- خذ هذا المنديل يا أحمد، جفف دموعك يا صغيري.
- أنا لا أبكي يا أختي الممرضة، ألم أخبرك أنني أصبحت رجلا؟ أنا لا أبكي، فلترفعي هذا الثوب بسرعة أرجوك، ماعدت أستطيع التحمل أكثر، أريد أن أراه، بالتأكيد سأعرفه إن كان هو.
“كان يجب أن أعتاد هذا، في كل مرة أضطر فيها لرفع الثوب عن جثة لعلنا نجد أثرا لصاحبها، لكني مازلت أتألم في كل مرة، خاصة حينما أقف إلى جانب طفل كأحمد، قد يجد خلف هذا الحجاب أحد والديه أو المقربين من أهله، وحين أرى نظرة الحسرة مختلطة بالصمود في عيون هؤلاء الأطفال، لا أتذكر إلا نظرة أخي سيف يوم تركته في أمانة من لا يخونونها، وكأنه يخبرني بعينيه أنه لن يكون إلا رجلا شهما في المرة القادمة التي أراه فيها.”
كلمات عابرة حاولت إلهاء نفسها بها وهي ترفع بيدها المرتجفة ذلك الحجاب الأبيض الذي غطته دماء الشهيد.
جثة خلف الحجاب مشوهة الملامح، فقدت بعض أطرافها إثر النازلة التي أصابت صاحبها في أحد التجمعات قبل أن تفارق الروح الجسد.
اِقترب أحمد، ذاك الرجل الصغير من الجثة يتفقدها، ثم أمسك باليد السليمة من الجسد المشوه، يبكي بحرقة ويردد:
- إنه هو يا أختي، يا رب إنه أبي، هذا خاتمه الذي لم يفارق بنصره مذ تزوج أمي، لقد أخبرنا بذلك مرارا، وهذا الندب في راحة يده، إنه أثر جرح أصيب به وهو يصلح دراجتي قبل أشهر، يا رب صبرك، إنه أبي يا الله.
دموع غزيرة تنهمر من عيني طفل لم يتم عقده الأول بعد، اضطر أن يكون رجلا قبل أوانه، ما إن أنهى رثاءه حتى مسح دموعه بكف يده تاركا المنديل على الطاولة إلى جانبه، ثم ابتعد عن حضن الممرضة التي أرادت أن تواسيه وهو يصبر نفسه بكلمات قد لا يفهمها أقرانه من الأطفال.
- أنا بخير أختي الممرضة، الحمد لله، الحمد لله على عطائه، والحمد لله على أخذه، والحمد لله أن نال أبي الشهادة بإذنه.
- أنا آسفة، قدر الله وما شاء فعل، أعتقد أن عليك الآن التفكير مع والدتك في العبور إلى الضفة، لتكمل تعليمك وتعيش بشكل أفضل مع أقاربك هناك.
- بالتأكيد لا يا أختي، لو كان هذا خيارا صحيحا لسلكناه قبل انطلاق القصف أو ربما قبل سنوات من الآن، لكننا أصحاب الأرض ولن نفرط فيها، أبي لم يرد يوما أن يترك بيته، ولا نحن سنفعل ذلك من بعده، وإلا لو فكر كل واحد منا بنفسه هكذا وكان هذا تصرفنا جميعا، فمن سيعيد هذه الأرض؟
“كلام عميق ما كنت لأسمعه من كثير من الحكماء العاقلين ربما، كلمات صادقة من طفل أقرانه في مكان آخر قد لا يفهمون معنى الموت حتى، تركته وانصرفت أكفكف دموعي في غرفة أخرى، هل من المعقول أن يصير أخي بمثل نضج هذا الفتى؟ هو ليس في سنه أجل، لكن الأعمار هنا مجرد أرقام، تجد شابا في الستينات يساعد هذا وذاك بدون كلل، وتجد شيخا لم يبلغ العشرين يبكي أحبابه في إحدى زوايا بيته المهدم، وتجد رجلا ذا عشر سنين خرج يجاهد في سبيل الوطن ولو بالحجارة والمقلاع، وكلهم في عمر واحد، عمر مناسب للشهادة.”
- انهضي يا مريم، هناك وفد من الجرحى يجب الاهتمام بهم حالا.
قالتها زميلتها عائشة بحزم وهي توقظها من شرودها مثل كل مرة.
- أنا لم أسمع صوت غارة أو ما شابه، هل تم قصف أحد البيوت؟
- كلا، لا وقت للكلام، هيا بسرعة إلى مهمتك.
- بما أنه لا وقت للكلام فلا بد أنهم الظلال.
“الظلال كما أحب أن أسميهم، برأيي إنه اسم يليق بأشخاص لا ترى منهم إلا العيون، ومكان الجراح التي نداويها، عيون تحمل بأسا شديدا وقوة، كالموت تراها كلما أتى ذكر أحد الأعداء، كالنجم تلمع حين تذكر بطولاتهم في صفوف الممرضين، وتلين إذا ما نظروا إلى المصابين في جوانب المركز.”
لكن العيون هذه المرة كانت مألوفة، حبات البن التي قابلت عينيها في هذه اللحظة لم تكن غريبة أبدا، لطالما مدحت لمعانها كلما تقابل وجه أبيها والشمس، وهذه النظرة التي لم تترجم دوما إلا حنان أخيها البكر وحبه لها، لكن سرعان ما اختفت تلك النظرة مع العيون حينما أغمض ذلك الملثم عينيه من الألم، ولاحظت أحد زملائها يخيط جرحا إلى جانب كتفه دون تخدير، ترددت كثيرا في الاقتراب منه وطمأنة قلبها الذي تضاعفت نبضاته منذ لمحته.
وجدت أن المكلف بخياطة جرحه طبيب وليس ممرضاً، أسرعت الخطى إليه تسأله أن تتكلف هي بإتمام عمله ليتاح له معاينة بقية المصابين، وقد كان، جلست إلى جانب أخيها تمسك الإبرة بيد مرتعشة تحاول قدر الإمكان تثبيتها للقيام بعملها بشكل أفضل، ووضعت اليد الثانية بجانب الجرح على كتف تثبته هو الآخر.
- الجرح مؤلم؛ أليس كذلك؟
انتظرت رده ثوانٍ معدودةً فتكلم بصوت شجي من تحت اللثام:
- كل جرح هان في اللحظة التي رأيت فيها وجهك يا مريم.
“إنها دموعي مجددا، لا أدري سبب جريانها، أخي من يشعر بالألم لكنني التي تبكي.”
- الحمد لله، من الجيد أنني التقيتك الآن، كنت في حاجة ماسة إلى بعض القوة لأكمل هذا المشوار الصعب، وقد حصلت عليها عندما رأيت عينيك يا أخي.
- إنك تحملين مصدر قوتك في قلبك يا مريم كما نفعل جميعا، كتاب الله هو مصدر قوتنا والأساس الذي يساعدنا على الاستمرار في هذا المشوار، أليس كلامي صحيحا؟
- إنه عين الصواب يا أخي، لكن رؤيتك في هذه الظروف ستساعدني على المقاومة أكثر.
- وهل كنت تتوقعين رؤيتي؟ أم أنك كنت تتوقعين أن يكون لقاؤنا في الجنة أساسا.
سالت دموعها مرة أخرى، ليكمل ببطء بعد أن أغمض عينيه بسبب ألمه:
- هذه حقيقة لا هروب منها، أنا لا أعلم أين ستكون إصابتي التالية، كل ما أعرفه أنني خرجت في هذه الطريق أبتغي النصر أو الشهادة، ليس بيدنا شيء إلا أن نستودع الله أنفسنا ونؤنس وحدتنا بكتابه عز وجل.
“انتهت كلمات أخي مع انتهائي من تضميد جرحه، كان لقائي به خفيفا كخفة قطرات الندى على وردة عانت بعد ليلة عاصفة، عالج جراح روحي بدل أن أفعل أنا بجرح كتفه، ووجدت السلام أخيرا وسط كل الفوضى المحيطة بي، ذهب أخي وبقيت كلماته بلسما ينعش روحي كلما احتجت إليه”,