كنت أظن أن أزمنة الوأد قد ولت بلا رجعة وطوتها العصور في حيز ذكرياتها المنسية ورمتها في مزابلها التاريخية، حتى فاجأني اليقين من مدينة مكناس ليؤكد لي وللعالمين أن مخلفات الجاهلية باقية فينا وأن الوأد المحرم في كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية عاد من سجلاته المطوية ليدفع بوسوسته صومعة تاريخية إلى السقوط على أجساد وعظام مصلين آمنين مطمئنين، وليصنع بذلك كارثة مفجعة شكلت من هولها حدثا لا يزال رغم نقل الموؤودين إلى مقابر الرحمة والغفران يسيل مداد كثيرا ويطالب بسقوط رؤوس عديدة.
أي نعم ما جرى قضاء وقدر، ولا يسعنا أمام هكذا قضاء إلا أن نقدم جميل المواساة لكل من نزل به أو بأحد من أقربائه ونتضرع إلى الله عز وجل سائلين إياه أن يتغمد الموتى والمفقودين برحمته الواسعة وأن يسكنهم فسيح جنانه وأن يعجل بشفاء المجروحين والمعطوبين فهو ولي ذلك والقادر عليه وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وبعيدا عن سرعة الرياح التي كانت في ذلك اليوم، أو كمية التساقطات المسجلة ليلة الفاجعة، وبعيدا عن تصريحات الوزراء والمسؤولين الذين نفوا بشكل قاطع أن يكون للبشر دور في سقوط مئذنة قديمة على رؤوس المصلين وحصدها لعدة أرواح وتشريدها لعدة أسر، وفضلوا رغم كل تصريحات الساكنة هناك أن يلقوا باللائمة على غيث لا تصله أيدي الشرطة ولا تسري عليه مساطر القضاء، وآثروا البقاء في مكاتبهم الوثيرة على الحضور إلى عين المكان للوقوف مع المصابين والمكلومين في محنتهم، وبغض النظر عن كيفية تغطية القنوات التلفزية المحلية لمجريات هذا الحادث وعمن يقف وراء بث الأغاني والمسلسلات الغرامية المدبلجة وغير ذلك عبر الشاشات ومدينة مغربية تعيش بأكملها في حداد، بعيدا عن كل هذا وذاك فإن سؤال من المسؤول عما جرى في حي باب البردعاين بمدينة مكناس سيظل يبحث لنفسه عن جواب يضع النقاط على الحروف ويشفي غليل من ذاقوا كؤوس الموت وشربوا مرارته بمسجد لالة خناتة.
سقطت الصومعة وقتل من قتل ولم يعلق أحد، ومن قبل أحرقت النيران أجساد عمال مصنع “روزامور” بالدار البيضاء ولم يعلق أحد، ومن قبل ذلك خطفت النيران أعمار أزيد من أربعين سجينا بسجن الجديدة ولم يعلق أحد، وطيلة السنوات الأربع الأخيرة والموت يفترس ببرودة قارسة سكان قرية أنفكو بالخنيفرة ولا من معلق، ومن كل جانب من جوانب المغرب الأبي تأتي روائح المنية ممتطية أسرجة متنوعة، فهذا غيث منهمر يؤجج فيضان الوديان والأنهار ويجرف معه كل من يعترض طريقه، وهذه طرق فتاكة تتخللها قناطر تهوي من غير إنذار على رؤوس مستعمليها، وتلك مدن هامشية تحفل بمنازل آيلة للسقوط ترمم في المساء لتدفن ساكنيها مع مطلع الفجر، وهذه سجون تشتعل فيها النيران بمحض الصدفة المرة تلو الأخرى، وتلك مصانع ومعامل تجثم على الأنفاس بسبب أو بدون سبب، وهذه تلاوين عديدة وأصناف شتى لجرائم ضحاياها في ازدياد مستمر، وتلك مآذن ومساجد تنهار لتضاف لما سبق، والحصيلة جد ثقيلة وما بقي من الأسرجة لا يحصى ولا يعد ولا من يتحمل المسؤولية ولا من تلقى على عاتقه المسؤولية !!!.
في المغرب توجد مدن وقرى عتيقة تتحول مع كل ليلة مطرية إلى مناطق منكوبة، وفيه حواضر وأرياف تصبح بمجرد إطلالة للثلوج معزولة عن العالم برمته، وفيه من الجهات العشوائية والقصديرية ما يكفي لتصنيفنا كل سنة ضمن الدول المتأخرة في شتى القطاعات والمجالات، وفي المغرب خيرات طبيعية وطاقات بشرية وميزانية عظيمة، لو تم استغلالها بطرق إيجابية وتوظيفها في خدمة البلد ومدنه وقراه ومواطنيه لما استيقظنا كل يوم على أهوال مصيبة جديدة، لكن -وهذه هي مشكلة المغرب- لا يوجد مكان مناسب للرجل المناسب، فقط عقلية “أنا ومن بعدي الطوفان” هي من تسود وتسوس وهي من تتحكم في صنع القرارات واستغلال الخيرات وتوجيه وصرف الميزانيات، ولو أن المغرب بلد يحترم مسؤولوه الديموقراطية التي يلوكون مفرداتها بأفواههم بمناسبة وبغير مناسبة لكنا سمعنا عن وزراء أقيلوا أو استقالوا مع مثل هذه الكوارث، ولما سمعنا أصلا عن حكومة تلقب من قبل الشعب بحكومة الكوارث.
مكناس اليوم تنتظر بفارغ الصبر نتائج التحقيق الذي فتح، وتتمنى أن تكون نتائجه وتوصياته منصفة لها وكاشفة عن زيف وبهتان أسطورة الأمن الروحي والجسدي للمغاربة، وترجو ألا تطال هذا التحقيق أيدي خفية تقبره كما أقبرت من قبل تحقيقات مماثلة، وأخواتها في الهم والتهميش والحرمان والنسيان والتنكيل تسائل مجالس بلدياتها ومسؤوليها وممثليها في قبة البرلمان ومن هم فوقهم أو دونهم في سلم المسؤولية عن معاني مصطلحات القرب من المواطن وشعارات الكرامة وحقوق الإنسان وأسطوانات العهد الجديد، وتطالبهم بالإسراع في إنجاز مشاريع البنيات التحتية وتفعيل آليات المحاسبة والمراقبة وعدم الإفلات من العقاب حتى ينعم مواطنوها ببعض من راحة النفوس وطمأنينة الخواطر داخل وطن يحبونه ويزدريهم. وطن يفتخر صانعوا القرار فيه بوضع الشراكة المتقدم مع الإتحاد الأوربي ومع بلدان أجنبية، ويسعى حماة عهده إلى القطيعة مع سنوات الرصاص التي تخللت ماضيه، ويحلم فيه السياسيون برفع أعلام جهوية موسعة، وإذا بالمطر يفضح حقيقة الازدهار والافتخار والوضع المتقدم، وإذا بزخاته تهدم أسوار القطيعة وتعيد بناء قلاع الماضي بما يحمل من سواد لتجعل منه حاضرا ومستقبلا، وإذا برياحه الشتوية تجعل مع استمرار سياسة الترقيع من حلم الساسة كوابيس لا ينفع في طردها من مشاعر وعقول وذاكرة المواطنين إلا التشمير عن سواعد الجد بتحمل المسؤولية والإسراع في فتح حوارات وطنية يشارك فيها الكل بما يراه مناسبا لإخراج الوطن من وحل الأزمات التي يتخبط فيها، ولتخليصه من كل المستنقعات الآسنة المحيطة به، ولإنقاذه من كل وأد يتربص به.
هذا نداء مكناس وأخواتها… فهل من لبيب يجيب النداء؟؟؟.
اللهم حوالينا ولا علينا.