سبحانك إلهي! أنت الفاطر المبدع لكل شيء، أنت المقدر الموجد لكل شيء، أنت الملك الجبار قهرت خلقك بسلطانك وقدرتك، وصرفتهم على ما أردت طوعا وكرها، ورغبتهم فيك رحمة وحلما وأنت الغني عن العالمين، فمنهم من آمن سعادة وكرامة، ومنهم من كفر شقاوة وندامة، سبحانك إلهي هذه عزتك وجلالك خضع لهما كل شيء خوفا ورجاء، ورغبا ورهبا، وهذا نور جمالك أقام الوجود، ولأجله خُلقت الأرواح والأسرار والقلوب، سبحانك كل شهد في يوم إشهادك: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (سورة الأعراف الآية: 172).
لا إله إلا أنت ربي سبحانك! عجزتُ عن ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، فأعني على ذلك بحولك وقوتك.
لا إله إلا أنت ربي سبحانك إني كنت من الظالمين، برئت من حول فهمي، ووهم قوتي، فانشر لي رحمتك، واجعلني بك مُخَلَّصا من دركات إعراضي، مُحرَّرا من شهود ذاتي إلى شهود ذاتك، سبحانك.
إلهي! كيف أحمدك والحمد بك قائم وإليك راجع؟ سبحانك.
إلهي! كيف أشكرك والشكر لك ومنك؟ غفرانك.
إلهي! جعلتك أهونَ الناظرين إلي، لما طال حلمك بي، وسترك علي، وأصررتُ على سوء أدبي، وتوالي زلاتي، وقبيح أفعالي، وأصررتَ إلهي على جميل حلمك، وكريم إحسانك، ولطيف رحمتك، فَجَعَلْتَني أهونَ الناظرين إلى نفسي، سبحانك وغفرانك.
إلهي! ها قد أقعدتني معصيتك، وكبلتني الغفلة عنك، فجلستُ حيث لا ترضى، وقعدتُ حيث لا تُحب، وأنت تنظرُ إلي بجليِّ عَطْفِك، ورَقيقِ حنانك، مُمْهِلاً لضعفي، مستبقا لمَحْضِ خيري.
إلهي! ها هو عُبَيْدُك على باب النجوى واقف، بين سؤال القرب، وحيرة الذنب.
إلهي! وأولياؤك طائرون عارجون إلى حضرة قدسك، قد سعدوا بقربك، وفازوا بولايتك، وهَنَؤوا بودك، وارتاحوا بحصول عبوديتك، منحة منك وفضلا، نادوك فأجبت، وسألوك فأعطيت، وطرقوا بابك ففتحت، نفحتهم بأنوار وحدانيتك، وحلّيتهم بأسرار فردانيتك، وألبستهم من خِلع محبتك، وحفظتهم بكُشُف غَيْرَتِك، وأنْبَتَّهُم في أرض معرفتك، فكانوا بك ومعك، ومنك ولك، سبحانك! فاستنارت صفاتهم، وتطهرت أرواحهم، وفُتِّحت قلوبهم، فكم من نور متألق، وكم من ميلاد مشرق، وكم من عطر متدفق، والكل جنتك، ملكوت الرضى والقربى.
إلهي! جعلتهم عبادا لك مُخْلَصين، غائبين عن عوالم الفناء، لما أفنيتهم بجلالك، مُحَرَّمين عن كل ما سواك، لما أحللت لهم عوالم جمالك، حتى رضيت إلهي ورضوا، ووعدت بالمزيد: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ {32} مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ {33} ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ {34} لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (سورة ق).
إلهي! حتى لا يبقى سواك، حتى ينتهي الحساب والجزاء، ويسعد من رفعته برحمتك، ويشقى من أرديته بعدلك، وتطوى الصحف بقضائك، وتغلق الأبواب بقدرك، ويموت الموت! وتخلد الحياة، حتى تنتهي قصة الخلق والوجود، حتى يَبْرَأ أولياؤك من علة شهود الغيب، حتى تنشئهم النشأة الأخرى.
إلهي! حتى يجدوك في اليوم الأعظم، واللقاء الأكرم، والموعد الأفخم، والمشهد الأرحم، حتى تتجلى إلهي لأوليائك، كالبدر التمام سبحانك، كُلٌّ على قدر قربه، وطاقة روحه.
إلهي! أنت المزيد، لقاؤك وحلول رضوانك، فسبحانك ما أوفى عطاءك وما أجزل نوالك، وما أكرم إنعامك، حتى لمن عبدك لجنتك تتجلى له سبحانك، ولو حجبته عنك جاز لك، حتى لمن عبدك لنفع نفسه، تظهر له سبحانك، ولو حرمته منك حق لك، فسبحانك ما أعظم شأنك، وما أوسع رحمتك: “أتاني جبريل وفي كفه مثل المرآة البيضاء يحملها، فيها كالنكتة السوداء. فقلت: ما هذه في يدك يا جبريل؟ قال: هذه الجمعة. قلت وما الجمعة؟ قال: لكم فيها خير. قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيدا لك ولقومك من بعدك، وتكون اليهود والنصارى تبعا لكم. قلت: وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبده فيها شيئا هو له قسم إلا أعطاه إياه، وليس له قسم إلا ادخر له في آخرته ما هو أعظم منه. قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة، ونحن ندعوه يوم المزيد. قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال: إن ربك أعد في الجنة واديا فيه كثبان من مسك أبيض. فإن كان يوم الجمعة هبط من عليين عز وجل على كرسيه، فيحف الكرسي بكراسي من نور، فيجيء النبيئون حتى يجلسوا على تلك الكراسي، ويحف الكرسي بمنابر من نور ومن ذهب مكللة بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غرفهم حتى يجلسوا على تلك الكثبان. ثم يتجلى لهم عز وجل فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي! وهذا محل كرامتي فسلوني!. فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم في ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وذلك مقدار منصرفكم من الجمعة. ثم يرتفع على كرسيه عز وجل، وترتفع معه النبيئون والصديقون والشهداء. ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، وهي لؤلؤة بيضاء، وزمردة خضراء، وياقوتة حمراء، غرفها وأبوابها منها. وأنهارها مطردة فيها. وأزواجها وخدامها. وثمارها متدليات فيها. فليسوا إلى شيء بأحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا منه نظرا إلى ربهم عز وجل ويزدادوا منه كرامة” 1.
إلهي! هذا حبيبك الأول وصفيك الأكمل، النبي الأمي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قد أنبأ وأخبر، وذكّر وبشّر، أن يفوته لقاءك من نسي وتولى وأدبر وكفر، فيكون من الخاسرين الخائبين، النادمين القاعدين في نار جهنم يتحسر، يصلى نارين ويذوق عذابين! نار العقاب، ونار الحرمان منك والحجاب عنك يا مولاي!
إلهي! ها قد بسطت يدي سوداء من ذنوب عظام أنت تعلمها، لا يعلمها غيرك، ولو فضحتني بها لما نظر إلي أحد من خلقك، ولا رحمني أحد سواك.
إلهي! ها قد رجوتك عند هدأة هذا الليل وسكون مخلوقاتك.
إلهي! أدعوك وقد انكسر جانبي وعجزت حيلتي، وهدتني خطيئتي، وأوحشتني غربتي.
إلهي! ها قد ناديتك بسرِّ السِرِّ، وثمرة الفؤاد، ولسان الرجاء، ودمع الإشفاق، ولوعة الندم، وأسف المعصية.
إلهي! أدعوك من بيت الاعتذار!
إلهي! أناديك من حي الانكسار!
إلهي! أرجوك من مدينة الافتقار!
إلهي! أطلبك من دولة الاضطرار.
إلهي!، إلى من تكلني؟ أإلى نفس خبيثة نزقة تلعب بي وتوردنى المهالك؟ أم إلى شيطان مارد يصرعني عند أول البلوى وأوهن المسالك؟
إلهي! قد تبرأت من كل الأسباب، وعدت إليك حائرا متضرعا مستسلما خاضعا لك يارب الأرباب، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن أمنع منك أو أرد عن بابك.
إلهي! إن أردتك فبمرادك، وإن طلبتك مولاي فبمرضاتك، من ذا الذي يرحمنى إن لم ترحمني أنت؟ من ذا الذي يقبلني إن رفضتنى أنت؟ قد رضيت مولاي بتصاريفك، ومجاري أقدارك، ومحكم عدلك، واستوى عندي ما سواك وجودا وعدما، وأحصيت أنفاسي بذكرك: الله الله ربي لا أشرك به شيئا! راجيا ما تحب لعبادك، عفوك ربي ومعافاتك.
عليك جُفوني قَََطَّرتْ من دُموعها
فلا صبر لي مولاي لا صبر لي عنكا
إلهي يَضيقُ الصدر من خُلطة الورى
إذا لم تَلُح في أفقنا نظرةٌ مِنكا
أنَخْنا على الأبواب والصبر نافدٌ
نُعدُّ من البأساء في جُملةِ الهَلْكـَى 2
وفي كبدي من فرط وَجدي لَوعـةٌ
تَأَجَّجُ في الأحشاءِ نارًا، تَحرَّقُ
تَنامُ العُيون السَّالِياتُ ومُقلَـتي
هَتونٌ بدمعــي، إنَّ شملي مفــرَّقُ
إليكَ إلهي الشوقُ فامنًن بِرحمةٍ
يُسدِّد خطواتي خليلٌ موفقُ 3
[2] الإحسان، الجزء الثاني، صفحة: 297، للأستاذ الحبيب المرشد سيدي عبد السلام ياسين.
[3] الإحسان، الجزء الأول ، صفحة: 240، للأستاذ الحبيب المرشد سيدي عبد السلام ياسين.