مقدمة
يُعتبر الشباب رمز القوة والحيوية والنشاط.، وإذا تأملنا الدعوات الدينية والحركات الاجتماعية والتغيرية عبر التاريخ سنجدها كلها قامت على أكتاف الشباب وبجهودهم، ولذلك كانوا يحظون باهتمام كبير. والأمر راجع إلى ما يمتازون به من خصائص نفسية وشعورية وعقلية وجسدية.
ودعوة العدل والاحسان ليست استثناء من هذه المعادلة، فهي منذ بدايتها تأسست بالخصوص على أيدي الشباب وبمجهوداتهم وجهادهم المتواصل. فقد منح لهم الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله قيمة عظيمة ومكانة سامية سواء في فكره المنهاجي المبثوث في الكتب، أو في اهتمامه المباشر بهم وتعامله الخاص معهم في حياته رحمه الله، فكان كلما أنس من أحد الشباب همة وإرادة في العلم أو الفن أو الشعر أو الكتابة إلا وتعهده بالتشجيع والتوجيه والاهتمام. وهو تعامل لا يختلف بشيء عن التعامل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل به الشباب.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالشباب خيرا. وكان يفسح لهم في المجلس، ويقربهم منه ويحدثهم حديثا خاصا، تارة يوصيهم، وتارة ينصحهم، وتارة أخرى يوجههم. يستصحبهم معه في جولاته ويهتم بقدراتهم العقلية والجسمية. يريد منهم من كل ذلك أن يكونوا خير خلف لخير سلف، وأن يكونوا رجالا مؤمنين وأبطالا مجاهدين ودعاة صادقين وعلماء ربانيين. فيكفي الشباب فخرا أن يُشرفهم نبيُّهم بقوله: “نصرني الشباب وخذلني الشيوخ”.
من وحي التجربة الشبابية
أكتب عن مكانة الشباب في فكر الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في ذكراه الثانية عشر من وفاته وأنا أستحضر شيئا من التجربة التي عشناها شبابا يافعين في صحبته في الجماعة المباركة. فقد كانت المجالس يومئذ ولا تزال بالنسبة لنا محاضن لتلقي معاني التربية الإيمانية بشروطها الثلاثة: الصحبة والجماعة، الذكر، والصدق، والتي تفجّر في قلوبنا ينابيع الإيمان وتجدّده وتقوّيه.
وكانت الأنشطة المتنوعة، من فن ورياضة وتخييم، والتي نشارك فيها بمبادراتنا واقتراحاتنا تبعث على الحيوية والنشاط، يصرف الشباب من خلالها طاقاتهم في أعمال الخير والخدمة والدعوة والبناء.
وكان كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”، هو المرجعية الفكرية التي تُنوّر العقول بالعلم والحكمة، وتقويها بالفهم الصحيح والعميق، وتبعث في النفوس الهمة والإرادة من أجل العمل الجماعي المنظم بنواظمه الثلاث: الحب في الله، الطاعة، والنصيحة والشورى. كان الحديث عن الخصال العشر المعبّرة عن مضمون المنهاج النبوي هو مدار التعلّم والتعليم، والاجتهاد والتكوين. فلا يخلو مجلس من المجالس من عرض لإحدى الخصال العشر من طرف أحد الشباب.
إن الذي كان يدفعنا باعتبارنا شبابا إلى الانخراط في المشروع المنهاجي الذي جاء به الإمام رحمه الله تعالى أمران مهمان: أن فكرة المشروع تُقنع كلّ من يُقبل عليها قراءة واطلاعا، فيقبل بها مباشرة، وأن أصحاب المشروع يمثلون له نماذج حيّة من خلال مواقفهم الصادقة فيتأثر بهم فيصحبهم.
كانت قناعاتنا بفكرة العدل والإحسان ونحن شباب في المرحلة الثانوية زيادة على الأمرين السابقين بُنيت على ثلاثة أمور:
أولا: الإيمان بالمشروع على أنه يمثل الغاية الإحسانية لكل واحد منها أي الخلاص الفردي، والغاية الإستخلافية لكل الأمة الإسلامية أي الخلاص الجماعي.
ثانيا: الاعتزاز بالمشروع بأنه يستحق البذل بكل أنواعه، الوقت والمال، والجهد والصبر، والغالي والنفيس.
ثالثا: اليقين في المشروع بأنه قابل للتطبيق والتحقيق والتمكين في المستقبل. وكان هذا اليقين يزداد مع الوقت لما نراه من فضل الله تعالى على هذه الجماعة المباركة.
ومما أتذكره في هذه التجربة الشبابية أيضا، العمل على البعث النفسي بتقوية الإرادة وشحذ العزيمة من خلال التركيز على عاملين مهمين:
العامل التربوي: حضور المجالس الإيمانية والتعليمية والرباطات وغيرها.
العامل التاريخي: التركيز على الهوية التاريخية وصناعة التاريخ، فمن لا تاريخ له لا مستقبل له.
فضل كبير على الشباب
كانت مرحلة مهمة في حياتنا كشباب، فقد تحدّدت لنا الوجهة الصحيحة يومئذ، وظهر لنا الملاذ الآمن، والمستقبل الواعد، والحمد لله رب العالمين. ولذلك لا ننسى فضل هذا الرّجل الربّاني المجدّد المجاهد علينا. فقد حظينا منه بكل معاني الأب الحنون، والمربي الرحيم، والناصح الأمين، والموجه الحكيم.
ربى فينا معاني الإيمان والتربية والعلم والدعوة والجهاد. ورفع همتنا لتكون في طلب وجه الله تعالى، واهتمامنا ليكون في نصرة دين الله وقضايا أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما علّمنا كيف يحبّ بعضُنا بعضا ونوثّق تلك المحبة بدعاء الرابطة، وعلمنا أيضا كيف نُحسن الظن بالناس وإرادة الخير لهم.
جدّد فينا الجمع بين الصحبة والجماعة، بين العلم والعمل، بين العدل والإحسان، بين الخلاص الفردي والخلاص الجماعي، بين الدعوة والدولة، بين الرحمة والحكمة، بين السلوك الإحساني والسلوك الجهادي…
صحّح رحمه الله نظرتنا لتاريخ المسلمين، أن تكون من أعاليه وليس من أسافله، وصحّح رؤيتنا لمستقبل الإسلام، أن تكون واضحة يملأها اليقين التام بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ودلنا على مخطط عمل كامل لما ينتظرنا من واجب بناء أمة الإسلام.
جعل رحمه الله العلاقة الأسرية بين الزوجين إحسانية بعدما كانت حقوقية محضة. أرشد الأسرة إلى ما يمكّنها من عوامل التماسك والتعاون والاستقرار من أجل الحفاظ على الفطرة السليمة وتنشئة أجيال من المؤمنين والمؤمنات. وأكد للأبناء على واجب طاعة الوالدين والإحسان إليهم.
في كلمة واحدة فقد جدّد الإمام رحمه الله فينا وفي الأمة المنهاج النبوي. فجزاه الله عنا وعن الأمة خير الجزاء.
تشريف قرآني للشباب
لقد شرّف الله تعالى في القرآن الكريم الشباب ورفع من شأنهم وذكرهم بذكر حسن. شهد لبعضهم بالإيمان، ولبعضهم بالشجاعة في الحق في هدم الأصنام، ولبعضهم الآخر بخدمة من يخدم دينه من الأنبياء والمرسلين عليهم أفضل الصلوات وأزكى التسليم.
هؤلاء الشباب خلّدهم الله تعالى في كتابه الكريم ليكون ذكرُهم على ألسنة كل من يقرأ كتابَه في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وخلّدهم ليكونوا نماذج حقّة لكل الأجيال عبر التاريخ. إن الله تعالى مع هؤلاء الشباب شأن عظيم، فهو سبحانه تعالى عندما يرى من أحدهم صدقا وهمّة وعزما ورغبة في الإيمان وبحثا عن الحق والحقيقة فإنه يزيده سبحانه توفيقا وسدادا وهداية.
فمن النماذج الشبابية العالية والسامية التي خلّدها الله تعالى في القرآن الكريم:
سيدنا إبراهيم عليه السلام الفتى الشجاع في كسر الأصنام. يقول الله تعالى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ[الأنبياء: 60]. قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن قابوس [عن أبيه]، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا، ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب، وتلا هذه الآية: قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم. جاء في التفسير: الفتى هنا بمعنى الشاب الشّجاع.
والفتية أصحاب الكهف الفارّين بدينهم المعرضين عن الكفر والكافرين. يقول الله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا[الكهف: 10]. ويقول الله عز وجل كذلك في حقهم: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى[الكهف: 13]. الفتية هنا المؤمنون بربهم الثابتون على الحق.
وفَتى سيدنا موسى عليه السلام وهو يوشع بن نون عليه السلام، الخادم المتواضع. يقول الله تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا[الكهف: 60]. جاء في التفسير الفتى هنا بمعنى الخادم.
خاتمة
نستخلص من كل ما سبق أن الشباب ليس مرحلة للتمرد على الدين وليس مرحلة للتحرر من كل القيم والأخلاق، إنما الشباب مرحلة الاتصاف بمكارم الأخلاق، وبخصال الإيمان والرجولة، وبمعاني العطاء والبناء. وهذا ما يطلق عليه الإمام رحمه الله تعالى في المنهاج النبوي مفهوم “الفتوة”. يقول رحمه الله: “نقصد بالفتوة كرم النفس الذي يدفع المؤمن للاستعلاء على الطاغوت، فيكسر الأصنام، ويبذل روحه في سبيل الله. ونقصد بها إلى جانب هذا الرّفق مع المؤمنين، وخدمتهم، وتوطئة الكنف لهم. الفتيان هم الجامعون بين صفتي الشجاعة والتواضع. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى اْلكَافِرِين[المائدة: 54]” 1.