قال الله تعالى في سورة الإسراء: فَإِذَا جَآءَ وَعۡدُ ٱلۡأٓخِرَةِ لِيَسُـُٔواْ وُجُوهَكُمۡ وَلِيَدۡخُلُواْ ٱلۡمَسۡجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوۡاْ تَتۡبِيرًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن يَرۡحَمَكُمۡۚ وَإِنۡ عُدتُّمۡ عُدۡنَاۚ وَجَعَلۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَٰفِرِينَ حَصِيرًا.
إن ذكر وعد الآخرة في هذه الآية يفترض أن يكون هناك وعد في الأولى. و هو قوله عز و جل: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا.
وإن أهل التفسير اختلفوا في المرة الأولى في هؤلاء العباد الذين جاسوا خلال الديار، واختلفوا في المقصود بـ“العلو الأول والعلو الثاني لبني إسرائيل”، لكن لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحديد هؤلاء العباد شيء، وإنما هي تأويلات وتفاسير من المفسرين.
وأغلب المفسرين ذكروا أن الوعد الأول والوعد الآخر قد مضى وانقضى، وأن كلا الوعدين كان وعدا مفعولا، ولما تكلموا عن علو بني إسرائيل وإهلاكهم، تكلموا عن جالوت وعن عدد من الأمم..
ولم سكن لبني إسرائيل فقط علوين في الأرض، بل كان لهم علو مرات كثيرة، وفي كل مرة كان الله عز وجل يبعث عليهم من يرد هذا العلو ومن يسومهم سوء العذاب ومن يقضي على علوهم هذا.
وهنا نتساءل عن سبب تخصيص القرآن الكريم لذكر علو بني إسرائيل بهاتين المرتين؟
لا شك أن هاتين المرتين لهما ميزة عن المرات السابقة، ولذلك نقول والعلم لله تعالى أن ما يميز هاتين المرتين أن بني إسرائيل في السابق كان هلاكهم على أيدي أقوام كافرة بعيدة عن الله عز وجل، وفي هاتين المرتين سيكون هلاكهم على يد قوم مؤمنين.
ولذلك نرى مع من يرى من أهل العلم أن وعد أولاهما وعلوهم الأول هو ما كان منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما غدروه صلى الله وسلم وخانوا العهد، فطردهم وأجلاهم عليه الصلاة والسلام عن المدينة وعن خيبر وأجلاهم من الجزيرة العربية، فهذا العلو الأول والعباد المقصودون في الوعد الأول هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم.
أما الوعد الآخر فنرى أنه ما يحدث في زماننا هذا.. المفسرون القدامى لم يكونوا يظنون أن اليهود سيكون لهم علو في الأرض، لأن ما كانوا يعيشونه في ذلك الزمان كان مختلفا عما يعيشونه الآن، ففسروا هذا الوعد القرآني بما مضى..
لكننا اليوم نقف على هذه الحقيقة، نقف على العلو الذي يعيشه بنو إسرائيل ونقف على احتلالهم للمسجد الأقصى، وبالتالي فهذه الآيات هي بشارة لنا بأن الله عز وجل كما حقّق وعده لعباده الأولين سيحقق وعده للآخرين، مصداقا لقوله تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
فالعباد هم العباد أنفسهم وإن تباعد بينهم الزمان، لكن ما يجمع بينهم أنهم يسيرون على نفس الصفات ويسيرون على نفس المنهاج، فالعباد الأولون كانوا على منهاج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعباد وعد الآخرة لكي يدخلوا المسجد كما دخله آباؤهم في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه أول مرة لا بد أن يكونوا على نفس منهاج الأولين ليتبروا هذا العلو..
وهو نفسه المنهاج النبوي الذي قامت عليه الخلافة الأولى وتقوم عليه الثانية بإذن الله تعالى.
وإن علو الباطل لا يزيله ولا يقضي عليه إلا الحق، فإذا اتصف المؤمنون بصفات الحق حققوا وأحقوا الحق في هذه الأرض.
وبتتبعنا لهذه الآيات الكريمة نجد أن الحق عز وجل بعد أن ذكر هذا الوعد الآخر، عندما قال عز وجل ويتبّروا ما علوا تتبيرا… تكلم الحق سبحانه مع بني إسرائيل فقال: عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا.
ونرى من خلال هذه الآيات أن الحق إذا علا كان رحمة على الخلق جميعا..
فقوله تعالى: عسى ربكم أن يرحمكم، نستفيد منه أن ظهور الدين وعلوه لا يكون انتقاما، ولا نسير على ما يفعله اليهود الآن بإخوتنا في فلسطين، بل إن علو الحق وظهوره سيكون رحمة، سواء في كسره لشوكة الباطل أو في بنائه لدعائم دولة الحق، وحينها لا بد أن يكون قول أهل وعد الآخرة للعالم من موقع القوة سلما وحلما ورحمة، ولا يكون انتقاما وأخذا للثأر لأنهم أصحاب رسالة رحمة لجميع البشرية مهما كان دينها ومهما كانت جنسيتها..
والرحمة إذا ظهرت من الأقوياء الأشداء كان لها اعتبار وتقدير أكبر مما لو ظهرت من الضعيف البائس.. وختاما نسأل الله عز وجل له أن يجمع شمل هذه الأمة وأن يسير بنا سير الرشد نحو العزة والتمكين. إنه ولي ذلك والقادر عليه..