قال الأستاذ محمد العسلي بأن الأسرة المسلمة في زمن النبوة كانت تشكل اللبنة الأساس التي انبنت عليها خير أمة أخرجت للناس، تلك الأسرة التي تأسست على دعامات الربانية بما هي صلاح للقلب وطمأنينة للنفس، وعلى ركائز العدل بما هي حقوق وواجبات ومسؤولية. مذكرا بمحاور الموضوع الذي عرضه في مجلس نصيحة الوفاء حول “سيرة سيدتنا فاطمة رضي الله عنها وسيدنا علي رضي الله عنه”، وهي: مفهوم زواج الدنيا والآخرة، وتكامل المسؤولية بين الزوجين، وأثر الأسرة الصالحة في المجتمع والأمة من خلال أبنائهما رضي الله عنهم.
وفي مجلس نصيحة الوفاء الذي نظمته جماعة العدل والإحسان بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لرحيل الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله، وبثت فعالياته قناة الشاهد أمس الأحد 31 دجنبر 2023، حاول عضو الهيئة العامة للتربية والدعوة من خلال تلك المحاور الجواب عن سؤال: كيف يمكن إعادة تجديد تلك الدعامات حتى تسترد الأسرة عافيتها وتصبح عماد الأمة القوية؟
وفي المحور الأول، شدّد الأستاذ العسلي على أن “زواج الدنيا والآخرة” يقصد به أن يكون الزواج في الدنيا مزرعة للآخرة، وهو ما جسّدته هذه الأسرة المباركة موضوع السيرة؛ فسيدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها مثال المرأة الفاضلة المؤمنة المجاهدة المساندة (والتي كانت تلقّب بأم أبيها)، وهي من “أفضل نساء أهل الجنة”، والرسول الأكرم أخبرنا “إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من عليّ”. أما علي كرم الله وجهه فهو ذلك الرجل القوي الأمين، الذي ما سجد لصنم قطُّ، والذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بقوله: “لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ويفتح الله على يديه”. ليستخلص عددا من العبر، منها أن زواج سيدنا علي بسيدتنا فاطمة كان بوحي من الله تعالى، وهذه كرامة وتشريف. ومنها أن زواجهما كان عن حب واقتناع. ومنها أنه زواج مال إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم من أصل عليّ الطيب وخلقه الحسن. ومنها أن فاطمة رضي الله عنها رضيت بالمهر اليسير لأنها قصدت ما عند الله وما عند الله خير وأبقى، منوها إلى أن هذا كان دأب الصحابة والصحابيات من حيث ميلهم للتيسير والبساطة وتجنب الترف ورخاوة العيش لانشغالهم بالجهاد.
وختم هذا المحور بأبيات شعرية مؤثرة رثى فيها سيدنا علي أمنا فاطمة رضي الله عنهما، بقوله:
ما كان ظني أن أكفن مهجتي .. وأرقرق الدمعات كل زمـــــــــــــــاني
رحلت بهائجنا جنة دارنــــــــــــا .. لم يبق في داري سوى الأسجان
أين الهموم أحطها يا سلوتي .. يا قبلة المثقول بالأحــــــــــــــــــــــــــزان
في الفكرة الثانية، ركز الباحث في الفكر الإسلامي على مسألة “تكامل المسؤولية بين الزوجين” من خلال هذه السيرة العطرة لهذه الأسرة الكريمة، مشيرا إلى مظاهر هذا التكامل؛ من ذلك أن عليّا ورحمة بها كان يساعدها ويقول لأمه فاطمة بنت أسد: “اكفي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخدمة خارجا”، توجه إلى أمه يتودد إليها، فذكّرها بحنانها برسول الله يوم كان طفلا في حضنها حتى تعطف على فاطمة وتخدمها باستعماله عبارة “بنت رسول الله”، وفي المقابل كانت فاطمة رضي الله عنها له سندا ومددا ونعم العون والرفد، فبذلت جهدها وصبرت وتحمّلت. ومن مظاهر التكامل بينهما، يسترسل العسلي، أنه كان يُسَرّي عنها حين قيامها بخدمة بيتها فيحدثها في منتهى الأدب والاحترام. فإذا نادها قال: “يا بنت رسول الله!” والمناداة بالكلمة الطيبة والبشر سمت حسن. وكان حريصا على ذلك كلما سنحت له الفرضة.
وواصل المتحدّث بسط مظاهر تكامل المسؤولية بينهما رضي الله عنهما، مشيرا إلى فضيلة “التعامل بإحسان في حال الخصام والمشاكل”؛ فالمشاكل الأسرية “يشترك فيها كل الناس والصحابةرضي الله عنهم من الناس،لكن الاختلاف في كيفية المعالجة. عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا في البيت فقال: أين ابن عمّك؟ قالت: كان بيني وبينه شيء فغاضبني، فخرج، فلم يُقِل عندي.. فجاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضجع في المسجد قد سقط رداؤه عن شقّه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب! قم أبا تراب“. ليستخلص من هذا الحدث أنه “لما غضبت فاطمة آثر علي الصمت على الكلام، والصمت في مكانه تؤدة، والتؤدة وكظم الغيظ من صفات المحسنين”. وأنه لمّا غضب علي قصد المسجد “وقصد المسجد وعمارته سمت حسن”. وأن المصلح صلى الله عليه وسلم لم يكتف بمسح التراب، بل مازحه بأحسن الكنى لديه” أبا تراب” تمهيدا للصلح. وأن النبي صلى الله عليه وسلم،باعتباره أبا وقدوة، بيّن حدود تدخل الأبوين في الحياة الزوجية لأبنائهم دون انحياز. وأن فاطمة رضي الله عنها وعليا رضي الله عنها لم يفشيا سرّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أنه أقرب الناس إليهما.
وبعد أن ذكّر القيادي في جماعة العدل والإحسان بأن التحلّي بهذه الخصال انغرس في الصحابة والصحابيات بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلص إلى أن التكامل بين الزوجين يكون “بالخدمة المتبادلة والمصابرة والتراحم وبترك الغضب والعتاب وعدم إفشاء الأسرار وتغليب الجانب الإحساني والتعامل بحكمة وتؤدة، والتجاوز وإقالة العثرات”.
ثم انتقل مما يهم الأسرة الصالحة في ذاتها خاصة إلى أثرها في المجتمع والأمة عامة، من خلال النظر في أثر هذه العلاقة المثالية بين سيدنا علي وأمنا فاطمة على أبنائهما رضي الله عنهم؛ فقد أنشأت هذه الأسرة الشريفة بنين وبنات صالحين مصلحين، مذكرا بحديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “.. وعترتي أهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهم”، وحديث “إن الحسن والحسين هما ريحناتي من الدنيا”، منوّها بأنهما “شابان نشآ في عبادة الله، وسيدا شباب أهل الجنة”. فالحسن كان أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم خلقة وخلقا. أما الحسين فكان سندا لأخيه. إذ “لمّا وليَ الحسن الإمامة بعد أبيه دخل في طاعته وآزره”، وقام قومة في وجه المستكبرين الظالمين وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر وأمرهم برد المظالم، فتعرض عقبها للظلم السافر والفعلة النكراء التي لايزال جرحها لم يندمل بعد.
وسار على نهج تلك الأسرة الصالحة، يقول العسلي، علماء قائمون وارثون كالإمام عبد السلام رحمه الله تعالى الذي نحيي ذكراه الحادية عشر الذي جاء بمشروع المنهاج النبوي وأسس جماعة تتوب إلى الله وتدعو إلى التوبة. ليخلص في ختام هذا المحور إلى وجوب محبة آهل البيت وتوقيرهم ونصرتهم ومن اقتدى بسيرتهم من العلماء الوارثين.
وختم الأستاذ العسلي عرضه، بتأكيده على أن الأسرة الصالحة تكون عماد الأمة القوية متى كانت مبنية على شعب الإيمان؛ من الصحبة والمحبة، والذكر، والصدق والبذل والسمت الحسن والتؤدة والتراحم والتجاوز والتناصح والزهد والحكمة وتغليب الجانب الإحسان والجهاد بصنوفه، ثم الدعاء. مستدعيا قولا نيّرا للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في نهاية كلامه “يتصور بعض الناس أن دولة الإسلام يمكن أن تقوم بمجرد انتشار الفكر الإسلامي، والالتزام بالصلاة والأمر والنهي ثم الجهاد. ما نتحدث عن الرحمة والسكينة، ومعاني القلب، وعن الكمال الروحي كما عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا لنؤكد أن تلك الأحوال الشريفة هي اللب وهي العماد”.