عشنا في الحلقة السابقة اللحظات الغالية النفيسة التي غيرت مجرى حياة الفقيد عمر عزيز رحمه الله وطبعت سيرته وأحلت بقلبه السكينة والاطمئنان وبنفسه الراحة والأمان، لحظات اللقيا بالمرشد الإمام والمربي الهمام، ياسين عبد السلام.
وها أنذا اليوم أدعوكم لنتعرف سويا على ما ساهم به رحمه الله في تأسيس بنيان الجماعة ورفع صرحه وشد أركانه طيلة أعوام تربو على الثلاثين، خصصها، منذ انخراطه في أسرة الجماعة) 1 ، للدعوة إلى الله والبذل فيه والعطاء.
لقد التحق عمر بالجماعة في أعوامها الأولى حين كانت أعداد المنتمين إليها محدودة ووسائل عملها شحيحة. ومما شح آنذاك واشتدت إليه الحاجة، البيوت المفتوحة في وجه الدعوة، والذين استطاع أصحابها تجاوز حاجز الخوف والترهيب والملاحقة وما يتبعها من تعسف واعتقال، أو طرد من العمل وتضييق على الأرزاق وتضييع للأهل والعيال. ففتح عمر بيته وجعل منه مقرا للجماعة بمنطقة أكدال وديور الجامع والعكاري والقبيبات. فبه تعقد الجلسات التعليمية، وفيه يقام الليل وتنظم الإفطارات الجماعية الأسبوعية. كما يتحول إلى مدرسة مسائية لإعطاء دروس الدعم والتقوية للتلاميذ، بل ويتحول عند الحاجة إلى معرض للصور والوثائق التعريفية بالجماعة. ولقد كان القادم إليه والخارج منه، إنما يفعل ذلك تحت أنظار العيون المتجسسة على الناس المحصية للأنفاس، التي ترابض بمدخل العمارة أو قريبا منه، تراقب الداخل والخارج، ومراتٍ ضُبِطَت وهي تأخذ صور الزوار بكاميرات ملفوفة بالجرائد، أو تسجل أرقام سياراتهم.
لقد كان عمر في البداية نقيب أسرة، ثم تكاثر الأعضاء الوافدون، فانقسمت الأسرة أسرتين، ثم انقسمت الأسرتان أربعا، فتم تكوين شعبة، انتخب عمر نقيبا لها. فكان الخادم المتفاني في الخدمة، والمحتضن الحانيَ والأب الرحيم والناصح الأمين والأستاذ المعلم.
ولما شرعت الشعبة في تنظيم الرباطات الفصلية، فموعد الإخوان: بيت السي عمر ليلة أول يوم من أيام العطل الدراسية. والرباطات هي اعتكافات بالبيوت 2 يختلي فيها المؤمنون بأنفسهم، متفرغين لذكر الكلمة الطيبة 3 والصلاة على خير البرية وختم القرآن أو حفظ أقساط منه، مع انتظار الصلاة بعد الصلاة. وانتظار الصلاة بعد الصلاة هو سر تسمية هذه الخلوات بالرباط 4 . هذا، مع قيام الليل وصيام النهار. لقد كان أعضاء الجماعة من الطلبة والتلاميذ ورجال التعليم يقتطعون من عطلهم أياما يخصصونها لهذا النشاط التربوي، يزكون به أنفسهم ويتقربون إلى ربهم. ويلتحق بهم يومي السبت والأحد من تيسر له الحضور من الموظفين وغيرهم.
لقد سكن عمرَ التهممُ المستمر بأمر الدعوة إلى الله، فوهبها الكل، ماله وبيته ووقته. ولقد كان يتأفف من سماع المقولة الشائعة بين العوام: “شوية لربي وشوية لقلبي”، فتثور نفسه لسماعها:
– أي سوء أدب هذا مع الله) يقول رحمه الله، قبل أن يضيف: ربي سبحانه بجلال قدره وعظيم سلطانه، وبما يُنْعِمُ عَلَيَّ به في كل وقت وحين من نِعَمٍ لا أحصيها من كثرتها وعِظَمها، أوازي بين حقه وحقوق غيره، وهو أغنى الشركاء عن الشرك ومن جعل له نِدّا أو ماثل بينه وبين غيره، قصمه الله ولم يقبل منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا؟).
وإذا ما أنكر عليه أحد كثرة اشتغاله بالدعوة مستشهدا بما ورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن لربك عليك حقا، وإن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه”، عقب عليه بقوله:
– نَعَم لإعطاء كل ذي حق حقه، هذا أمر به رسول الله، لكن، هل تفهم يا مسكين من قول النبي صلى الله عليه وسلم أن المذكورين متساوون في الحقوق؟ أتجعل حق الله عليك كحق بدنك وحق أهلك وزوارك، مِثْلا بمِثْل؟ لا والله أنَّى لأي حق أن يَعْدِلَ حقوق الحق عز وجل. ثم إن قيامنا بحقوق غيره، ما هو إلا استجابة لأمره، فهو الذي يُحِقُّ الحق ويبين مدى أحقيته).
ولقد كان رحمه الله يرى ما هو فيه وإخوانه من فرح بالله واجتماع عليه وتهمم بأمر المسلمين، ثم ما هم فيه من عزة بالله ورفعة، فيحضره الحديث المروي عن أَبِي ذَرٍّ: “مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ الدُّنْيَا، فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ، وَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَمَنْ أَعْطَى الذُّلَّ مِنْ نَفْسِهِ طَائِعًا غَيْرَ مُكْرَهٍ، فَلَيْسَ مِنَّا” فكان يقول متحسرا: يا حسرةً على من لم يلج صفوف الدعوة ويتحزب لله).
وكثيرا ما كان يقول لإخوانه: اسمعوا قول الله عز وجل)وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ويذكرهم بحديث رسول الله صلى الله وهو يخاطب حبيبه وابن عمه وخَتَنَه عليا كرم الله وجهه: “فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حُمْرُ النَّعَم”. وكان يقول للإخوة القاطنين قرب سوق حي العكاري: إن السماحة مفتاح القبول 5 ، ومن أحبه الله أحبه أهل السماء ووُضِع له القبول في الأرض، وأنتم مجاورون لأهل السوق تمرون عليهم مرات في اليوم، فلهم عليكم حق الدعوة. فإذا خرجتم للتسوق، فأضيفوا إلى نفقاتكم دريهمات قليلة تتصدقون بها على أهل السوق، تجتنبون بها شح المساومة (الشطارة بلغة أهل المغرب)، فهذا من السماحة. ومتى وُضِع لكم عندهم القبول، استجابوا لدعوتكم إذا ما دعوتموهم إلى الله والتوبة إليه.
كما كان يقول لهم ولسائر إخوان الشعبة: علينا أن ندعو في كل حي خمسة أوتاد يكونون فيه كأعمدة الإنارة، يستنير بهم الناس في أمور دينهم وينتفعون.
وكان له -رحمه الله- برنامجه الأسبوعي في حفظ القرآن، كما كان يحث إخوانه في الشعبة على حفظه، وكلما نظمت مباراة للحفظ في الشعبة، إلا واقتنى من ماله الخاص، كتبا أو مجلدات يهبها هدية للفائزين. فإذا أتم أحدهم حفظ كتاب الله كاملا، كساه “جلابة” رفيعة، وهو يقول له: أبشر بحلة تُكساها في الآخرة، يضيء من نورها أهل الجنة يوم القيامة.
كما كان من بذله وتهممه بأمور المستضعفين، يخصص يوم الأحد لزيارة مستشفى الأمراض الصدرية “مولاي يوسف” القريب من مسكنه، مصحوبا بسلة مَلأى بالفواكه ومشتقات الحليب والمرطبات والحلويات، يعود المرضى من خارج الرباط ويوزع عليهم من محتويات السلة، وربما طالبه أحدهم بشراء دواء أو كلفه بمهاتفة أهله في حاجة أو لطمأنتهم عليه -وذلك في وقت لم يكن للهاتف النقال وجود وانتشار كما هو الحال اليوم- فلا يقصر رحمه الله في تنفيذ ما طولب به.
وكان رحمه الله حلال المشاكل والمعضلات بين الإخوان، بل وبين عامة الناس. فلم يكن في هذا الجانب ينتظر أن يُطلب إليه التدخل، وإنما يبادر من تلقاء نفسه يبتغي بذلك مرضاة مولاه وما يُؤْتِي على ذلك من الأجر العظيم لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً 6 . وكم في سجل حسناته من مبادرات أثمرت صلحا وتقريبا بين المتخاصمين.
وأما العاطلون من الإخوة، فكان دأبه النصح لهم بامتهان أي مهنة مهما تواضعت، يَخرجون بها من العطالة ومن براثن البطالة وما يترتب عنها من تأثيرات سلبية على النفس وما تورثه من كسل وتتسبب فيه من إحباط وفشل، وتكون منها انطلاقتهم لما هو أفضل وأكثر إدرارا للدخل. فلقد دفع بأخوين من حملة الشهادات الجامعية من أعضاء شعبته، بالقبول بمهنة مستحقرة، مستخدمين في أشغال البناء والصيانة، فما توالت إلا أشهر معدودة، حتى لاحظ القائمون على المؤسسة التي تشغلهم حسن بلائهم وصدق معاملتهم، فقربوهم إليهم، ولما علموا بمستواهم التعليمي، رقوهم إلى مناصب تتكافأ وما معهم من شهادات وحمَّلوهم مسؤوليات بوَّأَهم لتحملها التكوين الذي حصَّلوه في الجامعات. فأبدلهم الله بما صبروا وظيفا قارا وأجرا محترما، فتزوجوا وأنجبوا واستأجروا بيوتا -ومنهم من اقتناها- أسكنوا بها أهليهم وفتحوها للدعوة وذكر الله.
وكان كذلك مما يفعله مع الشباب العاطل، مساعدته إياهم في تحرير رسائل طلب التوظيف، بفرنسيته الراقية، يُحبِّرُها لهم تحبيرا، ويدربهم على اجتياز مقابلات التوظيف.
ولما تأسس مجلس التنفيذ القطري، وكان من بين لجانه لجنة الإعلام والتوثيق، عين عمر عضوا فيه. ولم يكن مرد هذا التعيين إلى تخصُّصه الوظيفي وكفاءته في التوثيق، بقدر ما كان راجعا لفهمه لمنهاج الجماعة واستيعابه لخطها الدعوي وحظه من الشأن التربوي. فهذه كانت معايير اختيار أعضاء مجلس التنفيذ، وكان جلهم من نقباء الجهات. وعند انعقاد الدورة الأولى للمجلس ببيت الإمام المرشد رحمه الله، وبعد الجلسة العامة التي حضرها كل الإخوة المعينين به، انعقدت بأركان البيت الجلسات الأولى للجان المكونة له، ليحدد أعضاء كل منها موعد اللقاء القابل ومكانه. فاقترح عمر تضييف اللقاء الأول للجنة الإعلام. وعند انعقاده، اقترح أن يكون بيته المقر الدائم لهذه اللجنة، فقُبِل اقتراحه مشكورا، لكون بيته يقع بجوار محطة القطار، وغير بعيد عن المحطة الطرقية. وهذه مزية انعدم توفرها في بيوت أعضاء اللجنة الآخرين. هذا في وقت لم يكن عدد السيارات المملوكة للإخوان بالجماعة يتعدى العشرة 7 ، ومن بينها سيارة “سيمكا 1100” المملوكة لعمر. لذا كان القطار وحافلات النقل وسيلة تحرك الإخوان عبر القُطْرِ، ومن سكن بجوار محطاتهما، كان بيته المحضن المفضل للاجتماعات القطرية المركزية، التي غالبا ما كانت تعقد آنذاك بمدينتي الدار البيضاء والرباط.
وما دمنا نتحدث عن بلاء عمر الدعوي ومساهمته في بناء صرح الجماعة، فلن أغفل الحديث عن عمله القطاعي مع السككيين. فقطاع السكة الحديدية، كان أول تكتل مهني عرفته الجماعة، بعد قطاع التعليم. وكان القطاعان من بين الأعمدة التي بُنِيَ عليها القطاع النقابي التابع للدائرة السياسية. وعندما أقول بأن عمر ساهم في تكوين هذا القطاع، فلقد كان الساعيَ إلى الاتصال بالإخوة السككيين، وجمعهم ببيته، وإطعامهم من الأطباق الشهية التي كانت تعدها لهم ولكل اجتماع ينعقد ببيتها زوجته الكريمة الأخت زهراء، أكرمها الله وحفظها ذخرا لأبنائها وأحفادها.
رحمه الله وتقبل منه. فما ذكرت من بلائه في الدعوة وبذله في سبيلها، لا يعدو أن يكون غيضا من فيض وقليلا من كثير مما قدم لآخرته قبل موته. والذي ذكرت هو كل ما استطعت جمعه مما تبقى في ذاكرتي أو مما أتيح لي سماعه من ثلاثة نفر، هم الذين تأتى لي الالتقاء بهم من الإخوان الذين عاشروه عن قرب من أبناء شعبة “أكدال/العكاري/ديور الجامع”، فالتقطت من أحاديثهم عن السي عمر، كلمة من هذا وإشارة من ذاك.
وكيف يتأتى التوثيق كتابة في وريقات معدودة لثلاثة عقود من عطاء رجل بذل حياته لله والدعوة إليه والمساهمة بالغالي والنفيس لعودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة التي بشر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ورفع همته إليها الخليل الموفق منذ التقائه به خريفَ سنة 1982.
وللحديث بقية في الحلقة القادمة، إن شاء الله، وموضوعها: عمر في البيت.
[2] لولا المنع المخزني لاستعمال المساجد للاعتكاف لكانت المساجد أولى للقيام بهذه السنة النبوية العظيمة فهي أنسب، لكن لما أقفلت في وجه الإخوة قصدوا بيوتهم رغم ضيقها وعدم توفرها على مرافق الوضوء الكافية.\
[3] روي عن ابن عباس في شرحه قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾، قوله: الكلمة الطيبة لا إله إلا الله.\
[4] عن أبي هريرة. رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظارالصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط. وفي رواية: فذالكم الرباط مرتين. رواه مسلم.\
[5] يشير إلى الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن سيدنا أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: “إن الله يحب سمح البيع سمح الشراء سمح القضاء”.\
[6] سورة النساء الآية 114.\
[7] أو قل العشرين سيارة على أبعد تقدير.\