رحم الله الإمام المجدد عبد السلام ياسين، الذي نعيش هذه الأيام الذكرى الثامنة لرحيله، هذا الرجل الذي علم وربى وأسس وبنى مدرسة متجددة عبر الأجيال، وأثل لنا مشروعا فكريا متكاملا يغطي كل مجالات الانشغالات البشرية، مؤسسا بذلك لنظرية تغييرية تجديدية متوازنة ومتسمة بخاصيتي الربانية والمستقبلية، ولا شك أن الباحث والقارئ يستشعر مدى اهتمام الرجل بكرامة الإنسان الذي خلقه الله عز وجل فأحسن خلقه وصوره فأبدع في تصويره، وقد أفرد الإمام رحمه الله مساحات شاسعة في كتبه وأديباته لموضوع الكرامة الآدمية وحقوق الإنسان، والملاحظ منهجيا أن الأستاذ عبد السلام ياسين يوظف مفهوم الكرامة الآدمية في العديد من كتاباته في إشارة واضحة لأصل الإنسان ونسبه الطيني الممتد لأبينا آدم عليه السلام، وفي ذلك تعبير واضح عن المرجعية المؤطرة لموضوع حقوق الإنسان في الفكر المنهاجي والتي منطلقها الوحي، يقول الله عز وجل، “وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدم وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا” 1 ويظل المقصد الأساسي من فلسفة التكريم الآدمي عند الإمام رحمه الله، هو تحرير الإنسان من كل هوى وعبودية أخرى غير التعبد لله عز وجل، لذلك سعى الإمام رحمه الله من خلال نظرية المنهاج النبوي التجديدية، أن ينحت جملة من المفاهيم الأساسية التي تمتح من هذا المعين، بغاية إرساء مداخل ومسالك تمكن البشرية من الخلاص الفردي والجماعي، وقد ظل هم تكريم الإنسان شغلا محوريا تهمم به الإمام رحمه الله حرصا منه على آخرة هذا الإنسان وحسن مصيره، ودفاعا عن حقه الأساسي في معرفة حقيقة وجوده ومآله ومعناه ”هذا الإنسان الشارد من ربه الجاهل بخالقه لا تجد من يرفع عقيرته احتجاجا على هضم حقه الأول، حقه في معرفة حقيقة وجوده، ومآله، ومعناه“ 2.
ولا شك أن هذه المعرفة هي التي تبلغ به الكمال والرقي في آدميته وإنسانيته، لذلك اعتبرها الإمام هي قمة حقوق الإنسان التي ينبغي للحركة الحقوقية التغييرية المجتمعية أن تسعى إلى تحقيقها، لأنها أس البنيان المعنوي للإنسان، وهي جوهر وجوده والتعبير الحقيقي عن معنى سموه البشري “قمة حقوق الإنسان هي حقَّه في بلوغ كماله، حقَّه في ذروة كرامته الآدمية“ 3.
هذا الحق في ذروة الكرامة الآدمية، لا يكتمل له معنى بمجرد تحقيق الحقوق بكل أصنافها وفئاتها كما هو متعارف عليه في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان وفي أدبيات الفكر الحقوقي، الذي تترجمه اليوم المئات من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المؤسسة لما يعرف بقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، بل يجدر الإمام رحمه الله معنى الكرامة ويعمق فهم المعنى الإنساني لوجود الإنسان على الأرض بضرورة صيانة أسمى حق أساسي له وهو أبو الحقوق، حقه في معرفة ربه عز وجل ”هذا هو حق الإنسان الخالد السامي الأسمَى: أن يكون عبدا لله عز وجل، عاملاً للقائه، آملا في جزائه وجنته، خائفاً من عقابه وناره. هذه هي كرامته الآدمية، كل حق يطالِبُ به ما دون ذلك من حقوق الدنيا فهو له حقٌّ شرعي إن كان نيلُه يقربه من غايته الأخروية 4.
ومن أجل بلوغ هذا المعنى الإنساني الرفيع، فكك الإمام رحمه الله منظومة العقبات التي تحول دون أن يدرك الإنسان المعذب في الأرض هذه الحقيقة، وقد كشف رحمه الله بأدوات التحليل المنهاجي العميقة ومن خلال خطاب فكري وتربوي وإيماني أهم العقبات النفسية والعقدية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أفرزتها الحداثة، التي تحرم الإنسان من بلوغ مرام المقامات العلوية، وتجرده من تاج وجوده وطود آدميته ومدلول استخلافه في الأرض، كما أن هذه العقبات تركس الإنسان في شهواته وملذاته وتدفعه في طاحونة الإنتاج وماكينة التصنيع، وتغرقه في أسواق الاستهلاك إذا تعلق الأمر بسكان دول الغنى والرفاهية، أو تلفظه إلى هوامش الفقر والبؤس والحرمان والبطالة والاستعباد في ظل أنظمة الاستبداد والسلطوية، وفي هذا السياق يقول رحمه الله: “فالحداثة تحرم الفرد من أقدس حقوقه: معرفة الله عز وجل والاستعداد للقائه، وتغرقه في سيل لا ينقطع من المنتوجات الاستهلاكية المتجددة، إذا كان مواطناً في بلد غني ديموقراطي أو تَغطِسُه في مستنقع البؤس والهم إذا كان مجرد “شيء” يستعبده نظام جبري متخلف“ 5هذا الحرمان يفقد الإنسان معناه وحقيقة وجوده وأجوبة مصيره بعد الموت، ولأن كانت الحداثة أغدقت على الإنسان في الغرب حقوقا مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية وقدست الفرد وأحاطته بهالة من التعظيم في وجوده المادي وحريته الأرضية المغطسة له في قاع الأنانية والفردانية، فإنها لم تستطع أن تغمره ببصيص من العطف والحنان، والاحتضان الأخوي والمجتمعي الذي يشعره بكينونته الآدمية التي هي سر وجوده، ومن هذا المنطلق ينتقد الإمام رحمه الله الطرح الحقوقي الغربي القائم على هذه المسلمات، ويقول: “لولا أن الحقوقية الديمقراطية إن كانت تحمي الفرد من تعسف الحكام فإنها في الجَوِّ الحقوقي الجافّ -هذا لي وهذا لك في كزازة وشح نَفس وأنانية بخيلةٍ- لا تمتعه بالحنان الإنساني والعطف الأخوي، الذي هو اللحمة العاطفية الدَّفِئة في المجتمع المسلم الحَيِّ بحياة الوَلاية الإيمانية والبذل الإحساني. الرباط الذي يصل الفرد بالجماعة رباط أخوة إيمانية، رباط بين أعضاء الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحُمّى والسهر 6.
ولتجاوز هذا الحال، يقترح الإمام المجدد رحمه الله على الإنسانية فكرا تجديديا مستقبليا يهدف إلى تحرير الإنسان من هيمنة الاستكبار العالمي وسطوته الاستعبادية لبني آدم، التي امتدت بخيلها ورجلها على الشعوب والأمم، من خلال سياسات النظام العالمي المدمرة للإنسان والبشرية، والمتمثلة في حروب اقتصادية وعسكرية وسياسية، دمرت قرى محصنة وشردت شعوبا وقتلت أطفالا ونساء، وهجرت أمما وجوعت مساكن عديدة، وصنعت فوارق فاحشة وطبقية مقيتة وقسمت العالم بمعايير مزدوجة، وأججت الصراعات والاقتتال الطائفي والديني، وفرقت بين بني البشر وأثخنت جراحهم وعمقت آلامهم، ولم تجني الإنسانية من وراء هذه السياسات المحروسة إلا الخسران المبين، لذلك يؤكد الإمام رحمه الله في هذا الصدد قائلا “إننا لا نرضى بهيمنة الدول العظمى على العالم، ولا باستعباد الإنسان وهضم كرامته وحقوقه الآدمية، ولا بطحن جسم الإنسان ووقته بين عجلات الإنتاج والاستهلاك، ولا بتشويه نفس الإنسان وحياته الفكرية والعاطفية بالثقافة المنحلة المخدرة العنيفة. يجب أن نصنع فكرا مستقبليا يلقي على آفاق هذا القرن الخامس عشر، قرن الإسلام بإذن الله، ومن بعده، نور القرآن ونور الهدي النبوي. يلقي على حياة البشر نورا به يميزون ما ينفع في الدنيا والآخرة، وما يضر في الدنيا والآخرة“ 7.
[6]
[7]