مقدمات في الرقي بالقيم التخاطبية.. نحو أسرة متواصلة

Cover Image for مقدمات في الرقي بالقيم التخاطبية.. نحو أسرة متواصلة
نشر بتاريخ

إن السعي لبناء مجتمع تترسخ فيه القيم الإسلامية لا سبيل لبلوغه إلا بالاهتمام بتنشئة النشء منذ نعومة أظفارهم في أجواء أسرية يتشربون فيها هذه المبادئ القيمية، لذا فإن تكريس الجهود للنهوض بحال الأسرة باعتبارها نواة كل بناء متوازن للمجتمع يُعد من أولويات البحث والنظر العلمي.

وفي هذا الصدد نساهم بهذه المقالة التي نود من خلالها إثارة قيمة منسية في علاقاتنا الأسرية رغم أصالتها في ديننا وفي تراثنا الإسلامي؛ إنها قيمة الحوار القائم على الحجاج. لا شك أن الدراسات عديدة والأبحاث كثيرة حول أهمية الحوار الأسري، ولكن نسعى إلى إبراز خاصية نعدها من سمات الخطاب الحواري؛ إنها خاصيته الحجاجية.

ونود أن نجيب عن هذا السؤال المحوري: ما دور الخاصية الحجاجية في الرقي بالتواصل الأسري؟ ولذلك سنتعرف على مفهوم الحجاج، وأهمية الاستراتيجية التخاطبية القائمة على الحجاج في تحقيق الإقناع وتحسين التواصل بين أفراد الأسرة.

تعددت استعمالات الحجاج وتباينت تعاريفه من حقل لآخر، فهو ملتقى معرفي لمجموعة من العلوم، فتعاريفه تتباين بحسب النسق الابستمولوجي للعلوم التي يوظف داخلها، إذ يُعد الحجاج “حلقة ضرورية تمر عبرها كل العلوم” (1). إلا أن التعريف التالي هو خير ملخص لأساسيات الحجاج: الحجاج فعل تواصلي بين طرفين أو جماعتين يتفاعل فيها ما هو لفظي وما هو غير لفظي، وسيلته اللغة، وغايته الإقناع، متوسلا بمجموعة من التقنيات والآليات التي من شأنها تحقيق الهدف المتوخى منه.

يُستفاد من هذا التعريف الخصائص التالية:

خاصية التواصل: الحجاج شكل تواصلي من بين أشكال أخرى، هو جزء ضمن كل النظريات التواصلية، وهو نسق ينضوي تحتها بالإضافة إلى أنساق وأشكال أخرى للتواصل، لعله أهمها وأقواها، فنحن لا نتواصل من أجل إخبار بعضنا البعض بمعلومات، حيث إننا لا نتواصل من أجل لا شيء، هنا تتضاءل الوظيفة الإخبارية للغة لتكبر الوظيفة الحجاجية، نحن نتواصل لربط العلاقات مع الآخر بهدف التأثير فيه، أو الاتفاق معه (وزيادة الإقتناع بطرحه)، أو من أجل تدبير اختلاف فطري جبلت عليه الإنسانية، وما أحوج أسرنا إلى حضور هذا الوعي التواصلي في الفعل الحجاجي.

خاصية التفاعل: يضم الحجاج عدة أشخاص: منتجين له أولاً، ومتقبلين له، فالحجاج ظاهرة اجتماعية، يقوم على مبدأين معرفيين: مبدأ الادعاء ومبدأ الاعتراض، والآباء في حاجة ماسة إلى إعطاء أبنائهم فرصة الاعتراض على أقوالهم إن لم يكن الهدف من هذه الفرصة العمل بما اقترحه أحد أفراد الأسرة فعلى الأقل معرفة هذه المقترحات.

خاصية الحوارية: لما كان كل كلام مفيد يستلزم وجود طرفين لكل منهما مقام: مقام المتكلم ومقام المستمع، ولكل مقام وظيفتان: وظيفة المنتقد ووظيفة المعتقد، مع تبادل الأدوار بين الطرفين في هذه الوظائف، وهذه العناصر لابد من مراعاتها في أي تفاعل حجاجي تواصلي. والأسرة في حاجة إلى وعي أن المقامين متبادلين بين الأفراد فلا تجعل مقام أطفالها الاستماع الدائم ومقام الوالدين الكلام التوجيهي المستمر، وليكن الحوار حاضرا والأدوار متبادلة بين الأطراف.

خاصية الالتباس: لما كان الالتباس صفة مركوزة في الخطاب الطبيعي، فالخاصية الالتباسية صفة جوهرية في كل تواصل حجاجي. والحجاج عملية تواصلية تتوسل في تعبيرها بالقول الطبيعي، فملازمة الالتباس للحجاج لا يعني نقصا فيه، بل هو مزية يكسب هذه العملية التواصلية الطواعية الكافية لجعلها تستجيب لأغراض التبليغ والتي لا تحصى، ففي هذه الصفة الالتباسية يفترق البرهان عن الحجاج، وهذا الالتباس هو الذي يجعل المجال مفتوحا أمام مهارات المتكلم في فن القول، وإظهار كفاءته الإبداعية لكي يصل بسهولة إلى إفهام السامع وتقريبه من طروحاته حتى يتسرب إلى ذهنه وعواطفه بغية إقناعه والتأثير عليه. وهذه الخاصية الالتباسية لجوهر اللغة هي التي تدفعنا لتوجيه الآباء بفعل مقامها التربوي إلى اختيار أنسب وأعذب الكلمات لمخاطبة أبنائهم.

خاصية القصد: الحجاج فعل قصدي ويرتبط بمقاصد تعليمية وأخلاقية باعتباره بنية تداولية يجتمع فيه التوجيه المقترن بالأفعال والتقويم المقترن بالأخلاق (2). فخلو الفعل الحجاجي من مقتضيات مبادئ التأدب والتخاطب يفسد كل البناء الحجاجي رغم تماسكه العلمي. لأن القصد أصل في كل خطاب، إذ المتكلمون ينجزون خطاباتهم تبعا لمقاصدهم، فالقصدية هي التي تسند للقول قيمة الفعل، والقصد استراتيجية ضرورية للتواصل الحجاجي، ترتبط بشكل مباشر بدور المتكلم في التخاطب، وهذا ما أكده طه عبد الرحمن: “لا كلام إلا مع وجود القصد، وصيغته هي: الأصل في الكلام القصد” (3). وقد أكد هذا التصور ديكرو وذلك حين علق حقهم الملفوظ على قصد المتكلم” (4)، ولا نرى ضيرا في التصريح لأبنائنا في كل حين بقصدنا من أقوالنا التي نوجهها إليهم، وأن نسمح لهم بالتعبير عن قصدهم من الأقوال والأفعال التي يأتونها.

 خاصية العملية: الحجاج ممارسة عملية، إنه عملية تسعى إلى خلق التأثير في الآخرين، هو فعل قاصد يطمح إلى إقناع الآخرين، لكن حصول الإقناع لدى المخاطبين مشروط بعدة شروط، أهمها:

– أن يمتلك المحاجِج آليات وتقنيات (عقلية، لغوية، صوتية، إرشادية) تسعى إلى تحقيق هدف متوخى.

– مطابقة القول الحجاجي لفعل صاحبه، باعتبار أن المطابقة دليل وحجة مادية تحسب على المتكلم وتزكي موقفه وتؤكده.

– الإخلاص في العملية الحجاجية، فالحجاج فعل عملي غير تأملي، إنها الخاصية التي يسميها طه عبد الرحمان “مبدأ الانتهاض إلى العمل”، وهي مبدأ أساسي ومحوري، ليس فقط في الجانب الحجاجي، بل في كل الجوانب التواصلية، ويعرف طه عبد الرحمان هذا المبدأ قائلا: “هي الدليل الذي يجب اعتماده للعمل به بعد أن يكون الاعتقاد قد حصل” (5). ونحن هنا أمام مربط الفعل التربوي السليم “التربية بالقدوة”، فسلوك المرسل من أهم الآليات التي تقنع المرسل إليه، السلوك هو دليل له قوة حجاجية بالغة الأثر على ثقة المرسل فيما يقول، وعلى المرسل إليه في التداعي إلى الفعل، لأنه إن رأى أن صاحب القول بعيد عن اتباع القول بالفعل، فإنه من باب الأولى ألا يعمل به الآخرون. وسلوك المرسل إليه ينعكس على المرسل في بناء خطابه الإيقاعي، كأن يراعي أحواله وظروفه وقدراته ومعارفه وظروفه الخاصة والعامة، وهذه المراعاة نقصد بها عدم معاملة وتعميم نموذج تربوي على كل الأبناء. إن الاعتراف بالفوارق الفردية مبدأ تربوي لا تأخذ به مدارسنا حين لا تعتمد بيداغوجيات مبنية على تعدد القدرات والذكاءات، فلعل أسرنا ترحم الأبناء وتنظر إلى كون اختلافهم أمرا طبيعيا وتحترم هذا الاختلاف.

خاصية الاعتقاد: إن استهداف اعتقادات الإنسان، يظل رهانا صعبا يسعى كل فعل تواصلي ناجح إلى تحقيقه “لأن الاعتقادات لا تمثل عناصر مادية ملموسة، وتخلو من كل استدلال ذي بعد علمي برهاني، لذلك ارتبط أمر الاعتقاد ببعض القيم الإنسانية التي عليها مدار الحجاج، والتي يراهن عليها المتكلم كي يذعن السامع لما يطرحه من آراء ومواقف” (6). فالاعتقادات ليست حقائق برهانية صارمة ملزمة، بقدر ما هي حقل للبحث و التأويل، إنها مواضع عامة تثير نقاشات وجدالات تسعى إلى تثبيتها أو نفيها، إنها خزان القيم، التي تمكن الإنسان إما من تبني موقف أو التخلي عنه. فالاعتقادات ليست حقائق علمية، لذلك فإن أسرنا لحد الآن ما تزال تدور في فلك نفس المعتقدات القديمة، ولكن إن لم يتم تفعيل النقاش حول هذه المعتقدات فنخاف من خروج فلول من أبناء الأسر المغربية تتنكر لمعتقدات الآباء.

خاصية البناء والدينامية: الحجاج عملية تبنى تشاركيا بين ذاتين، فليس هناك حجاج جاهز أو معطى منذ البداية، بل هو عملية يتم بناؤها تدريجيا، وتتطلب تكيفا مستديما لعناصرها إلى نهاية إتمام الحجاج، والحجاج عملية دينامية محكومة بالسياق وبنوع المخاطبين “فلا وجود لحجج وأدلة معيارية تطابق مستمعا جاهزا وإنما هناك مخاطبون لهم حاجات وانتظارات خاصة” (7).

هذان العاملان هما المحددان الرئيسيان لنوعية الخطاب الحجاجي، فالاقتصاد في الأدلة الحجاجية مثلا يكون له دور مهم في عملية الإقناع، إن المبالغة في سرد الحجج في غير ما مناسبة يفقد الحجاج فعاليته وقوته، ذلك لأن الذهن البشري لا يقوى على معالجة سوى عدد محدود من عناصر القول … لذلك ينبغي التركيز على الأهم والأساسي في الحجاج … وكذلك الآباء والأبناء عليهما التركيز على ما هو أساسي في معالجة ما يعترضهما من خلافات، ولا يسمحا بتشتت النقاش إلى محاور جانبية تعيق التوصل للحلول.

الخاصية اللغوية: الحجاج فعل لغوي (واللغة هنا بمعناها الواسع، اللغة اللفظية واللغة الإشارية) لا يتم إلا باللغة وداخلها، سواء اعتبرت اللغة وسيلة أو غاية، ولا ننسى الجانب العملي الملموس في الحجاج، ونعني به “الجانب الحركي” و”الإشاري”، الجانب المتعلق بالوجه واليدين والشفتين، والتغيرات التي ترافقها أثناء الاستدلال، وما يتبع ذلك من انفعالات مادية وصوتية، من نبر وتنغيم. واعتناء الأسر بتنمية هذا الحس التواصلي اللفظي وغير اللفظي سييسر التواصل بين أفرادها، حين تغني النظرة عن كثرة الكلام، وحين يقرأ الأبوين في ملامح ابنهما محصلة تربيتهما، وحين يستبشر الأبناء بلمسة الأبوين وحضنهما، فإننا نربي وإن لم نتكلم، لغة الجسد لغة الحجاج الحقيقة التي يفهمها الأبناء وللأسف لا يتقنها الآباء.

إن هذه الخصائص مجتمعة تعني انتهاج خطوات، وسلك مسارات استدلالية متعددة، تشكل استراتيجية تخاطبية قائمة على الإقناع.

فالإقناع يمارس بعدة آليات قد تكون علامات لغوية وغير لغوية، سواء صاحبت التلفظ أو سبقته أو تلته، ويبقى الحجاج هو الآلية الأبلغ التي تجسد استراتيجية الإقناع (فإننا نتكلم بقصد التأثير)، وهذا ما يجعل استراتيجية الحجاج مناسبة جدا للمجال التواصلي الأسري، لأن:

– تأثيرها أقوى وأبقى، فحصول الاقتناع بأمر دون فرضه بالقوة يجعله أكثر اعتناقا وأرسخ اعتقادا.

– ترسيخها التداولي في المرسل إليه أقوى ونتائجها أثبت وديمومتها أبقى، لأنها تنبع من حصول الاقتناع عند المرسل إليه غالبا لا يشوبها فرض أو قوة (8).

– نتائجها التربوية هامة، لأنها تسمح بدمج طرق ومسالك متعددة.

– تكشف عن حس إنساني عال، فمن يستعين في تواصله باستراتيجية الإقناع يعطي للآخر حقه في العرض والاعتراض أيضا.

– فرصة هائلة لزرع نزعة عقلية في سلوك الأبناء وفي طريقة تفكيرهم، لأن “نمو المعارف الصائبة متوقف على الدينامية البنائية للاستدلال القوي الذي يفترض ان يقدم مزيدا من القرائن ويرد على الاعتراضات باستمرار” (9).

– استراتيجية حضارية، لأن المرسل حتى وإن كان ذا سلطة فإن الركائز الحضارية، خاصة في المنظومة الإسلامية، تتطلب تجريب استراتيجيات أخرى بعيدة عن النفوذ والإكراه والقوة، فهي سلطة مقبولة.

إن التمكن من آليات الإقناع وحده ليس كافيا لضمان النجاح التواصلي الأسري، إلا أنه مدخل مسعف في زمن الحريات إلى تربية سليمة لمن أراد جيلا ناقدا ومبدعا.


الإحالات:

(1) يمينة تابتي، الحجاج في الرسائل الصغرى لابن عباد الرندي، مجلة الخطاب، يناير 2012، ص 78.

(2) طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، التكوثر أو العقلي، ط1، 1998، ص 272.

(3) نفسه، ص 239.

(4) ادريس مقبول، الأسس الابستيمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، 2007، ص 357.

انظر كذلك للتوسع في الموضوع: الأفق التداولي نظرية المعنى والسياق في الممارسة التراثية العربية، 2011، ص 24 – 25 – 26.

(5) طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، م. س. ص 237.

(6) عبد السلام عشير، عندما نتواصل نغير: مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج، ط2006، ص 133.

(7) نفسه، ص 130.

(8) عبد الهادي بن ظافر الشهري (2004)، استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، ص 446.

(9) بناصر البعزاتي (2006)، الصلة بين التمثيل والاستنباط، ص 23، مداخلة ضمن التحاجج طبيعته ومجالاته. تنسيق حمو النقاري، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة ندوات ومناظرات رقم: 134.