دعت الهيئة العامة للعمل النسائـي لجماعة العدل والإحسان لتنظيم حملة خلال شهر رمضان الأبرك، قصد إحياء معانـي التآزر والتواد والتعاضد والرعاية فـي الأسـر المغربية، والتـي يحث عليها ديننا الحنيف؛ تآزر وتراحم وتكارم هو من صميم موروثنا الثقافـي ومنظومتنا القيمية، يشكل فيه تنافس الأسـر المغربية علـى الخيرات، ومنها إعداد موائد للصائمين للعُزّب من الجيران، لا سيما فئة الطلبة الوافدين من مناطق آفاقية تسلية للاغتراب “الثقافـي” عـن الأهل والعائلة فـي شهـر له خصوصياته وأجواؤه التـي لا تستقيم إلا بالتئام أفراد الأسـرة علـى مائدة الإفطار.
انخراطا فـي هذه المبادرة التربوية المباركة، أتقاسم والقراء الكرام تجربة حـي الرُّميْلة فـي تنظيم الإفطارات الجماعـية للطلبة المعلمين (التسمية القديمة) الذين يكْتَـرون بيوتا بالحـي بحكم قربه من مركز التكوين. والرُّميْلة فـي بنـي ملال حـي شعبـي بالمعنـى الراقـي للكلمة، وأغلب سكانه مقيمون فيه منذ عقود، وربما كنت ومجموعة من جيلـي من الموظفين من الوافدين علـى هذا الحـي، فـي بداية تسعينيات القرن الماضـي، حيث اندمجنا بيُسـر وسلاسة فـي أجوائه الاجتماعية: تواصل ومواساة، خدمات متبادلة وتعاون فـي المناسبات الاجتماعية، إلــى درجة أن أصحاب المناسبة فرحا كانت أو تَـرَحاً يُصبحون أشبه بالضيوف؛ تعاونٌ يُحيل علـى “التويزة أو تيويزا”، وهـي موروث ثقافـي أمازيغـي، حيث تتعاون الجماعة من الناس فـي القرى والمداشـر علـى إنجاز أوراش خيرية أو أعمال زراعية كالحرث وجنـي المحاصيل.
فـي هذا الحـي، وقبيل حلول شهـر رمضان، كما فـي الأعياد الدينية تتعاون النساء علـى إعداد حلويات المناسبات (الشبّاكية نموذجا)؛ فكانت نسوة الحــي تحط الرحال كل يوم فـي بيت، حيث تنحصـر مهمة صاحبة البيت فـي توفير الحاجيات المطلوبة وإعداد الشاي للفريق الـذي يقوم بجميع الأشغال من إعداد بمختلف مراحله إلـى تنظيف الأوانـي وإعادة ترتيب البيت، فـي أجواء من الابتهاج والحبور، قبل أن تتصحّــر الأحياء من هذ المشاعر، ويُهيمن أسلوب اقتناء كل حاجيات الأسرة جاهزا، ربما دون عناء، وربما بجودة أحسن، وربما بكلفة أقل، لكن مع جفاف عاطفـي لا تشَمّ فـيه نكهة تضامن/”تويزة”، ولا بصمة جارة.
فـي حـي الرميلة، وخلال شهر رمضان دأب أهله علـى تنظيم إفطارات جماعية لفائدة الطلبة الوافدين من مناطق مختلفة، حيث يوزعون فـي مجموعات علـى بيوت الحــي خلال أيام الدراسة فـي الأسبوع، وما أروع مشهد قفُول الطلبة من المسجد بعد صلاة المغرب جماعات وهم يتوجهون إلـى البيوت حيث الأبواب مُشْـرعة لإكرام مضاعف، إكرام وافدين من مناطق بعيدة هم فـي حكم أبناء السبيل، وإكرام طلبة العلم، تحت ظلال قوله تعالـى: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً [الإنسان: 9].
ومثلما تعاونت نسوة الحـي فـي إعداد الحاجيات الرمضانية المشتركة، تتعاون فـي إعداد الإفطارات الجماعية، فلا تنصرفـن لبيوتهن إلا قبيل المغرب، فتعُم بركات هذه الإفطارات توطيدا للعلاقات، وبركة فـي الأرزاق، وعافية فـي الأبدان، وصلاحا فـي الأبناء، وثوابا عظيما يُثقِل الميزان تصديقا للبشارة النبوية الكريمة عـن فضل شهر رمضان ومُعامِـل الطاعات والقربات فيه: “من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شـيء…” [حديثٌ حسنٌ صحيحٌ].
إفطارات جماعية الله أعلم بوقعها فـي نفوس وافدين مغتربين، والله أعلم بأجورها، فالطاعات تعظم ثوابا بمقدار صلاح النيات، من جهة، وبمقدار حجم الاحتياج والاضطرار إليها، من جهة ثانية. يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: “رُبَّ عمل صغير تُعظّمه النية، ورُبَّ عمل كبير تُصغّره النية”؛ إفطاراتٌ هـي من صميم أساسيات ديننا الحنيف، استحالت مواسمَ أنوار وبركات أسهمت فـي توفير بيئة إيمانية تعقِّم حياة الناس – والجيران تحديدا – من علل التنافـر والتباغض والتحاسد، فيتعاونون علـى البر والتقوى ويكونون عباداً لله إخوانا.
رحم الله أموات حـي الرميلة العريق بنسائه ورجاله، وأجزل لهم العطاء، وبارك فـي الأحياء منهم، وأصلح لهم الذرية، وبارك لهم فـي الأعمار والأعمال، وتقبل منهم ما رسخوا من مبادرات خير وإحسان، وكتبها الله لهم صدقاتٍ جاريةً يفرحون بثوابها يوم الدين.
والحمد لله رب العالمين.