لقد أحدث القرآن الكريم، بما يمتلكه من خصائص وأسس تربوية ربانية، تغييرا جذريا في من آمن به واستجاب له، وقضية تغيير الإنسان قضية معقدة لتعدد جوانب النفس الإنسانية، والقرآن خاطب روح الإنسان وعقله وجسده، كما تناوله في بعده الفردي وفي بعده الجماعي، فكان تغييره تغييرا شاملا وجذريا وفريدا، وهذا التغيير سنعيش بعض ملامحه مع نماذج من شباب الصحابة.
إن اختيار الشباب نموذجا راجع إلى كون هذه المرحلة مرحلة شدة وقوة وعطاء، وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم باغتنام هذه الفترة قبل انصرامها 1، فالشباب قوة بين ضعفَيْن؛ ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة، كما أنه قلب الأمة النابض، وسر نهضتها، وأمل مستقبلها، ولقد اُختلف في تحديد بداية هذه المرحلة وانتهائها سواء عند أهل اللغة أو علماء النفس اختلافا واسعا، وبالجمع بين أصل الكلمة في اللغة وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ [الأحقاف: 15]، يُرجَّح الرأي الذي يقول أنها تمتد من البلوع إلى الأربعين، فالأصل اللغوي “ش. ب. ب” يدل على النماء والقوة 2، وسن الأربعين في الآية يدل على استواء النضج وكماله.
ونتحدث عن التربية القرآنية في شخص المربي المعلم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [الجمعة: 2]، وهي تربية قرآنية بما هي “تنمية وتقويم وإعادة صياغة الهوية الإنسانية وفق النموذج الرباني رجوعًا بها إلى الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والتي وقع لها انتكاس وارتكاس بفعل فاعل” 3، وهنا تكمن معجزة القرآن الكبرى أي في صناعة الإنسان وإعادة صياغة شخصيته؛ فشتان بين الرجل قبل إسلامه وبعد إسلامه؛ فبعد إسلامه، سرت فيه روح الإيمان ونوره فاستعاد إنسانيته وكرامته فتجلى ذلك في سلوكه..
ونستلهم أثر المنهج القرآني في تربية أتباعه عند الجيل الأول من شباب الصحابة الذين رباهم الرسول عليه السلام وعلمهم تحت كنفه، فقد “كانوا نتاج تربية وتمحيص واختبار على محك الأحداث العسيرة” 4. فهم القدوة الحسنة التي صاغها القرآن خلقا آخر، وعنهم يقول عبد الله بن مسعود: «أولئك أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضل هذه الأمة: أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم» 5.
ولكي نعرف حجم الأثر القرآني، نترك شابًا من شباب الصحابة يحكي عن هذا التغيير الذي طرأ بعد اتباعه لهدي القرآن، يقول سيدنا جعفر بن أبي طالب مخاطبا النجاشي وهو يصور الحالة الخلقية التي كانوا عليها قبل إسلامهم: «أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه… فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه… فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا، وفتنونا عن ديننا…” 6. والحديث كاملاً ترويه كتب السيرة.
إذن فالأثر كان على مستويات عدة؛ مستويات مترابطة فيما بينها يصب بعضُها في بعض، نجملها في أثرين؛ أثر على مستوى القلب الذي إذا صلح صلحت باقي الأعضاء، وأثر على مستوى السلوك، فالقرآن – كما قال محمد إقبال: “ليس بكتاب فحسب – إنه أكثر من ذلك، إذا دخل القلب تغير الإنسان وإذا تغير الإنسان تغير العالم” 7.
1. الأثر القلبي: الإيمان بالله
كان الإيمان أول أثر تركه القرآن في نفوس شباب الصحابة، فكان أساس كل تغير في حياتهم؛ إذ ترسخَّت في قلوبهم وحدانية الخالق جل وعلا، وترسخت عندهم حقيقة البعث والنشور والجزاء والجنة والنار، ولو تتبعنا مصادر السيرة لوجدنا أن جل من آمن برسالته صلى الله عليه وسلم واتبعه في بداية دعوته كان من الشباب على اختلاف في تحديد أعمارهم، فأبو بكر الصديق أسلم وهو في السابعة والثلاثين من عمره، والفاروق عمر بن الخطاب لم يتجاوز عمره السابعة والعشرين عند اعتناقه للإسلام، وعثمان بن عفان ناهز الرابعة والثلاثين عاما، وهؤلاء كانوا من كبار الصحابة، فكيف بصغار الصحابة، فعلي بن أبي طالب لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره عند إسلامه، وأسلمت أسماء بنت أبي بكر وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وأسلم الزبير بن العوام وعمره ستة عشر عامًا، وأسلم سعيد بن أبي وقاص وهو في السابعة عشرة من عمره، كما أن الأرقم أسلم وعمره أحد عشر عامًا وفتح داره لتكون معقل الدعوة ومحضن التربية، فيها يتزود الشباب بما يزيدهم إيمانًا ومعرفة بخالقهم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يلتقي بهم هناك، ويتلو عليهم ما نزل من القرآن الكريم، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويفقههم في الدين، كما كان يغرس فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم لمواجهة عداوة كفار قريش وأذاهم، رضي الله عنهم جميعًا، فهم من قامت على أكتافهم الدعوة الإسلامية وبلغت مشارق الأرض ومغاربها.
ومن الآثار التي أحدثها القرآن في نفوس الشباب الرقة والخشية. ومن ذلك ما ترويه كتب السيرة أن عبد الله، وهو من الذين حفظوا القرآن الكريم وقرؤوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قرأ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] بكى حتى يغلبه البكاء 8، وما هذا إلا دليل على رقَّة القلب وانكساره لخالقه، وكان يقول: “لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار” 9، وقد جمع بينهما، أي بين البكاء من خشية الله والإنفاق في سبيل الله وبذل أحب الأموال إليه. وأكيد أن هذا الأثر كان نتيجة إيمان رسخ في القلب وتدبر لآي القرآن، والنماذج كثيرة تظهر هذا التفاعل الوجداني القلبي مع القرآن.
2. الأثر السلوكي
إن الإيمان هو الوقود الذي يولد الطاقة الدافعة للقيام بالأوامر واجتناب النواهي، وهذا ينقلنا للحديث عن الأثر السلوكي؛ فلقد ترجم شباب الصحابة إيمانهم عملاً صالحًا، ويصعب في هذه الورقة استقصاؤه، ولكن نشير إلى بعضه:
– التبليغ عن الله ورسوله
منذ بداية الدعوة السرية، كان الصحابة يجتمعون في دار الأرقم للحديث عن أمر الدعوة وعمن سيدعونه، فلم يكن خلاصهم فرديا بل كانوا حريصين على تبليغ رسالة التوحيد إلى من هم تحت مسؤوليتهم. وكمثال نذكر سعد بن معاذ سيد الأوس، بايع النبي وسلم بيعة العقبة الثانية، أسلم على يد مصعب بن عمير، ولم يتجاوز عمره السابعة والثلاثين، ومع أنه قضى في الإسلام بضعة أعوام، لكنه وصل بمواقفه إلى درجة أن “يهتز عرش الرحمن لموته” 10. وعنه قال الحبيب صلى الله عليه وسلم: “كل البواكي يكذبن إلا أم سعد 11. وفي هذا إشارة إلى عظيم مناقبه وجميل خصاله.
فقد كان من أوائل من أسلم من أهل المدينة، وكان سيدًا عظيما في قومه، قال ابن إسحاق: “لما أسلم، وقف على قومه فقال: “يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟” قالوا: “سيدنا وأفضلنا رأيًا”. قال: “فإن كلامكم علي حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله”. قال: “فوالله ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا” 12؛ مما يُبين عن حرصه وحكمته في تبليغ الرسالة وكيف أنه كان سببًا في إسلام قومه، وهذا فيض من غيض مناقبه العظيمة التي طبعت شخصيته بعد إسلامه.
لم يقتصر أمر الوعي بمسؤولية تبليغ دعوة التوحيد والقيام بها على مستوى العشيرة والأهل، بل تجاوزها إلى حمل هم الإنسانية، فقد اعتبر هؤلاء الشباب أنفسهم أمناء على حمل رسالة تحرير الإنسان من الخضوع لغير الله إلى الخضوع لله وحده؛ ونموذج ربعي بن عامر مع رستم قائد الفرس خير دليل على ذلك، يذكر ابن كثير في “البداية والنهاية” تفاصيل اللقاء، إذ انطلق ربعي وقد كان في الثلاثين من عمره إلى رستم قائد الفرس مفاوضا، “بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط” في رسالة تحمل الكثير من المعاني، فيقول قولته التاريخية: “الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه” 13.
وإذا تأملنا كلام ربعي بن عامر، وجدناه كلامًا يدل على فهم دقيق لمهمة المسلم في هذه الحياة، فقد عبر بكلمات “تنم عن درجة الاقتناع الإيماني، وعن درجة الوعي العقلي، وعن درجة التصميم الجهادي” 14، فقوله: “ابتعثنا الله”، تدل على أنه قد كُلفنا كما كُلف الرسل بالدعوة إلى الله، وأنها أمانة يحملها كل مسلم إلى يوم القيامة. “والمستضعفون في الأرض تحت ظلم الجاهلية العصارة وضيقها واستعبادها ينظرون حملة الرسالة ليحرروهم ويبدوا لهم كرامتهم الإنسانية” 15.
– إيثار الآخرة على الدنيا
ومن الأثر السلوكي الذي اتسم به شباب الصحابة؛ إيثار الآخرة على الدنيا، وما الهجرة والنصرة والجهاد في سبيل الله إلا من تجليات هذا الإيثار، فقد خرجوا من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة. ومن نماذج الشباب الذين باعوا الدنيا بالآخرة مصعب بن عمير رضي الله عنه، ذلك الشاب الذي تعود حياة الرفاهية والترف؛ فقد كانت أمه غنية، وكانت تغدق عليه بملذات العيش من مكة ومن خارجها.
ولما أسلم هذا الشاب، حصل له تحول عظيم في كيانه، إذ تحول من ذاك الشاب المترف المنَعم إلى شاب تقي صلب الشكيمة قوي العزيمة، فقد حرمته أمه من كل ملذات الدنيا وزينتها التي كانت تأتي له بها حتى يتخلى عن دينه، لكن مصعبًا صمد أمام هذا الحرمان بعد أن عاش حلاوة الإيمان والدعوة إلى الله والهجرة إليه، إذ هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية، ثم ذهب إلى المدينة المنورة ليكون سببا في إسلام الكثير من أهلها، وجاهد في سبيل الله، فكان حامل لواء المسلمين في أحد، فقاتل حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه.
لقد خرج مصعب بن عمير من حب الدنيا الزائلة والانغماس في ملذاتها إلى سعة الآخرة والإقبال على نعيمها الدائم، ويكفيه فخرا ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه؛ فعن الزبير رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا بقباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير رضي الله عنه عليه بردة ما تكاد تواريه، ونكس القوم، فجاء فسلم فردوا عليه، فقال فيه النبي – صلى الله عليه وسلم – خيرا وأثنى عليه، ثم قال: “لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله، ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضات الله ونصرة رسوله…” 16، ويصف سعد بن أبي وقاص معاناته بعد إدباره عن الدنيا وملذاتها وإقباله على الآخرة ونعمائها: “كان مصعب بن عمير أنعم غلام بمكة، وأجوده حلة مع أبويه، لقد رأيته جهد في الإسلام جهداً شديداً حتى قد رأيت جلده يتحشف (أي ينقبض ويتقلص) كما يتحشف جلد الحية” 17.
ولم تكن الفتاة بمنأى عن هذا التغيير، فقد “خرقت أم هانئ بنت عقبة بن أبي مُعَيط ورفيقاتها في الهجرة موانع التكتل مع العشيرة، ونصرة دين آبائها، والوفاء لذكرى أبيها. كان داعي الإيمان في تلك القلوب التي كشف الله عنها غمة الجاهلية أقوى من المثبطات” 18، فقد نشأت في أسرة شديدة الكره للإسلام ورسول الله ﷺ، إذ كان إخوتها عمارة والوليد وخالد يؤذون النبي ﷺ، ويكنون له العداء الشديد، ولكن وسط هذا العداء اهتدى قلبها للإسلام فآمنت وبدأت في التفكير في الهجرة إلى المدينة خوفا من أن يفتضح أمر إسلامها خصوصا بعد مقتل أبيها في بدر وازدياد كراهية إخوتها للمسلمين.
هاجرت وهي فتاة يافعة، بعد صلح الحديبية «مع مؤمنات هاجرن إلى الله ورسوله، خارجاتٍ من ملة الشرك، في أحلك الظروف بعد صلح الحديبية. منهن، كما قال ابن حجر، أميمة بنت بِشْر، وسُبيعة بنت الحارث، وبَرْوَع بنت عقبة، وعبدة بنت عبد العزيز. تركن الأزواج والأهل والديار” 19، بهذا تكون الشواب من الصحابيات قد انتقلن بإسلامهن من حب الدنيا إلى طلب الآخرة بإرادة وهمة لا تقل عن همة شباب الصحابة.
ويعد الإنفاق في سبيل الله معلم من معالم إيثار الآخرة عن الدنيا، وهو شرط أساسي في كمال الإيمان، بل في وجوده، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تعرف المؤمنين تعريفاً حصرياً؛ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ، وتذكر الإنفاق باعتباره صفة من صفاتهم، كما أن آيات الجهاد قرنت بين جهاد المال والنفس؛ فيتكرر قوله تعالى: جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ، وقد جعل الله الفلاح ونيل البر في الإنفاق من أحب الأموال، يقول سبحانه وتعالى: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران: 9].
ومن النماذج التي استجابت لنداء الإنفاق في سبيل الله، وأي إنفاق هو، إنه إنفاق من أحب الأموال إلى النفس، الصحابي الجليل أبو طلحة، الذي كان أكثر الناس مالا بالمدينة؛ فقد قال: “يا رسول الله إن الله يقول لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي بيرحاء (بستان له) وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت…” 20.
ومن أروع الأمثلة التي خلدها القرآن بآيات تتلى إلى قيام الساعة؛ تسابق شباب الأنصار وتنافسهم في تقاسم ما يملكون، ولو عن خصاصة، مع إخوانهم المهاجرين الذين تركوا الأموال والديار يبتغون فضلا من الله ورضوانا. ونماذج الإيثار من شباب الصحابة فتياناً وفتيات متعددة يضيق المقام عن حصرها، وتجلياتها متنوعة، سمتها العامة طلب وجه الله، وإيثار ما عنده وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرته اتباعا وتأسيا وفداء بالنفس والمال والأهل.
– الإقبال على العلم خدمة للدين
لقد أدرك الصحابة أن الجهاد ليس مشهداً واحداً وأن قتال العدو هو مجال من مجالاته، وتروي لنا كتب السيرة أن زيدا بن ثابت لما أراد الجهاد مع رسول الله في بدر وأحد رده لصغر سنه، فتوجه إلى العلم لخدمة دينه وأمته، فعكف على كتاب الله سبحانه وتعالى حفظاً وتعلماً، لما حباه الله من ملكة الحفظ والقدرة على التعلم.
يحكي زيد عن نفسه فيقول: “أُتي بي النبي -صلى الله عليه وسلم-مقدمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أنزل عليك سبع عشرة سورة. فقرأت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأعجبه ذلك، وقال: يا زيد، تعلم لي كتاب يهود؛ فإني والله ما آمنهم على كتابي. قال: فتعلمته. فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، وكنت أكتب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كتب إليهم” 21، لقد عرض الأهل كفاءات الشاب ومهاراته ووظفها رسول الله فيما ينفع الإسلام.
لازم زيد بن ثابت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ عنه ما ينزل من كتاب الله عز وجل وجعله صلى الله عليه وسلم من كتبة الوحي، كما كانت له الصدارة في جمع القرآن في عهد أبي بكر وكذلك نسخ عدة نسخ زمن عثمان بن عفان رضي الله عنهم جميعا، وقد أثنى عليه حبر الأمة ابن عباس قائلا: “لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم” 22.
إن المدرسة القرآنية التي تخرّج فيها هؤلاء الشباب على سيّد الخلق الذي كان قرآنا يمشى على الأرض ما تزال مفتوحة، والطريق الذي مشوا فيه ما زال مشتعلا مضيئا، وقد سار على غرارهم التابعون، وأغلبهم شباب، في التأسي بالرعيل الأول، فكان منهم العلماء العاملون المجاهدون. والشباب المسلم في كل جيل استفاد من تلك المصادر التي شكلت الشعلة الإيمانية في النفوس ونموذج التربية الصالحة في السلوك، ولا يزال يهتدي بتلك النجوم، فقد رأينا شباب المقاومة يسردون القرآن غيبًا ويتمثلونه سلوكا وأخلاقا، شهد بها العدو والقريب.
إن هذا القرآن يستطيع بفضل الله أن يصنع كثيرا من النماذج التي تحمل همّ هذا الدين، وهذا الصنع لن يتوقف إلى يوم القيامة، متى توفرت شروطه وأسبابه.
[2] يقول ابن فارس: “(شب) الشين والياء أصل واحد يدل على نماء الشيء، وقوته”، انظر: مقاييس اللغة، 3/177.
[3] حوارات مع الإمام عبد السلام ياسين، ص: 208.
[4] الإسلام والقومية العلمانية، عبد السلام ياسين، ص: 107.
[5] جامع الأصول في أحاديث الرسول، مجد الدين اين الأثير، كتاب: في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: في الاستمساك بهما، رقم: 80.
[6] السيرة النبوية، ابن هشام: 1/ 336.
[7] روائع إقبال، أبو الحسن الندوي، ص: 158.
[8] سير أعلام النبلاء، الذهبي، 3/ 212.
[9] المدخل، ابن الحاج، 3/160.
[10] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ” حديث متفق عليه: أخرجه البخاري (3803)، ومسلم (2466).
[11] “فضائل الصحابة، أحمد ابن حنبل، فضائل سعد بن معاذ رحمه الله، رقم الحديث: 1489.
[12] السيرة النبوية، ابن هشام، 1/ 437.
[13] البداية والنهاية، ابن كثير، 9/ 622.
[14] الإسلام والقومية العلمانية، عبد السلام ياسين، ص: 226.
[15] القرآن والنبوة، عبد السلام ياسين، ص: 62.
[16] المستدرك على الصحيحين، الحاكم، كتاب الإيمان، باب ذكر مصعب بن عمير-رضي الله عنه، رقم 6640.
[17] أسد الغابة في معرفة الصحابة ابن الأثير، 5/ 182.
[18] تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، 1/ 267.
[19] تنوير المؤمنات، 2/313.
[20] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، ابن عبد البر، 1/ 198.
[21] سير أعلام النبلاء، 2/ 429.
[22] معجم الصحابة، أبو القاسم البغوي، 2/ 471.