قبل البدء:
ذكرت كتب التاريخ والسيرة والأدب، من قبيل: السيرة النبوية لابن هشام، والطبقات الكبرى لابن سعد، وجمهرة خطب العرب لأحمد زكي صفوت، والبداية والنهاية لابن كثير وغيرها 1، أقوالا نزلت منزلة الأمثال والحكم الخالدة للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم، توجه وترشد وتحذر مقتحم العقبة من مخاطر النفس والدنيا ورفيق السوء، تميزت بحصافتها الفكرية وخصائصها البلاغية، ثم التجربة الإنسانية الإسلامية المنفتحة في الزمان لمن أراد أن يقتحم.
تزداد نفاستها وأهميتها حين يعلم القارئ أنها صادرة عن الرعيل الأول، ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعملوا حين تعلموا منه كيفية الاقتحام والصبر على أذى الطريق، ثم لأنهم جمعوا بين العلم والعمل وخبروا مكائد النفس وغواياتها.
خلال هذه الوريقات سأركز إجمالا على بعض الدرر من روائع الصديق رضي الله عنه، ثم أقف مليا عند رائعة من رباعياته الخالدة، والتي ابتدأها بقوله: “أربع من كن فيه…” على غرار رباعيات وثلاثيات المصحوب الأعظم صلى الله عليه وسلم.
من الروائع الصديقية:
“جاهد (الصديق رضي الله عنه) في الدين في أول الإسلام بدعوة الناس إلى الإسلام، بدعوته أسلم عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين” 2، ومع ذلك “كان قليل الكلام طويل الصمت كثير العبادة، كذلك لم يرو عنه من الأحاديث إلا 42 حديثا مع تقدم صحبته وملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم” 3، فاستحق هذه الشهادة العظيمة من رسول الله صلى اله عليه وسلم: “ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر” 4.
ويرجع ذلك إلى إيثاره الصمت على كثرة الكلام، وشدة احتياطه، وهو الخبير بتحذيرات النبي صلى الله عليه وسلم من اللسان الذي يورد الموارد، ففي حوار طويل بين النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل رضي الله عنه قال له محذرا: “ألا أخبرك بمِلاك ذلك كله؟ فقلت(أي معاد): بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه وقال: «كف عليك هذا»، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم – أو قال: على مناخرهم – إلا حصائدُ ألسنتهم». 5
وفي الحديث أنَّ اللِّسانَ أصلٌ لكلِّ ما يُدخِلُ الإنسانَ المهالك؛ وفيه تحذيرٌ شديدٌ من آفاته وخوض المعارك، وعلى تحرزه هذا نقيس حالنا اليوم في مواقع التواصل وما تتناقله أناملنا ومسامعنا من بهتان وطعن في الدين وفي أعراض الأبرياء والبريئات، ألا فلننتبه من الغفلة قبل خطف المنايا، قال الصديق رضي الله عنه: “احرص على الموت توهب لك الحياة” 6.
وعن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اطلع على أبي بكر رضي الله عنه، وهو يمدُّ لسانه فقال: “ما تصنع يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إن هذا أوردني الموارد، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدَّته،” 7 لذلك كانت حكمه معدودة كمًا، لكنها عميقة إشارة ومعنى، وهذه بعضها:
Ø إذا استشرت فاصدق الحديث تُصْدَقِ المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتُؤتى من قِبل نفسك.
Ø إذا فاتك خير فأدركه، وإن أدركك فاسبقه.
Ø إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وإن أضعفكم عندي القويّ حتى آخذ منه الحق.
Ø إن الله قرن وعده بوعيده؛ ليكون العبد راغبًا راهبًا.
Ø إن الله يرى من باطنك ما يرى من ظاهرك إن عليك من الله عيونًا تراك.
Ø حقٌّ لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلًا، وحقّ لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفًا.
Ø ليست مع العزاء مصيبة.
Ø الموت أهون مما بعده، وأشد مما قبله” 8.
أربع من كن فيه:
ضمن هذه النفائس اخترت هذه الرباعية العجيبة التي يحتاجها كل سالك منا، والعجيب أنها إذا قلبت إلى أضدادها أصبحت قواطع وحواجز وحجب مانعة عن القصد، يقول الصديق رضي الله عنه: “أربع من كن فيه، كان من خيار عباد الله: من فرح بالتائب، واستغفر للمذنب، ودعا المدبر، وأعان المحسن” 9.
كلمات تحمل كل معاني الافتقار بين يد الله والذلة على المؤمنين، وما كان ليتفوه بها وهو يعلم أن الله سبحانه خبير بسريرته، لولا علمه من نفسه أنه يفرح بالتائب، ويستغفر للمذنب، ويدعو المدبر، ويعين المحسن، ويكفيه شرفا اسمه الذي يدل دلالة قاطعة على صدق لهجته واتباعه وتمثله لأن “الصِّدْق أَمَانَةٌ، وَالْكَذِب خِيَانَةٌ” 10… وكان إذا مُدح قال: “اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهمّ اجْعَلْنِي خَيْرًا مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لا يَعْلَمُونَ، وَلا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ” 11.
الفرح بالتائب:
يقول رب العالمين: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.[سورة الزمر، الآية: 53] وقوله كذلك: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا* وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا[سورة الفرقان، الآية: 68 ـــ 71].
وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا” 12، ويقول أيضا: “لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وَبِهِ مَهْلَكَةٌ، وَمَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنَامَ نَوْمَةً فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ رَاحِلَتُهُ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَرُّ وَالْعَطَشُ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِي، فَرَجَعَ فَنَامَ نَوْمَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا رَاحِلَتُهُ عِنْدَهُ.” 13
فلنتصور المشهدين: مشهد أرضي في فلاة قاحلة جرداء، وكيف فرح الرجل بعودة راحلته بعد أن أيقن بالهلاك، ثم المشهد العلوي الملائكي المنور بنور رب العالمين وأنوار التائب الصاعدة إلى السماء، ورب العالمين نفسُه يفرح بتوبة عبده؟ لا شك أن مخيلتي ومخيلتك عاجزة عن تصور ذلك.
لقد علم الله أن فينا ضعفنا، فخفف عنا شدة وطأة الصدمة أمام هذا المشهد المهيب فدلنا على وبم وكيف ومتى نفرح، يقول الله عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ[سورة يونس، الآية: 58].
إنه التوجيه الرباني الذي التقطه سيدنا أبو بكر بتحريه موافقة ربه لا مخالفته، فجعله شعارا له، اعترافا بفضل الله عليه، وهو فضل يستحق الفرح به وحده لا المال ولا أعراض الحياة الدنيا من مطامع أرضية، زائلة كلها 14، فكانت “تأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف، والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.” 15
على هذا الأساس كان الفرح بالتائب قيمة إنسانية خالدة، لأنها مما يفرح به الله ورسوله، وليس بما يفرح به قارون ولا صاحب تريليون ولا غيرهما وهم ظالمون لأنفسهم.
وفي زمن الفتنة والتيئيس من روح الله، يكون الفرح بالتائب وللتائب من شيم المسلم الذي امتلأ قلبه رحمة وعقله حكمة، ألا فلنفرح، ففي مثل هذه المشاهد يحب الله الفرحين.
[2] نفسه، ص: 25.
[3] نفسه، ص: 101.
[4] أبو عبد الله محمد بن بَطَّة العكبري الحنبلي، الإبانة، تحقيق: رضا معطي وغيره، دار الراية للنشر والتوزيع، الرياض، ج: 9، ص: 300، رقم الحديث: 236.
[5] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، هداية الرواة إلى تخريج أحاديث المصابيح والمشكاة، تحقيق: علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي، دار ابن القيِّم للنشر والتوزيع، دار ابن عفان للنشر والتوزيع، الطبعة: الأولى: 1422ه/2001م، ج: 1، ص: 71، رقم الحديث: 29.
[6] محمد رضا في كتابه: أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، تحقيق: الشيخ خليل شيحا، دار الكتاب العربي، الطبعة: 1424هـ-2004م، ص: 100.
[7] خرجه أبو يعلى في ” مسنده وابن السني في ” عمل اليوم والليلة ” وابن أبي الدنيا في ” الورع “وأبو بكر ابن النقور في الجزء الأول من ” الفوائد الحسان ” وأبو نعيم في ” الرواة عن سعيد، ابن منصور “، انظر السلسلة الصحيحة، ج: 2، ص: 71.
[8] محمد رضا في كتابه: أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، تحقيق: الشيخ خليل شيحا، دار الكتاب العربي، الطبعة: 1424هـ-2004م، ص: 100.
[9] ابن عساكر: تاريخ دمشق [65/249]. [3]-، أحمد سحنون دراسات وتوجيهات إسلامية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر الطبعة: الثانية: 1992م، ص: 296.
[10] ابن كثير، البداية والنهاية، مطبعة السعادة – القاهرة ، ج: -، ص: 301. https://shamela.ws/book/23708
[11] ابن العديم، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق: سهيل زكار، دار الفكر ج: 9، ص: 4005.
[12] الشيخ الطبيب أحمد حطيبة ، شرح رياض الصالحين، ج: 29، ص: 2. رواه مسلم، http://www.islamweb.net
[13] متفق عليه.
[14] سيد قطب، في ظلال القرآن، تفسير سورة يونس – الآية: 58، https://quran-tafsir.net/qotb/sura10-aya58.html#p1
[15] نفسه.