إن تاريخ المسلمين الطويل بكل انتكاساته وإحباطاته أنتج واقعا مريرا ران فيه غبار فتنة القرون على كل ناصع أصيل، حتى لا نكاد نميز الخبيث من الطيب، ولا الغث من السمين. لكن هاته الأمة على موعد مع التاريخ، إن تضافرت جهود أبنائها وبناتها، تبني مجتمع العدل والكرامة والعمران الأخوي، وتنحي أنقاض ماضي الفتنة. نعم، “أبنائها وبناتها”، لأن من يتصور مسيرة تغيير وبناء وتجديد لا تسهم فيها النساء كما الرجال فهو يهدم أكثر مما يبني.
أقول هذا إيمانا مني بأنه لن يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به حال أولها، وأولها صلح بقمم شامخات من الصحابيات الجليلات ذوات الهمم العالية والجهاد الدائب، شاركن جنبا إلى جنب في مسيرة البناء الأولى مع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. لكننا إذا نظرنا إلى واقعنا لا نجد إلا مخلوقا مهزوما ساكنا يمر من الحياة كأن لم يمر منها، لا أثر له ولا بصمة. فما الذي حدث؟ كيف اندثر نموذج الصحابيات السامق؟ كيف انزوت المرأة إلى ركن الجهل والغفلة والذل والهوان؟ كيف وكيف وكيف؟
أسئلة تتطلب منا وقفات متأنية ومستبصرة، تحتاج منا استدعاء تاريخ المسلمين؛ نسائله ليس بغرض التجريح ولكن بغرض العلم المؤسس للعمل.
البشارة المفتاح
أبدأ بكلام خير البرية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لامس نوره كل جوانب حياتنا، حتى ما ترك شيئا إلا وله فيه صوى ومنارات لا يضل من اهتدى بها. يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت”. حديث عظيم يصف فيه من لا ينطق عن الهوى مخاضا مؤلما في تاريخ الأمة الإسلامية؛ يسفر عن الميلاد الثاني للخلافة الراشدة تطبب جراحات العض والجبر.
انتهت النبوة بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسى دعائم الشورى والعدل والإحسان، وسارت الخلافة الراشدة على النهج النبوي مرتكزة على الدعائم الثلاث، وما هي إلا عقود ثلاثة حتى أقبر السيف الخلافة الأولى!
بداية الانحدار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الخلافة ثلاثون سنة ثم تكون ملكا” [رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي]. وفعلا بعد ثلاثين سنة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال معاوية: “أنا آخر خليفة وأول ملك” (لم يكن خليفة ولكنه بالتأكيد كان أول ملك!). انتقضت عروة الحكم إذا، أقبرت الشورى لتحل محلها الوراثة تعض على الأمة ببيعة الإكراه، ذهب العدل وحل الاستبداد، رحل الإحسان حين استبدل الخوف من السيف بالخوف من الله، فبعدما كان المسلمون يسمعون من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الراشد يخاطبهم بقوله: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” علا المنبر من يقول لهم: “أما بعد فإني وليت أمركم حين وليته وأنا أعلم أنكم لا تسرون بولايتي ولا تحبونها، وإني لعالم بما في نفوسكم من ذلك، ولكني خالستكم بسيفي هذا مخالسة، وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فارضوا مني ببعضه” [البداية والنهاية، ج 8، ص 126].
كان صوت السيف هو الغالب، فكممت الأفواه وأسكتت الأصوات الناهية عن المنكر، حتى أصبحت تلقى الخطب والسيوف على رؤوس الخلق؛ فإما الرضا وإما مصير سيدنا حجر بن عدي وأصحابه بالمرصاد.
وهكذا غدت بدعة قطع الرؤوس سمة من سمات ملوك العض ومن بعدهم، حتى قال عبد الملك بن مروان من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة 75هـ: “إني لن أداوي أمراض هذه الأمة بغير السيف، والله لا يأمرني أحد بعد مقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه”.
والنتيجة؟… سكت علماء الأمة حفاظا على بيضة الإسلام ووحدة دار الإسلام، تلزمهم بعض الأحاديث على الصبر رغم كراهة ما يفعله العاضون.
فما علاقة كل هذا بالمرأة والحريم والقصور؟
لقد كان لهذه الشجة المردية في رأس الأمة، عظيم أثر على سوادها؛ رجالا ونساء، لكن أكثر من تضرر المرأة، التي مورس عليها ظلم مزدوج؛ ظلم عام هي أخت الرجل فيه وشريكته، ووجه آخر للظلم، ظلم أخيها الرجل، زوجا كان أو أبا، استنادا إلى تقاليد وأعراف وعقليات لا تمت إلى الدين والسنة بصلة.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: “انحطت المرأة المسلمة بانحطاط المسلمين، بدأ الانحطاط منذ تدهور نظام الحكم من خلافة على منهاج النبوة إلى ملك عاض وراثي بمقتضاه ينتخب الوالد ولده ويعهد إليه أمر المسلمين يورثه إياه كبعض ما يورث من المتاع. ولم تلبث المرأة أن أصبحت سلعة في السوق وجارية في القصور ومحظية وكما مهملا) [تنوير المومنات، ص 25، ج1].
فبعد أن أخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبر ومنحها الحياة، وأية حياة! ربطها بالله عز وجل مباشرة وأسمعها قوله سبحانه: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ [آل عمران، 195]، وجعل منها طالبة إحسان ومجاهدة حاضرة في قلب الأمة نصحا وعملا وبناء، أدى انتقاض عروة الحكم إلى اندثار هذا النموذج الصحابي السامق، وتحولت إلى الحريم في سياق فقه سد الذرائع، خاصة مع اكتظاظ قصور الأمراء بالمئات من الجواري والسبيات من نساء الأمة.
نعم أصبحت نساء الأمة رهينات مزاج الأمراء، يكفي أن يرى إحداهن أو يسمع بها أو حتى يتخيلها، لتصبح بين يديه وطوع أمره.
وأنقل هنا وثيقة تاريخية أوردها الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه “حوار مع صديق أمازيغي” تقول: كتب هشام بن عبد الملك إلى عامله على افريقية: “أما بعد، فإن أمير المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى الملك بن مروان رحمه الله، أراد مثله منك، وعندك من الجواري البربريات المالئات للأعين الآخذات للقلوب، ما هو معوز لنا بالشام وما والاه. فتلطف في الانتقاء، وتوخ أنيق الجمال، عظم الأكفال، وسعة الصدور، ولين الأجساد، ورقة الأنامل، وسبوطة العصب، وجدالة الأسؤق، وجثول الفروع، ونجالة الأعين، وسهولة الخدود، وصغر الأفواه، وحسن الثغور، وشطاط الأجسام، واعتدال القوام، ورخامة الكلام”.
من أين سيأتيه بهؤلاء النسوة؟ طبعا من نساء الأمة ومن بيوتات المسلمين.
مئات الجواري والخليلات والسبيات تمتلئ بهن قصور الأمراء والملوك إضافة إلى الأربع (الشرعيات) اللائي يستبدلن باستمرار غير مأسوف عليهن.
ولكم أن تتصوروا معي قصورا هذا واقعها ماذا ستخرج من “ولاة أمر”؟ وأمة هكذا هم ولاة أمرها أنَّى لها أن تحلم بنهضة؟
ينضاف إلى هذا تدفق سيل جارف من النساء سبايا الحرب في فترة الفتوحات، ينحدرن من ديانات مختلفة ومجتمعات متباينة في عاداتها وأعرافها، فتعددت بذلك هوية المرأة في المجتمع الإسلامي، مما كرس الحصار المضروب على نساء الأمة بدعوى صونهن والحفاظ عليهن.
هذا دون أن ننسى عاملا نفسيا أسهم بشكل كبير في تكريس هذا الواقع، حيث أصبحت المرأة رمزا لكرامة الرجل المفتقدة نتيجة الفتنة السياسية التي يعاني من وطأتها، فلا ضير إذا من مزيد سد ومنع وحجب.
كل هاته الظروف مجتمعة جعلت من المرأة مخلوقا ضعيفا لاحول له ولا قوة، مخلوقا فاقد الثقة تماما في نفسه، بل حتى في ربه. كيف لا وقد حرمت من حضور المسجد الذي تعرف فيه ربها، حرمت من حضور حلق العلم، حرمت من فضل المشاركة في بناء الأمة، فانزوت بذلك في ركن الجهل والأمية والغفلة إلا من رحم الله، وتحولت إلى أساليب الحيل والخداع والشعوذة لتحصيل حقوقها الضائعة.
اندحار عظيم للمرأة من درجات الرقي إلى دركات الانحطاط وازى انحطاط الأمة كلها، انحطاط لم نستفق منه إلا على صفعة أخرى من صفعات القدر، بعدو يحتل العباد قبل البلاد، وذاك موضوع يحتاج لصفحات وصفحات توضح ما فعله فينا الاستعمار.
عقبات إذا تنتظر من يقتحمها، وتحديات تنتظر من يقول أنا لها.
فهل ننتصر لصراط ربنا المستقيم أم لتقاليد بالية تغذيها، وللأسف، أدبيات طاغية على المكتبة الإسلامية؟ وهل يحلم بعد هذا حالم بإصلاح حال المرأة والانتصار لمظلوميتها دون التهمم بحال الأمة والعمل على إحياء العدل المفقود فيها؟ وهل يمكن كل هذا إن لم تشارك المرأة المؤمنة في التعبئة الشاملة للأمة؟
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين في كتاب تنوير المومنات [1/80]: “على المؤمنات جهاد لاقتحام عقبات التقاليد، وعوائق العقل الذي ينبغي أن لا ينقاد إلا للحق، وعوائق العادات والأنانيات والذهنيات المتخلفة. قضية المؤمنات لا تحل إلا في إطار حل شامل يشاركن فيه متزعمات مع الرجال لا تابعات”.