من التفكير الاستراتيجي إلى التفكير المصيري أو من سياق الانكسار والاستعمار إلى سياق القوة والاستقلال 2/2

Cover Image for من التفكير الاستراتيجي إلى التفكير المصيري
أو من سياق الانكسار والاستعمار إلى سياق القوة والاستقلال 2/2
نشر بتاريخ

الفصل الثاني: التفكير المصيري وسياقه

المبحث الأول: ماهية التفكير المصيري

تتشكل ماهية التفكير المصيري في التجربة الغربية من خلال معنى التوسع والاستعمار والهيمنة والقوة التي تعني العنف، ولذلك تتحرك أنظمة التفكير ضمن السياق الغربي لأجل توظيف كل الإمكانات المتاحة لتحقيق الغاية من هذه المعاني؛ وهي ترسيخ التصور الغربي لمعنى الإنسان والوجود والعلاقات كما تتصوره الحضارة الغربية التي لم تفرز إلا واقع العنف الشامل في العلاقات الإنسانية والدولية. ورغم هذا تبقى صرخة سؤال المعنى حاضرة عند كثير من مفكري الغرب المستقلين الذين لا تعيرهم الآلة الإعلامية الغربية إلا ناذر الاهتمام، وهم ضمير الغرب الصامت الذي لن يكون له المعنى الكبير إلا حينما يبني نظام التفكير المصيري الإسلامي قواعده العلمية والعملية المؤهلة للمخاطبة القوية للعالمين ويقترح مشاريعه الكبرى في أنظمة التفكير وقواعدها وفي الأنظمة السياسية والمجتمعية والدولية والعالمية.

أما في التجربة الإسلامية فماهية التفكير المصيري مرتبطة ارتباطا كليا ووجوديا بالوحي: ولذلك فهي مرتبطة بعلم الغاية الذي موضوعه القرآن والنبوة، وليس بعلم الأصول كما أبدعه الإمام الشافعي، ولا بعلم المقاصد كما أثله الشاطبي ومن بعده، ولا بعلم الأهداف كما يدققه الفقيه عند تنظيمه لأحكام الشريعة وتنزيلها.

فعلم الأهداف يرتبط بدرجة الإسلام حيث يوظف الفقيه المنهجية الأصولية لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، ليجيب عن سؤال الفتوى الآني، أو حينما يحتاج إلى ترتيب الأحكام حتى تثمر حركتها الواقعية الانسجام الحركي اليومي في المجتمع.

أما علم المقاصد فيرتبط بدرجة الإيمان لأنه يبحث في علل الشريعة التي ينبغي أن تحققها حركة جماعة المؤمنين، ولذلك، فسواء سميت بمقاصد الشريعة أو حكم الشريعة أو عللها فإن ارتباطها بدرجة الإيمان يدقق سقفها العلمي والعملي ويحدده في إطار مفهوم الجماعة من حيث هي ولاية خاصة أو عامة بين كل مكونات الأمة.

أما علم الغاية فإنه يرتبط بدرجة الإحسان بمعناه الشامل، ونظرا لأن أنظمة التفكير السائدة لم تنطلق من موقع درجة الإحسان حُجبت عنها النظرة الشمولية العلمية والعملية، فكرست واقع العجز الكبير في التصدي للأزمات التي تضرب حياة الأمة والإنسانية. وهو ما جعلها عاجزة عن صناعة القوة المجتمعية القادرة على بناء العمليات التاريخية الكبرى وقيادة مراحل إنجازها.

فارتباط التفكير المصيري بعلم الغاية (الغاية الإحسانية) يجعل أنظمة التفكير منتظمة ومتكاملة في جميع مستوياته (مستوى الأهداف (الفقه)، مستوى المقاصد، مستوى الغاية)، وهو ما سينقل استعمال المنهجية الأصولية التقليدية من سياق إلى سياق حيث ستأخذ معنى آخر وحيوية متجددة؛ حيث سيتحدد موقعها الفرعي في نظام التفكير دون أن تكون هي صانعته، لأن صانعه الحقيقي هو علم الغاية (نموذج التفكير عند الصحابة الكرام).

وبهذا يظهر أن استيراد نظام التفكير الاستراتيجي كبديل عن التفكير الأصولي والفقهي واعتماده في سياق غير سياقه كمثل الحاكم الذي فاجأه شكل الدراجة الهوائية عند أول ظهور لها عند الغرب الذي اكتشفها واستعملها لأغراض قاصدة، لكن عند هذا الحاكم كانت أفضل ما يمكن أن يكون أداة للتسلي بالنسبة إليه داخل القصر.

فعلم الغاية يفكك جملة وتفصيلا أنظمة التفكير السائدة؛ سواء ارتبطت بالمناهج التقليدية أو بالمناهج الواردة من الغرب، ويركب قواعد جديدة منتظمة وناظمة لكل عمليات التفكير الكلية والجزئية، الأصلية والفرعية.

نعم، يمكن أن يشتغل نظام التفكير من خلال علم الغاية مجزءا، لكنه لا يبني بناء متكاملا وقد يكون مجرد إشراقات فكرية هامة، كنموذج الدكتور طه عبد الرحمان، لأن الشق الآخر من موضوع علم الغاية يكتنفه غموض كثيف عند الرجل على الرغم من وعيه الحاد به؛ ألا وهو قضية المستضعفين، أي قضية العدل في الأرض، ذلك أن حركة الوحي جامعة بين مصيرين؛ مصير الفرد عند الله تعالى ومصير الإنسانية الذي ارتبط واقعيا بمصير الأمة المأمورة من خلال الوحي بخدمة المستضعفين.

كما لايخلو التفكير الذي يشتغل على قضية العدل الإنساني بعيدا عن وضوح معنى الغاية الإحسانية الفردية من الغموض والاضطراب، وهو واقع أغلب المفكرين الإسلاميين.

فأن يبنى نظام التفكير ويؤثل مفاهيمه مشتغلا على ركن المصير الفردي عند الله تعالى مع وجود غموض شديد في تعامله مع ركن خدمة المستضعفين أو يشتغل على ركن العدل دون ركن المصير الفردي، لا يجعله عامل بناء تاريخي، ومن ثمة لن يكون مشروعا متكاملا، لأن الوحي لم يفصل بين المصيرين إلا من حيث بيان أن الركن الثاني مبني على الركن الأول وأن الارتباط بين الركنين ارتباط مصيري. وقد كان نموذج ذلك الجهاد النبوي زمن النبوة والخلافة الأولى.

إن انتظام ركني علم الغاية في التفكير المصيري، ركن مصير الفرد عند الله تعالى، وركن مصير المستضعفين في تدافعهم المرير مع المستكبرين المتسلطين على رقابهم وخيراتهم والعابثين في الأرض فسادا وإفسادا، يجعل كل عمليات التفكير بنائية وقاصدة وغائية.

ولذلك كان مضمون التفكير المصيري هو الرحمة ووسيلة قيامه هي القوة، لأن الرحمة هي ما يمنع القوة من أن تتحول إلى عنف مهما كانت الظروف، ويجعل القوة خادمة للرحمة حتى تشع على العالمين، وهو الأمر الذي يكشف عما يربط بين الركنين، إذ ما يربط بينهما علميا وعمليا هو معنى الجماعة ومعنى الأمة، مما يدل على أن من مقتضيات التفكير المصيري بناء تفكير سياسي جديد وفكر سياسي جديد ينظم عمليات التدافع في كل المراحل والمجالات والمستويات ويبدع الأنظمة المجتمعية والسياسية القادرة على تحقيق مضامينه في العدل والحرية والكرامة.

المبحث الثاني: سياق التفكير المصيري

مما سبق يتبين أن التفكير المصيري يرتكز على منظومة قيم سامية وعادلة وعلى خدمة المستضعفين خدمة شاملة وفق قواعد الرحمة والقوة ووسائلهما. لذك لن يتحقق التفكير المصيري إلا في سياق تجديدي ينتج تغييرا جذريا يحقق تحررا شاملا.

هذا السياق من حيث معناه القيمي مرتبط بمضمون الوحي، قرآنا ونبوة، ككلية جامعة متحركة في الواقع العام عاملة على تغييره من خلال دفع كل كليات وجزئيات الفساد والظلم الأصغر والأكبر وبانية لجزئياتها وفق تنزيل مقتضيات الرحمة العامة عبر حكمة التنزيل التي تقيم واقع القوة الشامل عبر مراحل يستطيع التفكير المصيري أن يدقق تدقيقا هائلا في تفاصيلها مهما كانت بعيدة زمانيا.

أما من حيث معناه التاريخي فهو تغيير وجه العالم عبر توجيه حركة التاريخ لتحقيق القطيعة مع تاريخ الانكسار وفعل الاستعمار، أي إنتاج سياق تاريخي جديد يجعل أفقا له بناء نظام عالمي خادم للمستضعفين ومحاصر لفعل المستكبرين؛ وهو أفق الخلافة الثانية على منهاج النبوة. لذلك لما كان نظام التفكير زمن النبوة والخلافة الراشدة من موقع السعي لبناء نظام حكم سياسي كبير، ثُم من خلال هذا النظام بعد قيامه، كانت النظرة شاملة ومتكاملة حتى حصل الانحراف مع انقلاب بني أمية على هذا النظام الكبير.

ولاشك أن إنتاج هذا السياق لن يتم من خلال قواعد تفكير مرتبطة بالانكسار التاريخي وآثاره والاستعمار ومقتضياته، بل من خلال نظام مرتب وفق جهاز مفهومي متكامل وبنائي يجتهد فيه الفكر في اللحظة كيت أو كيت والمرحلة كيت أو كيت من خلال قواعد علم الغاية الجامع.

وهو ما يعني أن التفكير المصيري مرتبط بوجود قيادة تاريخية عاملة تبني القوة المجتمعية الحاملة للمشروع التغييري حتى يتم الانتقال من سياق تاريخي إلى سياق تاريخي متجدد. وبما أنه انتقال غير يسير، فلن يتم دون وجود قيادة قادرة على معالجة كل تفاصيل التفكير من داخل سياق التخلف والاستعمار، ولها كل مؤهلات التحمل حتى تخرج بحركة المجتمع من واقع التقليد والتخلف إلى واقع البناء والاجتهاد والجهاد والبذل والعطاء، ولاشك أن هذا النموذج من العمل التاريخي سيكون منتوجا فكريا سياسيا وحركيا وتنظيميا وعلائقيا تواصليا جديدا.

إن القيادة التي لا تستطيع أن تعبئ السواد الأعظم من الأمة على مشروع التغيير والإصلاح العميق لن تكون لها القدرة على بناء مقدمات التحول التاريخي وفتح أفق حركة السياق الجديد، لأن هذا التحول ليس فعلا سياسيا لحظيا، بل عملا تاريخيا مجددا للفهم وبانيا للوعي والإرادة في أفق الجهاد الشامل، ولن يتم التحرك نحو هذا الأفق إلا إذا تحقق شرط تغيير الأنظمة السياسية والمجتمعية القائمة ضمن شروط التقليد والتخلف.

ولاشك أن أنظمة التفكير السائدة اليوم لن تستطيع أن تنجز هذه المهام، لأنها، ببساطة، هي جزء من الواقع ومن إنتاجه، بما فيها موضة التفكير الاستراتيجي وموضة التفكير المقاصدي السائد وموضة الفقه الدعوي والحركي الذي تتغنى به كثير من المنابر الإعلامية المتوفرة على المال الضخم، وموضة المراكز البحثية الساهرة على تتبع حركة المعطيات الجزئية ورصدها وقراءتها قراءة جزئية تنتهي فائدتها عند نهاية تحريرها على الورق أو عند استعمالها في خطاب سياسي لحظي.

وهكذا ندرك لماذا يجعل التفكير المصيري من أهدافه المباشرة بناء نظام سياسي كبير يسمح بتحقيق الموقع الطبيعي لإقامة نتائج هذا التفكير واقعيا ويوفر شروطه العملية.

وهو ما يجعلنا نقول: إن التفكير المصيري نتيجة “ثورة” علمية كبرى تؤسس لثورة عملية كبرى.

وفي الختام يحتاج الأمر إلى التذكير بأن ارتباط التفكير المصيري بعلم الغاية، الذي موضوعه القرآن والنبوة، يقتضي القول بأن قاعدة التفكير هي عملية التفكر القلبي بما أن القلب هو موطن القيم السامية التي تستمد من الوحي، مما يعني أن ماهية التحول التاريخي تتأسس على ماهية الثورة العلمية التي تعيد بناء نظام التفكير، وهذا الأخير يتأسس على ماهية التفاعل القلبي مع الوحي. وهذا موضوع هام لأنه مفتاح التفكير المصيري الذي يرتبط به مستقل الفرد والأمة والإنسانية، لأن حركة التاريخ الصحيح مرتبطة جوهريا بحركة القيم السامية، لذلك يعترف التفكير المصيري أنه ابن بار لحركة القلب في الوجود، وهو ما يجعله واضحا تمام الوضوح في الكشف على أن حركة التاريخ مرتبطة بحركة القلوب، وهو يعني أن التفكير المصيري على جلالة قدره ومهامه يعترف أنه آلة فرعية لآلة كلية هي القلب باعتباره موطن الوحي.

وبما أن هذا الموضوع خطير وبالغ الأهمية لابد من الرجوع إليه حتى تكتمل الصورة.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين.