من بين فرث ودم

Cover Image for من بين فرث ودم
نشر بتاريخ

تأملات

لطالما انتزعت من زحمة مشاغلها لحظات جلست فيها مع نفسها جلسات تأمل وتساؤل، أسئلة وجودية ملحة: إذا كانت ماهية وجودي لا جسدا خالصا ولا روحا صرفة، فما السبيل إلى سعادة تشمل جسدي وروحي، سعادة أبدية لا شقاء بعدها أبدا؟ من الدليل إلى تلك السعادة؟ من القدوة؟…

طالعت سير الصالحين والصالحات فوجدت أن هؤلاء الفائزون عاشوا في زمن غير زمانها، زمن كانت وسائل إعلامه أقل جرأة من أن تشوش عليهم خلواتهم، أو أن تحول بينهم وبين هداية الخلق. ثم نظرت إلى واقعها فوجدت عالما متسارع الأحداث، متصارع الإيديولوجيات والأفكار، يأكل قويه ضعيفه، يلتهم خيراته، يرغمه دون وجه حق على تبني رؤيته للكون والإنسان والله. تنقل فضائيات العالم إلى بيتها في كل لحظة مشاهد ظلم في فلسطين وسوريا والعراق… يتردد في أذنها صراخ الثكالى والأرامل واليتامى وأنين الجرحى، وتتراءى لها مناظرالأشلاء والدماء.

همت فاطمة أن تصرخ: وامعتصماه، لولا أنها تذكرت أن هذه الصرخة ما عادت تجيش لها الجيوش أو تعد لها العدد، لأن معتصمينا اليوم اعتصموا بكل شيء إلا بربهم، واعتصموا منا بعدوّنا، ما عادوا منا ولا غدا حالنا من ضمن حساباتهم. همهمت فاطمة متنهدة: صدقت يا رسول الله ها قد تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها لا لقوة بهم بل لهوان أصابنا وتمزق وغثائية.

ما العمل؟

وجدت فاطمة نفسها وسط سيل دافق من التساؤلات: ما موقعي في هذا العالم الموار؟ ما دوري كي تجد الإنسانية سعادتها وتستعيد إنسانيتها؟ وهل ينبغي أن يكون للمرأة دور خارج دائرة همومها الخاصة التي تستغرق الوقت والجهد؟ ومن يزحزح القناعة الراسخة عبر القرون بأن المرأة لم تخلق لغير الخدمة والمتعة؟ هذه القناعة التي شلت في المرأة حركتها وسلبت منها إحساسها بأنها إنسان كامل الأهلية وله كامل الصلاحية في النقض والإبرام. ثم ما الكفاءة العلمية المطلوبة؟ أليس المفترض بكل متصد للشأن العام أن يكون له نصيب من العلم يؤهله لإصلاح ما فسد؟ صحيح أن لدى فاطمة شهادة ولكنها شهادة من وزارة لو سألت عن وجودها لقيل لك إنها مجرد إشاعة، فالناس يدخلون في “سلك” الأمية أفواجا، والمتخرج من وزارتنا العتيدة حتما لا يتقن أية لغة أجنبية إذا حدث وأتقن لغته الأم. ثم ما الداعي لذلك كله وقد وفر علينا فقهاؤنا المندمجون ذلك العناء؛ فالمرأة إذا صلت خمسها وأطاعت زوجها وصامت شهرها وحصنت فرجها دخلت الجنة من أي أبوابها الثمانية شاءت، وإذا حدثتها نفسها بمزيد من الترف الفقهي فها هم القراء يملؤون المساجد لتلقين قواعد التجويد أليس لا ينقصنا سوى ذلك؟

بارقة الأمل

ظلمات بعضها فوق بعض، وجبال من الهموم والمثبطات بعضها غائر الجذور في تربة التاريخ وبعضها وليد العصر والأوان، لكن فاطمة ليست ممن يبحثون عن الأعذار أو يستسلمون للمصاعب بل ظلت تبحث وتبحث حتى لاح لها هناك في الأفق نموذج يبدو متوهجا متلألئا يغري حاذيه بمغالبة كل الصعاب، نموذج رفعه أمام عينيها من تكفل الله تعالى بأن لا يخلو زمان من وجودهم، يتجدد الدين على أيديهم، ينجذب الناس إليهم لما قذف الله في قلوبهم من أنوار المحبة للخلق وفي عقولهم من أنوار الفهم للدين والحياة. تنفست فاطمة الصعداء وقالت وابتسامة الأمل تعلو محياها: لا بديل عن الصحابيات ولا استقالة بعد اليوم من هموم أمتي وهموم الإنسانية جمعاء، ثم استطردت: صحيح أن لدي هموما يومية وانشغالات آنية لكن لي في صويحبات الدرب عضدا وسندا.

خرجت فاطمة بإذن ربها من ركام الغثائية والإحساس بالسلبية والدونية شخصا آخر له وجود وفعل وهدف، كما يخرج الله من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين، وكذلك ستنبعث الأمة لتتسلم زمام المبادرة لقيادة الإنسانية جمعاء إلى بر الأمان، حيث السعادة الأبدية التي وعد الله عباده إن هم استجابوا لداعي الخير والرشاد.