الحركية الجوفاء، ومسالك التحليق والتجريد العقلي المنقطع عن الأرض.

ثم لا بد للشباب من تربية تعي العمر العقلي والنفسي للشاب، وتعي كيفية توجيه فورته وحماسته واندفاعه الوجهة السديدة التي لا تتنكب سبل تصريف طاقاته بما يناسب سنه ونفسيته وعقليته. ولقد رأينا في النص الذي افتتحنا به الحديث عن رؤية الإمام عبد السلام ياسين لتربية الشباب أن حصر الطاقة الشبابية في دوائر ضيقة من الفعل التربوي، وعدم التوسع في مجالات الحركية المتوازنة لن يولد سوى الانفجار، والعنف، والاضطراب والهدم.

يوم الشاب وليلته:

إذا كانت فترة الشباب هي فترة الحماسة والقوة، فإن مما يضيع تلك الحماسة، ويهدر تلك القوة، إضاعتهما في اللغو واللهو من خلال تضييع الوقت الذي هو الوعاء الزمني الحامل لحياة الإنسان. لذا يقترح الإمام عبد السلام ياسين على المؤمن الشاب، والمؤمنة الشابة، وعلى عموم المؤمنين بل وعموم الإنسان كلية، تنظيما نبويا ليوم الإنسان وليلته.

يسمح تنظيم الوقت للشاب من خلال يوم المؤمن وليلته بأن يكون له برنامج عمل واضح المعالم، مرتب الزمان، منظم الأشغال، متعدد الوظائف، متنوع الأنشطة، ليكون له نقطة بداية وخط مسير وتوجه قصدي، ينقله كما يقول الإمام عبد السلام ياسين من “زمن العادة واللهو” حتى تكون “قدمه راسخة في زمن العبادة والجهاد” 4.

تتوزع هذا التنظيم المرتب وظائف متعددة، على رأسها الجانب الإيماني المتعلق بزمن الوظائف الدينية من خلال الإلحاح على المحافظة على الصلوات الخمس في المسجد ومع الجماعة وعلى الرواتب والصلوات المسنونة، ومن خلال الأوراد التربوية من قيام بالليل، واستغفار بالأسحار، وذكر لله، وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتجديد لمعاني التوبة والإنابة والمحاسبة. ثم تأتي الوظائف الدنيوية وعلى رأسها جهاد الوقت للشاب الذي هو الدراسة وتحصيل العلم النافع، والتفوق فيهما. وكذا الوظائف الدعوية التي تربط الشاب بصحبته وجماعته ودعوته إلى الله وإلى الإسلام.

يقول الإمام عبد السلام ياسين متحدثا عن معنى بديع رائق لميزانية تدبير الوقت مخاطبا كل ذي لب حريص على حياته: “وليكن وقتك بمثابة ميزانية تنفق منها، فكن بوقتك شحيحا أن تصرفه في الغفلة وتضيعه في ما لا يغني، واعلم أن الوقت الذي تندم عليه ولات ساعة ندم هو وقت لم تذكر فيه الله تعالى باللسان والقلب والجهاد لنصرة دينه. اقتصد في وقت نفسك ولا تضيع وقت إخوتك بالزيارات الطويلة وبقلة ضبط المواعد” 5.

العلم والتعلم:

رأينا في النص الذي انطلقنا منه كيف جعل الإمام من التربية والتعليم السيئين سببا جوهريا في تخريج هذه الجيوش من الشباب العاطلين الذين ينغمسون في مجتمعنا المفتون، وعليه يكون إصلاح التربية والتعليم مدخلا جوهريا كذلك في جهاد تحرير الشباب من ذل الجهل والأمية والقعود والانتظارية.

لا بد للشباب من علم نافع هو العلم بالحق الذي في كتاب الله، ولا بد من علوم كونية هي حكمة الأمم المكسبة للقوة اللازمة للبناء. لا بد للشباب من علم النور القرآني المنبعث من العقل الخاضع لجلال الله ليعرف معنى الوجود الإنساني، ولا بد لهم من العقل الحصيف الحكيم القادر على امتلاك النظرة الكلية الشاملة ليقرأ تاريخه الماضي وواقعه القريب، ومستقبله الآتي بإرادة متوقدة للفعل المتجاوز للذهنيات الذرية والتبسيطية والقاعدة الخاملة.

إن جهاد الوقت عند الشباب اكتساب العلم والعلوم، فـ”من العلوم العينية كتاب الله عز وجل تلاوة وحفظا وفهما، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم دراسة واتباعا، وإتقان لغة القرآن لمحاربة الهيمنة الثقافية الأجنبية واحتلالها عقول أبنائنا وميادين حياتنا… وأثناء ذلك يتعلم جيل التجديد لغة القرآن ولغة السنة. فاللغة العربية، تلك الصافية المتينة لا لغة الجرائد، هي الآلة والوسيلة لفهم ما أنزل علينا بلسان عربي مبين. فلا بيان إلا بها، أي لا وضوح. ومن علوم الكفاية اللغات الأجنبية، والعلوم التجريبية التقنية، وعلوم التنظيم والإدارة، وعلوم السياسة والاجتماع” 6.

إن تحدي تربية الشباب وتعليمهم، عند الإمام عبد السلام ياسين، وتعليم الأمة بكل طاقاتها وأفرادها ومكوناتها لأولوية الأولويات في أي مشروع مجتمعي يروم سد ثغرات فقر الأمة، وتخلفها وفرقتها وانحطاطاتها الحضارية وهزائمها العسكرية، بيد أن معنى التربية المتكاملة ما يجب أن تقتصر فقط على عناصر التحصيل العلمي، إنما المراد أن يكون عند الشاب هذا “المجموع الطيب من شعب الإيمان والكفاءات والخبرة والغناء” 7. وإن “العلوم التي يتعين على الأمة أن تطلبها، وتبذلها لأجيالها وتنشرها فيهم، هي تلك التي يحركها روح العلم بالله وبسنة رسوله. فالخير كله في الفقه في الدين، وما يأتي بعد الفقه في الدين فهو وسيلة لخدمة مقاصد الدين” 8. ولعل التحدي الأكبر أمام هذا المعنى الراقي للتربية والتعليم هو تحدي بناء تعليم يحرر المدرسة المغربية من جراثيم الجاهلية المنقطعة عن الله، ومن التردي الأخلاقي الناشر للميوعة الطامس للدين، ومن انعدام الجودة والجدوى والقدرة الإدماجية.

الفتوة الباذلة:

آفات كثيرة تتربص بشباب اليوم في معترك الفتنة، على رأسها الضياع الهوياتي، التي تجعله لا يعي ذاته ولا الغاية من وجوده، وكذا التخلف العلمي الذي يجعله متلبسا بشتى أنواع الأميات التي تمنعه من أن يجد موضع قدم في سوق الفاعلية المجتمعية ثقافيا واقتصاديا، وتزيده سياسات التجهيل والتمييع والتفقير سوءا فتغرقه في براثن الرفقة السيئة والانحلال الخلقي والتردي في مستنقعات المخدرات والرذيلة، وتأتي سيول الإعلام المتدفقة من شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات الذكاء الاصطناعي لتقعد شبابنا إلا ما رحم ربنا في مواضع الاستهلاك والتفاهة وتضييع الوقت والعمر والمال والصحة.

وإن الفقه المنهاجي عند الإمام عبد السلام ياسين، يقترح علينا أن نبني معاني البذل في شبابنا من خلال تملك معاني الفتوة القرآنية التي تكسب الشباب مكارم جامعة من أخلاق الإيمان، وزيادة الاهتداء، ومعاني الشجاعة في الحق المقتحمة للعقبات، وسمات الخدمة التي تقبل على بذل الوقت والمال والجهد العام لخدمة ومواساة الناس؛ فلقد أودع الله عز وجل في الشباب من الإمكانات والطاقات والكفايات ما يؤهلهم لكسر أصنام الظلم تحررا، والتقدم لقيادة قوافل التطوع لبناء مستقبل الأمة. وإن الفتى يقول الإمام عبد السلام ياسين: “يكسر الأصنام… يحمل، ويصل، ويجمع، ويفدي إخوته… ويخدم إخوته… وسط الشعب مكان الفتية المؤمنين وفي خدمته” 9.

تُخْرِج الفتوة الباذلة الشباب من رخاوة الشخصية المترهلة، وانتظارية وضعية الخمول، وذل الاتكالية المقيتة، وسيطرة العادة الجارفة لترتفع همة الشباب تطلب معالي الأمور وتتنزه عن سفاسفها، وتتقوى بواعث التحرر من الخوف، والأنانية، والشح والأثرة، فتتنمى إرادات التحفز والتوثب للعمل لا الجدل، وللكرم لا البخل، وللبر لا التقاطع والتدابر. وهذا يقتضي تفعيل مبدأ التطوع الذي يدفع الشباب للنزول إلى ميدان الجد والعمل تهيئة لأسباب التقدم، وتعبئة لجموع الشعب، وجمعا للطاقات، وتسديدا للجهود لتحقيق هذه المهام الجسام الطوال التي تنتظر غد البناء 10.

التؤدة:

يقول الإمام عبد السلام ياسين متحدثا عن بعض خواص فترة الشباب الأساسية: “فترة العنفوان مهب للرياح والأهوية من داخل وخارج. وتنبغي العناية بالأشبال، وحوطهم من الآفات، حتى يشتد عودهم، وتكتمل رجولتهم. وما ريح الخلافات في التربية والتنظيم وتعدد الحركات إلا واحد من عوامل الاستخفاف” 11. نفهم هنا أن المسار العام لتربية الشعب، ومن ثمة لتربية الشباب، استخلاصا واحتضانا، وتربية وتعليما، وتنظيما وتدبيرا، وتدريبا وتفعيلا، لهو مسار -يصفه الإمام عبد السلام ياسين- بأنه طويل، كؤود، يطلب اقتحام العقبة “بقوة الإيمان، وشدة المراس، والثبات على الصراط المستقيم” 12.

وإن مما يجني على تربية الشباب الذهنية القطيعية التي تغرقه في مهالك الخفة والسطحية، والحماسة الجوفاء التي تجعله رهن الشرة المشتعلة الضاربة في كل واد، وما يتولد عن ذلك من جفاء وسوء أخلاق وعنف وتطاول وتعد على خلق الله. وإن التربية الرشيدة التي تقصد تغيير المجتمع المفتون لا بد لها في المجابهة والمواجهة من “القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل، وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة. إنما يستطيع أن يربي جيل الإنقاذ رجال لا تستخفهم نداءات الباطل، ولا يلعب بهم الهوى، ولا يتحركون على الظن والهواجس” 13.

نحتاج إلى احتضان الشباب وتحصينهم من دعايات الباطل والانحلال، ومن دعاوى الانحراف والاختلال، ومن موجات التطرف والتكفير، ورعونات التعصب والجهل. كل ذلك بتدرج وصبر ومصابرة واستقامة على محجة التربية النبوية الرحيمة الرفيقة غير العنيفة ولا المتجلة أو المستعجلة. ثم إن الاشتغال على تنمية الفهم والوعي بما وقع في تاريخ المسلمين وما تولد عن ذلك من إرث الفتنة، ومعنى تجديد الدين وسط غربته الثانية، وكذا بعث الحافزية في الإرادات لتصمد في سياق التربية المستمرة المتئدة لا تستخفها الضغوط، ولا تحول وجهتها الجزئيات، لمن آكد المداخل البانية للفعل الصابر على مدلهمات الخطوب في زمن الفتنة المتنامية.

خاتمة:

إن العمل الجماعي الذي يتصدى لبناء غد الإسلام المشرق يفرض الوعي العميق بأن المهمات التي كالجبال تريد طليعة كالجبال، قادرة على الصمود غير الملتفت لعقبات الطريق الحاضرة، فتكون الهمة على قدر الغاية السامقة، وتكون صناعة التاريخ المقبل عملا متواصلا متئدا قاصدا متوازنا جامعا بين التهمم بالمصير الفردي، والتهييء العلمي والعملي للقوة التي أمرنا بإعدادها لنصرة دين الله وإعلاء شأن أمة رسول الله.

وإن تربية الشباب عنصر حاسم من عناصر بناء الأمة، وصناعة ذلك التاريخ، وإن مدار هذه التربية يجب أن يقوم على تحرير الشباب من العبودية لغير الله تعالى، ومن عبودية الأهواء، ومن عبودية الأشياء، ليأتي بعد ذلك البناء على أسس النقلة النوعية من حياة الغفلة إلى حياة الذكر في بيئة حاضنة تتولى خلق جملة الفرص التي ستشكل البنية العدلية التدبيرية للنهوض للشهود الحضاري بالقسط لأمة الرسالة الخالدة. وهذا لا بد فيه من بصيرة منورة، وقلب رحيم، وعقل حكيم، ولا بد فيه من صبر وتجمل وتحمل ونبذ للعنف وثبات على الحق.


[1] قطوف 3، عبد السلام ياسين، قطف 192، ص 44.
[2] المنظومة الوعظية، عبد السلام ياسين، ص 78.
[3] المنهاج النبوي، عبد السلام ياسين، الفصل الثاني: تجديد الدين والإيمان، ص54، ط3، 1994.
[4] المنهاج النبوي، نفسه، ص 58.
[5] المنهاج النبوي، نفسه، ص 59.
[6] المنهاج النبوي، نفسه، ص 203.
[7] المنهاج النبوي، نفسه، ص 55.
[8] المنهاج النبوي، نفسه، ص 211.
[9] المنهاج النبوي، نفسه، ص 187.
[10] المنهاج النبوي، نفسه، من ص 189 إلى 194.
[11] المنهاج النبوي، نفسه، من 269.
[12] المنهاج النبوي، نفسه، ص 269.
[13] المنهاج النبوي، نفسه، ص 267.