منطلق الجادة في قضية المرأة

Cover Image for منطلق الجادة في قضية المرأة
نشر بتاريخ

تبسط في الثامن من مارس من كل سنة قضية المرأة و ما حازت من حقوق، وما يعتريها من عقبات وتحديات تقف حجرة عثرة في مسار التحرر والانعتاق من جميع أشكال الظلم والقهر المتزايدة معالمه رغم كل النداءات المطالبة بحق وكرامة وحرية المرأة، وفي كل سنة ينضاف الى لائحة المطالب جديد ينم عن مخاض لا يسفر عن ولادة، وكدِّ لا يفضي الى راحة، وحيرة كبلت المرأة الإنسان فلم تجد لحياتها معنى ولا استقرار ولا لمعرفة داءها ودوائها عنوان.

ومع بنات جنسها تنضمُّ المرأة العربية المسلمة الى موجة “تحرير المرأة”، بل تحديـرها بالدال، وتخريب أساسها رافعة راية النضال والكفاح وقطع خيوط القيد لنيل شرف ما نالته قريناتها من حقوق وحريات.

“بدأ التخريب في الأساس منذ سبعين سنة ويزيد منذ كتب قاسم أمين وأضرابه بخجل أولا ثم بجسارة متطاولة عن تحرير المرأة، ليبراليون ثم ماركسيون سياسيون ومتحللون إباحيون، أثناء ذلك قالوا كلهم كلمة أبناء الدنيا للمرأة المسلمة التي كانت ولا تزال المظلومة الأولى في المجتمع الفتنوي الغثائي. وزينوا لها وبينوا وصبروا وثابروا وصنعوا زعيمات محررات حتى آل الأمر إلى ما نرى والألم يحز في أنفسنا من انحلال وتفسخ”1 فأنتجوا بذلك المرأة أم المعذبات المستحقرات باسم الحرية والحقوق، سلعة وبضاعة وفي أحسن الأحوال مروجة بضاعة.

نعم، الحق الذي مع دعاة التحرير أنصار الحقوق أن المرأة فعلا، مظلومة مكدودة، مغصوب حقها ومهدرة كرامتها… فهي مستضعفة المستضعفات.

وأما الباطل الذي معهم فهو ما حشوا به عقول المسلمات من أنه لا يمكن إصلاح أحوالهن إذا لم يكن هذا الإصلاح مؤسسا على العلوم العصرية ونبذ كل قديم، وبالانقطاع عن كل دين لأن الدين ينافي العلم وأنه سبب رزية المجتمع ونسائه وأن خير ما تطلع النساء المسلمات طالبات الحرية والكرامة أن تصل اليه هو ما وصلت إليه أوربا والمرأة الأوربية، “خيره وشره”.

كيف إذن في ظل هذه المذاهب تنال المرأة المسلمة حقها وعزتها وكرامتها كيف السبيل الى رفع الظلم عنها وإنصافها؟

منطلق الجادة يبدأ من تحرير الأنفس والعقول، تحرير الأنفس من حب الذات وعبادتها، ومن الانشغال بالدنيا من أجل الدنيا، ومن تمويه الحقائق وزيفها، وبريق الشعارات ودسائسها، إلى إنسانية القضية وكنهها، فما قضية المرأة إلا نِتاجٌ أساس خَرِب ٍخرَّب وغَرَّب الناس والديار، وميَّع الذمم وأنام الإرادات الراكدة الخاملة التي لا خبر عندها عن قضية القضايا وحل معضلات الرزايا وشفاء كل داء ألا وهي قضية مصير العبد إلى ربه. ما حقيقة وجود المؤمنة في هذه الحياة الدنيا؟ ما حظها من الله عزوجل؟ وإلى أين ينتهي بها المصير؟

في الإسلام قبل وبعد الأحكام والحدود الشرعية المنظمة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعول على الذمم المؤمنة ووفائها، المعول في الإصلاح والصلاح على ذمة رجال ونساء ذمة لا تستفزها الدنيا فتنسى الآخرةَ، ولا تغرَّها القوة فتستعبدَ الضعيف، ولا تأخذَها الشهوةُ فتنسى أنَّ لها قلبا على صلاحه مدارُ سعادتها وسعادة مجتمعها. يجب بناء الأواصر الإيمانية بين العباد وربهم، وبين العباد بعضهم البعض لكي لا تظلم الأنفس بالصد عن الله عزوجل ويظلم بعضنا البعض بالأنانية والتعسف على الحقوق، وما حل بالأمة ما حل بها من ظلم وتظالم إلا لخمول جدوة الإيمان في القلوب.

يجب تحرير الأنفس من الانسياق وراء دعوات الانسلاخ عن شرع الله الى السير المهتدى نحو إرادة الآخرة وإرادة وجه الله عز وجل،والتقيد بشرعه والاستعداد للعرض عليه بالتوبة والعمل الصالح ليعرف كل آدمي الله ويحب الله وينال رضى ورحمة من الله .

“هذا هو حق الإنسان الخالد السامي الأسمى أن يكون عبدا لله عز وجل، عاملاً للقائه آملا في جزائه وجنته، خائفاً من عقابه وناره. هذه هي كرامته الآدمية، كل حق يطالِبُ به ما دون ذلك من حقوق الدنيا فهو له حقٌّ شرعي إن كان نيلُه يقربه من غايته الأخروية. ومن حقه أن يجاهد عليه مَانعَه. وكل “حق” من “حقوق الإنسان” يُلهيه عن آخرته فهو حظ من حظوظ النفس، لا يبالي به أهل الإيمان إلا من حيثُ كونُه مستضعفا في الأرض تجب نُصرتُه. ينصره الإسلام ليُسمعَه في مَأْمنهِ بَلاغَ الإسلام” 1

ثم نحرر عقولنا من اعتقاد الحق والعدل والكرامة في غير دين الله. الإسلام غطى جميع الحقوق الضامنة لتلبية رغبة الإنسان رجلا ومرأة، وحاجته في كل المجالات النفسية، والأمنية، والاقتصادية، والاجتماعية، والفكرية في كل أطوار الحياة وأحوالها ما ترك شيئا لهوى البشر أو تعصب مذهب.

يجب على المسلمات أن يتعرفن على ما أولاهن دينهن من عناية وتكريم قال الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “حرمتها في المجتمع المسلم حرمة عظيمة تكون إذايتها ومنعها من الحقوق المادية والمعنوية وخدش لكرامتها موجبات للعنة الله والعياذ بالله وقد قرن الله عز وجل حرمة المؤمنات ووازاها بحرمة المقام العالي مقام الألوهية والنبوة في قوله تعالىإن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا، والدين يوذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبين وكان من آخر ما وصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قُبيل موته: “الصلاة وما ملكت أيمانكم، فما زال يقولها حتى يفيض بها لسانه ” 2 .فال 362مرأة في الإسلام سبب ومحور السعادة والاستقرار لذا تعددت الحقوق في ديننا الحنيف، وتنوعت ونص على بنودها وربط أداءها بتقوى الله واقامة دينه. أول هذه الحقوق حق امتلاك الوسائل اللازمة من استقرار وعناية وحماية، والوقت الكافي لعبادة الله انطلاقا من اختيار حر معروض على المرأة وعلى الرجل اختيار بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة، قال الله عزوجل: “مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ” سورة الشورى، الآية، 20

يجب على المرأة المسلمة أن تتعرف على حقوقها، ثم تطالب بالتمتع بها، فالقضية قضيتها ولن يقوم مقامها في هذا المجال أحد، يفتح لها باب الجهاد والاجتهاد والتنور بالعلم الأصيل، فكما أن الإسلام انتشل من قبل المرأة العربية في فجر الرسالة من قهر الجاهلية وظلمها، فلن يصلح أمر المرأة المسلمة إلا بما صلح به أمر من قبلها.

يجب أعادة البناء المجتمعي على أساس ومنوال من تربين التربية النبوية، أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات شموس هداية تشهد مواقفهن وأعمالهن على ما خص به الاسلام المرأة من حقوق.

كن رضي الله عنهن مشاركات متزعمات في بناء صرح الأمة، تربين على طلب معالي الأمور يسامين إخوانهن الرجال في طلب ما عند الله، يتعبأن لإصلاح الدنيا والدين ويعبأن أخواتهن المسلمات، فبرزت منهن العالمة المفتية من أمثال أمنا عائشة رضي الله عنها، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه:“ما أشكلَ علينا -أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم- حديث قطُّ فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما” 3 ، والتاجرة الحرة في مالها المنفقة، السكن السند لأمتها أمنا خديجة رضي الله عنها، والحكيمة المستشارة المعمول بمشورتها أمنا أم سلمة رضي الله عنها ذات الرأي السديد والكفاءة في المواقف السياسية الحرجة: “خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية فلما فرغ من قضية الكتاب (كتاب شروط الصلح) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: “قوموا فانحروا ثم احلقوا قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس. فقالت أم سلمة: يا نبيّ الله! أتحِبّ ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم كبعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غَلمة حتى تنحر بُدْنَك، وتدعوَ حالقك فيحلقَك. فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل مّا” 4 ، ومنهن الواعظة لأولي الأمر في زمانها سيدتنا خولة بنت ثعلبة رضي الله عنها: “يا عمر، عهدتك وأنت تسمى عميراً في سوق عكاظ ترعى الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر ثم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف بالموت خشي الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب.” أي شجاعة هاته وأي جرآة في الحق، إنها المرأة تُمارس الدعوة في أصدق أحوالها والسياسة في أكمل مظاهرها.

ما كن رضي الله عنهن أحلاس بيوت، بل كن وسط الميدان يبادرن ولا يمنعهن ولا يقلل من عملهن الشرع بل يصونه ويثمنه. ما خاصمت إحداهن يوما فطرتها ولا تمردت عليها بل بها نلن كمال العدل والإحسان، فكن زعيمات فيما خصهن الله به دون الرجال، والرجال لهن في ذلك تبعا، وكن فيما خص الله به الرجال تبعا والرجال فيه زعماء، تقاسما للمهام وتكاملا فكن وإخوانهن شقائق متعاونين لا خصماء متشاكسين.

في زمن التفَسُّخ و التغرُّرِ ما أحوجنا لهذه المنارات نستلهم منهن ما به نرفع الحيف الذي وُسِم به ديننا الحنيف، وما حُرِّف فهمه وما مُوِّه على المرأة به باسم الدين بعد انتكاسة المسلمين وانتقاض عراهم، مما كسر ثقتها بنفسها فغذت عن هموم أمتها في معزل. منارات نَسْمع ونُسَمِّع من خلالها نداء الإسلام الأصيل للعالمين، ننقب عن سر هذه التربية التي أخرجت لنا هذه النماذج رضي الله عنهن عسى أن نستيقظ، ونعمل، ونسارع، ونتأسى، فنكن في أمتنا كما كانت الصحابيات في فجر أمة الاسلام، نجدد المسير ونكمل الطريق ونسهم في بناء صرح الخلافة الثانية الموعودين بها. “يتوقف نجاح المؤمنات في جهاد التحرير على قوة إيمانهن أولا، ثم على قوة تكتلهن ومساندتهن للجهاد الشامل تقتحم عقباتِه المؤمناتُ ويقتحمها المؤمنون ليفرضوا وجودهم في كل ميدان. تنظم المؤمنات أنفسهن، قيادتُهُنَّ منهن، مبادرتهن منهن، والشورى جامعة.

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبهن السياسي، والتغيير على المدى الأبعد وتعبئة الأمة وصناعة المستقبل واجبهن المصيري. تكتلهن واجب حول زعامات منهن تناهض زعامة المنتحرات. إزاحة الباطل من مواقعه قَدَما قدماً، ثم بناء الحق لبِنَةً لبِنَةً. صبرٌ وجلَدٌ وتحملٌ وطولُ نَفس. ورِفق مع ذلك لا عنْف. آن أن توقظ المؤمنات بنات جنسهن ليقُدْنَ جهادا مختلف الأشكال، متنوعَ الوجوه، شاملا لكل مرافق الحياة. جهاد تعليم، وتتويب، وتوعية، ومحوٍ للأمية العقلية والسياسية.”

وبالله التوفيق


[1] كتاب العدل ص 318
[2] سنن ابن ماجه رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها
[3] رواه الترمذي رحمه الله
[4] رواه البخاري عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه.