كثيرا ما نسمع أن الطبع يغلب التطبع، وأن الخُلق كالخَلق لا يقبل التبديل أو التغيير، وأن من شب على شيء شاب عليه. إلى أي حد يمكن أن تكون هذه المقولات صحيحة ؟ خصوصا إذا نظرنا إليها من زاوية شرعنا الحنيف الذي جاء في بيئة ينقصها من الأخلاق الكثير، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارمها، وليزرع في نفوس أصحابه محاسنها، فالزرع إذا حفته العناية وأحيط بالرعاية ورعي بالسقاية لاغرو يأتي أكله بعد حين بإذن ربه.
صنف العلماء مكارم الأخلاق ومحاسن العادات في المرتبة الثالثة من مراتب المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وهي مرتبة التحسينيات التي تأتي – طبعا – بعد الضروريات والحاجيات.
فالمقاصد التحسينية هي المصالح التي وإن كانت لا ترقى إلى مستوى المقاصد الضرورية والحاجية إلا أنها شرط ضروري في وجودها يتم بتحقيقه تحصيلها، فالعلاقة بين هذه المراتب علاقة تصاعد وارتقاء وتكامل بحيث إن اختلت المقاصد التحسينية بإطلاق اختلت المرتبتان السابقتان بوجه ما، فأي خلل عام يلحق بهذه المرتبة يكون له تأثير بليغ وخطير يحول دون وصول الضروريات والحاجيات إلى الكمال المطلوب والسعادة المرغوبة.إذن فمكارم الأخلاق ومحاسن العادات تحتل موقعا مهما في شريعة الله وتكتسي أهمية عظمى في دين الله وإنما الدين حسن الخلق، لذا حث الإسلام على إفراغ الوسع وبذل الجهد في اكتسابها والتحلي بها بعد التخلي عن مساوئها، وإفراغ النفس من آثار شرورها، قال تعالى: قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فإمكان تغيير الأخلاق شيء وارد ومقدور لمن أراد الفلاح لا مناص من هذا وإلا لما قال الله تعالى مخاطبا حبيبه ومصطفاه: فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا، ولما خاطب عبيده قائلا: فاستقيموا إليه واستغفروه، ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حسنوا أخلاقكم، فلو لم يكن الأمر ممكنا ولا مقدورا للمكلف لما جاء الخطاب بصيغة الأمر المفيدة للوجوب، فشرط التكليف القدرة، ولو امتنع تغيير الأخلاق لما كانت للوصايا والمواعظ وأحاديث الترغيب والترهيب أي حاجة أو ضرورة. فالله خلق الإنسان وخلق فيه القدرة والقوة لقبول الوصول إلى الكمال الخلقي وطلبه، إذا تحقق شرط التربية، وتربية النفس تتعلق باختيار المرء لذلك، واتخاذه قرار التغيير، وتأديب النفس وتهذيب القلب لا يأتي جملة بين عشية وضحاها وإنما يحتاج إلى ترويض وتدريب. فلو أراد الإنسان أن يقتلع من نفسه صفة من الصفات التي لا يرضاها ولا يحمدها بالجملة لما استطاع ذلك وعجز عنه، لكن لو أراد أن يقهر نفسه ويطوعها ِلمَا أراد بالرياضة والمجاهدة والدربة لقدر على ذلك، وقد أمرنا الله أن نغير ما بأنفسنا وعلمنا سنة التدرج؛ فهذا شرب الخمر رذيلة الرذائل وأم الخبائث كلنا يعلم المراحل التي مر منها حتى صدر حكم تحريمها النهائي، كل ذلك لينعم الإنسان بالسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، وكل ذلك تحقيقا للمقاصد الشرعية من وجه التكملة والتتمة.
الجبلات مختلفة
صحيح أن طبائع بني الإنسان ليست على وزان واحد فبعضها سريعة القبول للتغيير وبعضها بطيئة الاستجابة، وهذا الاختلاف ناتج عن سببين اثنين ذكرهما الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه ميزان العمل:
أحدهما باعتبار نوع القوة التي تحتاج إلى تقويم، فالنفس البشرية تجلبها ثلاث قوى متفاوتة من حيث التقدم في الوجود، قوة الشهوة وقوة الغضب وقوة التفكر، وأصعبها تغييرا وأعصاها على الإنسان قوة الشهوة فإنها أول ما يخلق مع الإنسان وأقدم القوى وجودا وأشدها تشبثا والتصاقا، فإنها توجد معه في أول الأمر حتى أنها توجد في الحيوان الذي من جنسه، ثم قوة الحمية والغضب بعده، وأما قوة الفكر فإنها توجد آخرا.
السبب الثاني: أن الخلق الحسن الجديد الذي يحب المرء أن يتحلى به ويكون صفة لازمة لنفسه يتأكد بالعمل بموجبه وتكرار العمل بمقتضاه، وباعتقاد كونه حسنا مرضيا، يرضاه الله ورسوله والأمة جمعاء. والناس متفاوتون في الإقبال على الأعمال، والسابقون هم المقربون.
الناس في قبول التغيير مراتب
ذكر الإمام الغزالي أن الناس في قبول اكتساب الآداب النبيلة أربع مراتب:
الأولى: هو الإنسان الغافل أي الجاهل الذي لا يعرف الحق من الباطل والجميل من القبيح، فيبقى خاليا عن الاعتقاد وخاليا أيضا عن تقوية شهواته باتباع اللذات، فهذا أقرب إلى زرع الأخلاق الحميدة فيه لا يحتاج إلا إلى تعليم مرشد وترشيد معلم، وإلى باعث من نفسه يحمله على الاتباع فيحسن خلقه في أقرب وقت.
الثانية: هو الإنسان الضال الذي يكون قد عرف قبح القبيح ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له شر عمله أن يتعاطاه انقيادا لشهواته وإعراضا عن صواب رأيه، فأمره أصعب من الأول إذ تضاعفت علته وتركبت، فعليه وظيفتان: إحداهما قلع ما رسخ فيه من كثرة التعود على الفساد، والأخرى صرف النفس عن ضده؛ بمعنى تخلية نفسه أولا من الرذائل وتحليتها ثانيا بالفضائل.
الثالثة: وهو الإنسان الفاسق الذي يعتقد الأخلاق القبيحة من وجهة الشرع أنها الواجبة والمستحبة والمحمودة وأنها الحق الذي يجب أن يربي المرء نفسه وأهله عليها، فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على النذور، إذ تضاعفت عليه أسباب الضلال، ومن ثم فصاحبها يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت ليستقيم حاله.
الرابعة: هو الإنسان الشرير أي هو الذي يكون مع وقوع نشوءه على الاعتقاد الفاسد وتربيته على العمل به يرى فضله في كثرة الشر وهلاك النفوس، ويتباهى به ويظن أن ذلك يرفع من قدره، وهذا أصعب المراتب.
فالله إذا أراد بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الناس جاهلون بعيوبهم، يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجدع في عين نفسه.
طرق معالجة الهوى وتغيير الأخلاق
إن الأخلاق الفاضلة إن لم تكن بالطبع والسجية فهي قابلة لأن تصبح صفة لازمة للنفس بالتعلم والاعتياد والتكلف الاختياري ( إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ) وهذا يحتاج إلى تدرب وممارسة، وقبله صحبة ذوي الأخلاق العالية، وملازمة ذوي الآداب النبيلة كما قال أحد العارفين: (اصحب أرباب القلوب يصير لك قلبا )، بهذا تتقوى الفضيلة شيئا فشيئا إلى أن تصبح جبلة وصفة لازمة للمرء.
فكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا ولكن يكمل بالنشوء والتربية بالغذاء ( فكذلك النفس تخلق ناقصة وإنما تكمل بالتزكية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم، وكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة، فإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه، فكذا النفس منك إن كانت زاكية طاهرة مهذبة الأخلاق فينبغي أن تسعى لحفظ صحتها وجلب مزيد قوة وصفاء إليها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى في جلبه إليها) فالرذيلة الموجبة لنقصان النفس يكون علاجها بعمل نقيضها ولو تكلفا؛ فعلاج الجهل التعلم تكلفا، وعلاج البخل التسخي تكلفا، وعلاج الكبر التواضع تكلفا، وعلاج الشره الكف عن المتشهى تكلفا، إلى حين تستأنس النفس بهذه الأعمال الطيبة فيعملها البدن طوعا لا كلفة.
فكل تغيير ينشده الإنسان يلزمه النظر في حال نفسه ليعرف عيوبها، وكل تغيير للعيوب يلزمه مجاهدة ورياضة بالأعمال الصالحة حتى تزكو النفس وتسمو الأخلاق، فالعلاقة بين أعمال النفس الباطنة وأعمال البدن الظاهرة وثيقة جدا حيث تتأثر النفس بالعمل الصالح فتخشع وتستسلم لله طوعا، و يتأثر البدن بأحوال النفس الطيبة فيصلح ويستقيم أمره جميعا قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجسد لمضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . إن تزكية النفس يستوجب اعتياد الأفعال الصادرة من النفوس الزكية الكاملة ومحاكاتها، فإذا صار ذلك العمل معتادا بالتكرر مع تقارب الزمان حدث منها هيئة للنفس راسخة تقتضي تلك الأفعال وتتقاضاها بحيث يصير ذلك له بالعادة كالطبع، فيصبح ما كان يستثقله المرء من الخير و يتباطأ في فعله خفيفا على النفس، فمن أراد أن يحصل لنفسه خلق من الأخلاق الفاضلة أو أدب من الآداب الرفيعة فعليه بأمرين اثنين:
الأول: المواظبة على تكراره؛ إذ العلاقة بين النفس والبدن متبادلة كما سبق بيانه، إذ بأفعال البدن تكلفا يحصل للنفس صفة، فإذا حصلت الصفة فاضت على البدن فاقتضت وقوع الفعل الذي تعوده طبعا بعد أن كان يتعاطاه تكلفا. وأكثر من هذا جعلت قرة عينه في هذا العمل الصالح المكتسب أو الخلق العظيم المتعلم.
الثاني: تقارب الوقت؛ إذا كان تغيير ما بالنفس وتحصيل كمالها لا يتحقق بعمل يوم واحد، كذلك لا يحرمها ذلك بعدمه في يوم واحد إلا أن تعطله في ذلك اليوم الواحد يكون مدعاة لغيره، وهكذا يتداعى قليلا قليلا حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل والتعليم والتدريب فيفوته ما كان يطلبه ويرغب فيه كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فكما أن عمل الليلة لا يحس بأثره في تفقه النفس فإنه يظهر شيئا فشيئا مثل نمو البدن، وارتفاع القامة، فكذلك الطاعة الواحدة قد لا يحس أثرها في النفس وكمالها في الحال، ولكن ينبغي أن لا يستهان بها فإن الجملة المؤثرة جمعت من الآحاد. والمعاصي كذلك ينبغي أن لا يستهان بصغارها فإن اللمم قد تصبح كبائر، إذ القليل يدعو إلى الكثير فينتهي الأمر بحرمان السعادة في الدنيا وفوت النعيم في الآخرة ، قال علي بن أبي طالب: الإيمان يبدو في القلب نكتة بيضاء كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان ابيض القلب كله، وإن النفاق يبدو في القلب نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد، فإذا استكمل العبد النفاق اسود القلب كله.
إن فعل العبادات وترك المحرمات وإن كانت المواظبة عليها بمجاهدة النفس فيه الخير الكثير إلا أن الفعل والترك مع الاستثقال والكراهة لا تبلغ بصاحبها إلى الكمال الإيماني المنشود كما لو كانت عن طواعية ورغبة ومحبة وجد في الطاعة، قال تعالى: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين فإن استطعت أن تعمل في الرضا لله فاعمل وإلا ففي الصبر على ما تكره خير كثير. لكن بلوغ الكمال الإيماني والخلقي يفتقر إلى الدوام والاستمرارية يقول الغزالي رحمه الله: لا يكفي في نيل السعادة استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي لأن يكون ذلك على الدوام في جملة العمر، وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة أرسخ وأكمل، ولذلك لما سئل عليه السلام عن السعادة قال: طول العمر في طاعة الله، ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت، فإن الدنيا مزرعة الآخرة.
وجملة القول أنه يجب على المؤمن أن ينظر في حال نفسه فإن وجدها مهذبة فليحفظها وليحمد الله على ذلك ويشكره ليزيده، وإن وجدها خلاف ذلك فليعمل على تقويمها وردها إلى حد الاعتدال الذي يقتضيه الشرع والعقل معا. فقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام: يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مدخل الأبرار، وإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أضله تحت عرشي، وأن أسقيه من حظيرة قدسي، وأدنيه من جواري.