ما تتخبط فيه الأمة في وقتنا الحالي من هوان وتخلف هو نتيجة تراكمات تاريخية طويلة، يمكن العودة به بعيدا إلى اللحظة التي أسسها سياسيا بنو أمية واستكملها بنو العباس، بالإضافة إلى تعدد المذاهب والاتجاهات والاجتهادات التي اتخذت في غالب الأحيان طابع التعصب، فأدت في كثير من الأحيان إلى الاقتتال والتطاحن.
ما زاد الطين بلة، أن هذه المرحلة طال أمدها على أمة، وأثناءها غابت الشورى والعدل، وسيطر الظلم والحيف، ولكن للأسف نجد أغلب علماء الأمة اعتبروها فترة “خلافة”.
هذه المفارقة هي التي دفعت ثلة من العلماء في العصر الحديث على إعادة تقييم المرحلة، وتشكيل موقف يتناسب ومبادئ الشرع الحنيف، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ عبد السلام ياسين، رحمه الله، فهو ينتقد جنوح بعض سلفنا الصالح، الذين عاشوا داخل سياج محكم ومحكوم، من العض والجبر، لم يفلت من قبضتهما إلا نزْر من العلم لم يجمعه مشروع متكامل. لكنه كان واعيا بأن الحديث الأصيل المستقل عن الحكم والحاكم كان شبه مستحيل في ذلك الوقت؛ لأن السيف كانت له الكلمة العليا.
مما تميز به تصور الأستاذ رحمه الله هو كيفية تعامله وتعاطيه مع هذه الفترة الحساسة من تاريخنا بقلب مطمئن، لكن بعين فاحصة، رؤية لا تلغي التاريخ ولا تمنح الواقع عذر وتبريرا.
انسجاما مع ما سبق، وبعيدا عن سرد الأحداث حتى لا تطغى على التحليل والتفسير الذي يفرض علينا النظر من شرفة التاريخ، والذي لا يعني الاستعلاء، بل العكس من ذلك فهو المكان المناسب والسليم لمعاينة الأحداث أو صناعة أخرى، إذا صرنا تلامذة في مدرسة أستاذها رسول الله صلى الله عليه و سلم، الناصح الأمين، حيث العقل يتشرب والقلب يتذوق مما يترجم إلى سلوك يتجدد، يجدد تاريخ الجهاد، فإننا نطرح أسئلة مشروعة، تستوجب وقفة عنوانها، أدب مع ما يقتضيه ناموس الله في كونه، بعد سرد مجموعة من الأحاديث التي تقضي بالسمع والطاعة لأولي الأمر مهما طغى وتجبر، بالإضافة إلى أحاديث تبشر بما سيقع في مستقبل الأمة، هنا بيت القصيد ما يستدعي الوقوف، ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد عن المنطق والاعتبارات الفوقية، لنقف ونتساءل عن تلكم الوصايا الآمرة الناهية، المدعاة لـ”الحيرة” في نفس الآن، المؤكدة على الشورى والعدل، وفي موضع آخر بالسمع والطاعة للحاكم مهما استبد ومهما ظلم ومهما فسق، قال تعالى: ما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
اقتضت حكمة الله أن تكون هناك فتن، وكل ذلك في علم الله الذي لا تخفى عليه خفية، وأن قضاء الله لا يرد، فقدر الله تعالى الحكيم لقضائه الأزلي لا يتنافى مع ما أثبته الشرع، وما تعطيه الملاحظة من كسب العباد، ومن حريتهم في الاختيار. هنا بعض الناس من المسلمين باتوا رهينة الحقيقة الأموية وأخذوا العذر لأنفسهم واستسلموا لأمر الواقع ولم يكن في مقدورهم اقتحام العقبة، فالأمة في انحدار مستمر، انتقضت أول عروة وهي الحكم ثم التي تليها… الأمة في موقع المتفرج الذي ينتظر، من استسلام إلى آخر، وهو ما ورّث الهوان لأمة كانت خير أمة أخرجت للناس. الأمر يحتاج إلى إحياء إرادة جهادية فينا، لا تقتصر على تشخيص المرض وإن كان مقدمة للعلاج، قراءة في التاريخ لاستخلاص الدروس من أجل مستقبل مستأنف.
لا مناص لأمة عاشت وما زالت تعيش ظلم الحاكم وقهر السيف المسلط من التعامل مع المرحلة بحكمة، ابتداء بالإيمان بالغيب، مرورا بوحدة دار الإسلام، هذان الشرطان والعمل عليهما ساهما في بناء علاقة الدعوة بالدولة في زمن النبوة، وبدونهما لا يمكن أن تقوم لنا قائمة، السؤال كيف يمكن للأمة وهي في انحدار شديد أن تقتحم العقبة الكؤود، وهي مثقلة بميراث العادات؟
مرحلة عصيبة، محنة حقيقية، هجرة الأوطان، تفشي السلبية والخمول، ونشأة القابلية للرضوخ والطاعة والقبول بالدون.
ويزداد القلب كمَدا وألما، حين يعلم أن هذه الأمة قد حباها الله بمقومات ومزايا، ولو استثمرتها كما ينبغي لكان حالها أفضل مما هو كائن، شرط أن تتحقق من مسؤوليتها تجاه نفسها والعالم، لأن التحقق شرط التجاوز، فتكون خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.