منظمات المجتمع المدني بالمغرب والحق في التمويل 2/2

Cover Image for منظمات المجتمع المدني بالمغرب والحق في التمويل 2/2
نشر بتاريخ

رابعا: معوقات تمتع الجمعيات في المغرب بالحق في الحصول على التمويل

كشف بحث المندوبية السامية للتخطيط المشار إليه سابقا أنه رغم النمو الذي عرفه النسيج الجمعوي في السنوات الأخيرة، فإن أغلبية الجمعيات تواجه عدة معيقات في إنجاز مهامها منها على الخصوص صعوبات في الحصول على التمويل بواقع 8 جمعيات من أصل 10 1 . وإذا كان الإطار القانوني المنظم لعمل الجمعيات في المغرب لا يعرقل -من حيث المبدأ، وكما أوضحنا أعلاه- جانبا أساسيا من حق الجمعيات في الحصول على التمويل سواء من الممولين من داخل البلد أو من خارجه؛ إلا أن تحليل الوقائع يضعنا أمام صعوبتين تواجهان الجمعيات في هذا الصدد. ويتعلق الأمر أولا بغياب أي تشريع قانوني يلزم المؤسسات العمومية بتخصيص ميزانيات محددة لدعم المجتمع المدني، وثانيا: ضعف القدرات المؤسساتية لمنظمات المجتمع المدني في مجال تعبئة الموارد؛ ففيما يتعلق بالصعوبة الأولى نؤكد أن المبدأ السادس من المبادئ الدولية التي تحمي المجتمع المدني يلزم الحكومة بالعمل على ضمان أن الإطار التشريعي المتعلق بالحريات الأساسية والمجتمع المدني يجب أن يمكن على نحو ملائم تلك الهيئات من العمل؛ وهو ما يعني أن من واجب الدولة تأمين مصادر لتوفير الحد الأدنى من التمويل اللازم لنشاط الجمعيات ومنظمات المجتمع المدني. ومن هذا المنطلق، فإن من أهم الواجبات الضرورية التي يتعين العمل على توجيه الحكومة المغربية لتفعيلها على وجه السرعة، وتحت طائلة تقييم مدى احترامها للحق في التجمع السلمي وفي تكوين الجمعيات، مراجعة ظهير 15 نونبر 1958 المنظم لعمل الجمعيات بما يجعله تنص صراحة على مسؤولية الدولة ومؤسساتها الوطنية والجهوية والإقليمية والمحلية في ضمان حق الجمعيات ضمن معايير واضحة في الاستفادة من التمويل العمومي لأنشطتها ومشاريعها. ويتعين أن يضمن بالصراحة والدقة ذاتها ألا تكون الإجراءات الواجب اتباعها من الاستفادة من هذا التمويل معقدة أو من شأنها أن تتيح التماطل عن هذا الواجب.

وينضاف إلى هاتين الصعوبتين ممارسات أخرى تشكل عمليا مساسا بالحق في تكوين الجمعيات عموما و-على وجه الخصوص- حق الجمعيات في التمويل على قدم المساواة، ويتعلق الأمر هنا بنظام الاعتراف بصفة المنفعة العامة لبعض الجمعيات كما تنظمه الفصول من 9 إلى 13 من ظهير الجمعيات المشار إليه أعلاه والمرسوم رقم 969-04-2 المتعلق بشروط وكيفيات الاعتراف بصفة المنفعة العامة، ومنشور الأمين العام للحكومة رقم 01/2005 حول شروط ومسطرة الاعتراف بصفة المنفعة العامة لفائدة الجمعيات. ونشير -هنا- لكون هذا الوضع يتيح للجمعيات التي تتمتع به الحق في الاستفادة ضمن شروط تفضيلية ومشجعة من التمويل من الدولة ومن المؤسسات العمومية التابعة لها والجماعات المحلية وهيئاتها كما يضمن لها -دون غيرها من الجمعيات- شروطا ميسرة فيما يتعلق بالتماس الإحسان العمومي. ويكشف دراسة قائمة الجمعيات التي تتمتع بهذا الوضع، وكذا محاولات العديد من الجمعيات التي لم تستطع اكتساب هذه الصفة، أن تحصيل هذه الميزة تحكمه دوافع سياسية في الغالب وتفتقر إلى أساس موضوعي عادل. وإزاء هذه الممارسات نوجه الحكومة المغربية للكف عن هذا السلوك باعتباره مساسا باستقلالية الجمعيات وتنصلا من المبدأ الثاني من المبادئ الدولية التي تحمي المجتمع المدني الذي ينص على حق المجتمع المدني في العمل بمنأى عن التدخل غير المبرر للدول وضرورة ضمان أن تنفذ القوانين والأنظمة التي تنظم عمل المجتمع المدني بطريقة عادلة، غير سياسية، موضوعية، وشفافة ومتسقة كما يؤكد ذلك المبدأ الثاني لحماية المجتمع المدني 2 .

خامسا: في مبررات السلطات المغربية للتدخل في التمويل الخارجي للجمعيات

من حيث المبدأ، فإن السلطات المغربية لا تمانع في حق الجمعيات في تلقي التمويل من مصادر خارجية سواء من الحكومات أو من المنظمات غير الحكومية أو الخواص، كما أن القوانين الجاري بها العمل لا تضع قيودا واضحة على هذا الحق، فعشرات الجمعيات تتلقى مساعدات من حكومات أو منظمات دولية في إطار مشاريع أو كهبات؛ غير أن الحرب على ما يسمى الإرهاب جعل المغرب ينخرط في الحملة الدولية الهادفة لتجفيف منابع تمويل النشاط الإرهابي). وإذا كان من حق الحكومة -في إطار مسؤوليتها تجاه أمن مواطنيها وحماية مصالحها- أن تتخذ ما يناسب من الإجراءات غير الماسة بحقوق الإنسان الأساسية، فإن تصريح كل من وزير الداخلية في يوليوز من العام 2014، والأمين العام للحكومة المشار إليهما في الفقرة 13 أعلاه، يثيران مخاوف من أن يتم استغلال موضوع الأمن العام من أجل فرض قيود شديدة قد تمس بجوهر هذا الحق خاصة وأنهما مسؤولان حكوميان يرأسان “وزارتين سياديتين”.

إن أبرز مبرر تسوقه التصريحات الرسمية لأي تعامل صارم مع التمويل الأجنبي للجمعيات -كما تظهر الوقائع أعلاه- ترتبط بالتخوف من تزايد توظيف هذا الحق في نشاطات مشبوهة تمس بالأمن الداخلي والاستقرار السياسي والاجتماعي. وإذا كانت هذه التخوفات لا تثير أي خلاف من حيث وجاهتها، فإن الخشية من أن تتخذ ذريعة من أجل المساس بمجوهر الحق في تكوين الجمعيات كحق طبيعيي تبقى واردة. وإزاء هذا، نعتقد أن الحل يكمن في وضوح القوانين التي يجب أن تحدد بدقة -وفي الحدود الضيقة والضرورية فعلا- ما يعتبر غير شرعي في المعاملات المالية للجمعيات والمنظمات خاصة المعترف لها بالشخصية القانونية من جهة؛ وفي التزام الجمعيات بالشفافية التامة فيما يتعلق بتدبيرها المالي من جهة ثانية كما سنوضح أدناه؛ كما نؤكد -أيضا- أن المسألة تفرض توجيه الدول نحو الالتزام باعتماد قوانين تراعي ما سبق من جهة، وضمان حق الجمعيات في امتلاك أطر ذات كفاءة في التدبير المالي، وهو ما يتطلب من الحكومة واجب توفير التكوين اللازم لنشطاء المجتمع المدني وموظفي ومستخدمي منظماته.

سادسا: تلازم الحق في التمويل مع الحكامة والشفافية

في موضوع تلازم حق الجمعيات في الحصول على التمويل اللازم للقيام بأعمالها، نود أن ننوه إلى أن دستور المملكة المغربية يشدد في ديباجته على التلازم بين الحقوق والواجبات، وعلى اعتبار الحكامة الجيدة والشفافية مرتكزات أساسية للمملكة. أما في مجال الجمعيات، فإن ظهير 15 نونبر 1958 المشار إليه أعلاه (الفقرة 9) يحدد عددا من الإجراءات التي تروم -من حيث جوهرها- ضمان الشفافية في تدبير الجمعيات للأموال العمومية التي تتلقاها كإعانات؛ ويتعلق الأمر هنا بالفصول 32 و32 مكرر و32 مكرر مرتين، والمادة 118 من القانون رقم 99.62 المتعلق بمدونة المحاكم المالية، ودورية الوزير الأول عدد 7/2003 بتاريخ 27 يونيو 2003.

ويظهر تحليل النصوص المشار إليها أعلاه أن الأمر يتعلق أساسا -إذا ما استثنينا بعض مقتضيات مذكرة الوزير الأول أعلاه- بشروط وإجراءات مسطرية يتعين على الجمعيات التقيد بها عند تلقيها للتمويل العمومي أو الأجنبي، وهو ما يعتبر غير كاف كونه لا يتحدث عن جوانب من مسؤوليات المؤسسات العمومية؛ كما أن تقارير رسمية تؤكد أن عددا من الجمعيات لا تتقيد بهذه النصوص لأسباب مختلفة 3 .

ومن منطلق التلازم -في المجتمعات الديمقراطية- بين الحق في التمويل وضرورة التقيد بمبادئ الشفافية والحكامة الجيدة كقاعدة لبناء مجتمع ديمقراطي حديث قوامه ربط الحقوق بالواجبات، ولأن ما هو منصوص عليه قانونا غير كاف، واعتبارا لكون أغلبية الجمعيات لا تلتزم بجوانب من هذه القوانين، فإننا نشدد من خلال هذا التقرير:

– أولا: على ضرورة التزام المؤسسات العمومية الصارم -وتحت طائلة المساءلة للمخالفين- بمبادئ الشفافية الكاملة في تمويل منظمات المجتمع المدني؛ وهذا يعني أن على هذه المؤسسات أن تعلن عن المبالغ المخصصة لدعم الجمعيات ومعايير الاستفادة من هذا التمويل وكذا الأطر القانونية والمؤسساتية التي تحكم الشراكة مع المجتمع المدني.

– ثانيا: ضرورة تقيد جمعيات المجتمع المدني بمبادئ الحكامة الجيدة والشفافية في تدبير مواردها؛ ويشمل هذا الأمر ضرورة التطبيق الكامل لأنظمتها، خاصة ما يتعلق منها بأوجه صرف الأموال ومواءمة هذه الأنظمة للمعايير القانونية المعمول بها، كما شمل -أيضا- ضرورة الالتزام بالإجراءات التي تنص عليها القوانين الجاري بها العمل، وإعلان مصادر تمويلها ومسك محاسبتها وفق الشروط المعمول بها، وجعل حساباتها تحت مراقبة القضاء.

سابعا: توصيات لجنة الحوار الوطني حول المجتمع المدني: المستقبل وتحدياته

يعيش حقل المجتمع المدني في المغرب في ظل الدستور الجديد للملكة مخاضا حقيقيا؛ وفي ضمن هذا المخاض -وفي سابقة من نوعها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- أقدم الملك محمد السادس في مارس من العام 2013 على تشكيل لجنة وطنية تحت رئاسة السياسي المخضرم مولاي اسماعيل العلوي لإدارة حوار وطني حول المجتمع المدني والأدوار الدستورية الجديدة؛ وهو الحوار الذي تمخض عن مجموعة من التوصيات تهم مختلف المجالات المرتبطة بحقل المجتمع المدني. وإذ نعبر عن أملنا في أن تكون هذه البادرة خطوة في مسار تعزيز حقوق الإنسان وتقوية موقع المجتمع المدني، فإننا سنخصص هذه الجزء من تقريرنا هذا لتقييم مضمون هذه التوصيات فيما يتعلق بالحق في التمويل انطلاقا من التطلع للمستقبل الذي ترسم أفقه وملامحه.

ضمن نتائج الحوار الوطني المشار إليه أعلاه، أصدرت اللجنة الوطنية المشرفة على الحوار مسودة مشروع قانون الجمعيات. وفي القسم الثالث من هذه المسودة المخصص للدعم العمومي، تأكيد على ربط حق الجمعيات في التمويل العمومي لبرامجها -في إطار الشراكة- بالتزام هذه الأخيرة بقواعد الشفافية والحكامة الجيدة والمساءلة والمحاسبة، كما تنص هذه المسودة أيضا في المادة 54 على حق الجمعيات المصرح بها بصفة قانونية في الدعم العمومي لقدراتها ومواردها الإدارية والبشرية. وإذا كانت المادة 57 تحيل على صدور مرسوم خاص يحدد معايير الدعم العمومي، فإننا نسجل أن هذه المسودة لم توفق في تحديد مؤسسات الدولة الملزمة بواجب تمويل الجمعيات واعتبار ذلك التزاما دستوريا ومسؤولية قانونية يعاقب على مخالفتها.

وعلاوة على ما سبق، ننوه إلى أن المادة 58 من المسودة لم تستطع أن تتجاوز ما نبهنا إليه أعلاه بشأن حق الجمعيات غير المصرح بها في العمل والنشاط دون الحاجة إلى الحصول على الاعتراف القانوني، فإذا كان متفهما -في إطار المسؤولية الإدارية والمالية للمؤسسات العمومية- تشديد المسودة على حصر الحق في التمويل العمومي على الجمعيات المؤسسة قانونا فإن منع تلك التي لا ترغب في الحصول على هذا الاعتراف من التصرف في مواردها الخاصة وأملاكها وكل ما يلزمها لممارسة نشاطها -كما يفهم من المادة المذكورة- يعتبر مساسا بالفقرة الثانية من المبدأ الأول من المبادئ الدولية التي تحمي المجتمع المدني.

ومن المستجدات الإيجابية التي جاءت بها المسودة، والتي تستحق نوعا من الإشادة، علاوة على إحداث مؤسسة وطنية تحت مسمى الوكالة الوطنية لدعم قدرات العمل الجمعوي) والتي يعول على قانون إحداثها قبل إصدار أي تقييم لها، اعتماد نظام التصريح بدل الترخيص -كما كان معمولا به- من أجل التماس الإحسان العمومي وتأكيد هذا الحق لكل الجمعيات على قدم المساواة في إطار احترام معايير الشفافية والحكامة الجيدة، ونعتقد أن الأمر من شأنه أن يساعد الجمعيات في تأمين جزء من الموارد الضرورية لأداء نشاطها وأن يشكل فرصة لتعبئة مختلف شرائح المجتمع المدني في دعم العمل الجمعوي.

ثامنا: نداء عاجل

يمتلك واقع المجتمع المدني بالمملكة المغربية قدرة هائلة في النهوض بأوضاع المجتمع اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، وفي الوقت ذاته فإنه يعاني من صعوبات جمة تحول دون تحقيق نتائج أفضل؛ فعلى الرغم من تزايد الإقبال على تأسيس منظمات المجتمع المدني من قبل شريحة واسعة من المواطنين المغاربة لاسيما من الفئات التي تعيش أوضاعا صعبة، وهشاشة في وضعها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فإن هذه المنظمات لا تزال تواجه صعوبات في تأمين التمويل الضروري للقيام بمهامها وأداء وظيفتها في تعبئة وتأطير المواطنين والعمل معهم من أجل تحقيق أهدافها المشروعة ديموقراطيا. وتتوزع المسؤولية في هذا الإطار بين الدولة في المقام الأول ومنظمات المجتمع المدني في المقام الثاني.

ففيما يخص الدولة، يتعلق الأمر بضرورة إرساء نظام قانوني يضمن بشكل واضح حق الجمعيات في تأمين التمويل الضروري لنشاطها وذلك بما يراعي التوصيات التي أوردناها في سياق هذا التقرير. ونوجه الحكومة والبرلمان المغربيين لجعل مسار اعتماد مدونة المجتمع المدني فرصة حقيقية من أجل تبني مواءمة القوانين المغربية في مجال الجمعيات مع القوانين والمعايير الدولية تماشيا مع مقتضيات دستور المملكة. أما منظمات المجتمع المدني من جهتها فهي مدعوة لاعتماد معايير الشفافية تبديدا لأية مخاوف وجيهة كالتي أشرنا إليها في سياق هذا التقرير من جهة، لتكثيف جهودها في إطار القوانين من أجل الدفاع عن الحقوق والمساهمة الفاعلة في بناء المجتمع ديمقراطيا واجتماعيا من جهة ثانية.


[1] المندوبية السامية للتخطيط؛ البحث الوطني حول المؤسسات غير الهادفة للربح سنة المرجع 2007): النتائج الرئيسية، ص: 6.\
[2] الدفاع عن المجتمع المدني، ص: 30.\
[3] تكشف إحصاءات الوزارة المكلفة بالعلاقات مع البرلمان ومع المجتمع المدني أن نسبة الجمعيات التي تمسك محاسبتها وفق القانون لا يتعدى 5,3 بالمائة، كما أن تقرير الأمين العام المشار إليه سابقا يظهر عدم الالتزام التام من طرف الجمعيات بالتصريح بالأموال التي تتلقاها من جهات أجنبية.\