مر عام على طوفان الأقصى، ليعيد قضية فلسطين، أرض الإسراء والمعراج، إلى الواجهة ويذكر هذه الأمة أن القضية ليست قضية فلسطين وحدها وإنما هي قضية أمة بأسرها، أمة الأصل فيها الوحدة ولكن مزقتها الفتن وزادت الحدود من تجزئتها، ولو لا هذه الفرقة ما استُبيحت مقدساتها وما هُتكت أعراضها وسُلبت خيراتها.
فكيف لأمة هذه حالها أن تهُب لنجدة جزء منها وهي جريحة كجندي مبتور الأطراف في ساحة الوغى؟ كيف لأمة المليار أن تخرج من غثائيتها لنصرة المظلومين وحمل رسالة السلام للإنسانية جمعاء؟ كيف لأمة نزفت جراحاتها، وما فلسطين إلا جرحها الغائر، أن تستعيد عافيتها لتضمد جراحات المقهورين في عالم يفتك فيه القوي بالضعيف؟
إن مصير الأمة وفاعليتها رهين بسلامة قلوب أفرادها، شعبا وقادة، فهي -أي القلوب- البوصلة التي تحدد اتجاه سيرها، فمتى كانت سليمة معافاة من “داء الأمم” 1 فإن الأمة تسير في مسار الخيرية الذي أريد لها والذي حُدِّدت معالمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله؛ قال الله تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ[آل عمران:110]، ومتى افتقدت قلوب الأفراد معاني الإيمان والاستقامة افُتقد الدين من واقع الأمة فتفقد بذلك عزتها وريادتها.
لكن القلوب أصبحت لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا، إلا ما رحم ربي، فهي كما وصف الحبيب في حديثه عن الفتن: “والآخر-أي القلب -أسود مُرْبَادّاً (والربدة: شيء من بياض يسير يخالط السواد)، كالكوز مُجَخِّيّاً (مائلا الذي لا يلبث فيه شيء)، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه” 2، أي أن القلوب يزول عنها نور الإيمان بسبب ظلمة المعاصي، وتميل عن الحق فلا تعي خيرا ولا تقبل إلا ما يمليه الهوى والشيطان، و”سواد الأمة يعيش إسلاما أعرابيا سطحيا لم يدخل الإيمان في القلوب، والنفاق يتغشَّى القلوب ويهجم ويُراوِد ويتزيَّن ليُغري” 3
إذن فهذه القلوب المريضة بسبب الغفلة وتوارد الشهوات والشبهات عليها، تحتاج إلى من يذكرها ويُذهب عنها قسوتها، ويخلّصها من شوائب الفتنة ويكرِّه إليها الفسوق والعصيان، تحتاج إلى من يرتقي بها إلى درجة القلوب السليمة المخبتة إلى ربها الخاضعة لجلاله، تحتاج إلى من يزكيها ويحصنها ضد الآفات بمختلف أنواعها ودرجاتها، “وما دامت في الناس بقية من إيمان وإسلام، جاءت مادتها من الوراثة أو من لقاء المؤمنين وسماع الكلمة الحسنة، ففي تلك القلوب مطمع أن تلين إلينا وتميل وتستمد” 4
وقد أخبرنا اللطيف الخبير بخلقه أن سنة التغيير مرتبطة بتغيير ما بالأنفس، يقول سبحانه وتعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[الرعد، : 11]؛ أي “لا يغير نعمة أو بؤسا ولا يغير عزا أو ذلة، ولا يغير مكانة أو مهانة إلا أن يغير الناس” 5 فالخروج من ذلة إلى عزة ومن إخفاق إلى تمكين، رهين باستقامة النفوس وإحياء فطرتها، وهو تغيير نابع من القلب باعتباره «مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد” 6، فـ “القلب مكمن الداء، فإن صح وسلم فهو مركز الإشعاع، وهو العنصر الحاسم في معادلة وجود الأمة وانبعاثها” 7؛ إذن فصلاح القلب بالإيمان وتحصيل شعبه شجرة مباركة “تؤتي أكلها كل حين” يجنى ثمارها الفرد في الدنيا والآخرة وتَحْيى به الأمة وتزهر على المستوى القيمي الأخلاقي والمستوى المادي بجميع أشكاله.
ومن سنن الله في الكون، أن التمكين يكون لعباده المؤمنين العاملين الآخذين بالأسباب، و “المدد الغيبي خصوصية تتنزل عندما تتحقق في قلوبهم معاني الإيمان وفي سلوكهم شعب الإيمان” 8، فمهما بلغت الحضارة المادية المُعرضة عن ربها من أوج وعظمة فمآلها إلى زوال، لتترك الريادة لعباد الله الصالحين، “والوارثون على الأبواب. متى صلح المسلمون لوراثة الأرض فسنة الله وعد غير مخلوف. وشروط الصلاح معروفة” 9.
وهذا الصلاح يكون بتربية قرآنية تجسدت في رسول الله صلى الله عليه السلام وتشربها صحابته بفضل صحبتهم له صلى الله عليه وسلم وما زالت أسرارها ومعانيها القلبية تُنقل من جيل إلى جيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أي أن القلوب تستمد استقامتَها على الدين ويُقَوّم ما اعوج من فطرتها بصحبة أهل الله، لهذا أمرنا الله بمعية المؤمنين الصادقين، نتعلم منهم حب الله ورسوله وحب المؤمنين ونقتدي بهم ونتشرب منهم معاني الإيمان ونتذوق بصحبتهم حلاوته، وتُتَرجم هذه المعاني القلبية أعمالا ظاهرة خالصة لله تعالى تظهر ثمراتها على مستوى الفرد والجماعة.
نشاهد يوميا مشاهد تتفطر منها القلوب وتذرف منها الدموع، من تقتيل وتدمير وتشريد وإبادة لإخوتنا، مشاهد تفننت آلة الكيان الغاصب في رسم خطوطها أمام مرأى العالم، فمصيبة المسلم عظيمة وهو يرى إخوته يقَتَّلون ومقدساته تنتهك، والأعظم من ذلك والأدهى أن يموت قلبه ولا يتحرك لنصرتهم بما أوتي من وسائل، والأمَرُّ أن يتعود المشاهد ولا يستنكرها ويدير ظهره عن القضية وكأنها لا تعنيه، وما هذا إلا لعلة في قلبه تعطلت معها الولاية في الله الواجبة بين المؤمنين والتي تقتضي محبة صادقة؛ برهانُ صدقها نصرة بالمال والنفس، ودعاء لا يتوقف بالنصر والتمكين، واستنكار بالقلب واللسان والقلم وبكل الوسائل المتاحة والمشروعة.
ويصف لنا الحبيب صلى الله عليه وسلم علاج ما يعتري القلوب من بلى الإيمان في قوله: «جددوا إيمانكم، قال أبو هريرة: كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله»، وهذه الكلمة أعلى شعب الإيمان، والإكثار منها يُذكر المسلم بربه وبمصيره ويذهب عنه الغفلة عن الله واليوم الآخر، ويربطه وجدانيا بكل من قال لا إله إلا الله ويذكره بما لهم من حقوق عليه، والإكثار من قول «لا إله إلا الله»، “لها معنى واسع غير الذي يتبادر إلى الذهن وهو الإكثار من القول باللسان، فإن القول بالمعنى الذي يقصد في لسان العرب يشمل القول باللسان، والقول بالجوارح، والقول بالقلب” 10
ولا يمكن أن تكون نصرة وتمكين وبناء للأمة إلا بتخلق أفرادها بالإيمان وشعبه، “فالأمران متلازمان: فلاح المؤمن في طريقه إلى الله تعالى، وفلاح جند الله في إحراز النصر وإقامة دين الله في الأرض” 11، وقد اجتهد الإمام عبد السلام رحمه الله في تصنيف شعب الإيمان في عشر خصال تتناسب فيما بينها، ربط فيها بين الخلاص الفردي والجماعي، فأولها صحبة وجماعة حيث “تبدأ رحلة الوارد على الجماعة من المودة واللقاء الرحيم ثم تصعد على مراقي الذكر ثم الصدق ثم العلم ثم العمل ثم السمت ثم التؤدة ثم الاقتصاد إلى ذرى الجهاد” 12، فخلاص الفرد لا يعني الانزواء والانعزال عن حمل هم الأمة، ولكنه رهين بالجهد المبذول لإحياء الفطرة وبناء الأمة وحمل رسالة الإسلام إلى الإنسانية جمعاء.
وبقدر ما ترسخ في القلوب من محبة لله ورسوله والمؤمنين وبقدر ما تجلى فيها من خضوع تام وعبودية خالصة لله عز وجل يأتي النصر، فـ “تحقيق العبودية لله عز وجل، والتحرر الكلي من سلطان الهوَى هو الشرط الأول الضروري لتأهيل الفرد المؤمن للانخراطِ عن كفاءة في صف جند الله. وإن جندَ الله لا يكون جندا لله إلا إن سلمت القلوبُ فصلَحَتْ لتكون وِعاء لرحمة الله عز وجل الجامعةِ المؤلفة”، 13 فهذه العبودية التي لا شائبة فيها تخلص الفرد من أنانيته وتحرره من سلطان الهوى وأسْر العادة وتنقله من إمّعة خاملة لا إرادة لها إلى شخصية ربانية مجاهدة تجمع بين جهاد النفس وجهاد بناء الأمة وجهاد العدو.
وقد وصف الله عز وجل من يرث الأرض بعباده الصالحين؛ يقول سبحانه وتعالى: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون[الأنبياء: 105]، ووصف في سورة الإسراء من يقهر بني إسرائيل بعد عتوهم وفسادهم بـ “عباد لنا” يقول سبحانه تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا[الاسراء: 5]، فقد نسبهم إليه، وما تشرفوا بهذه النسبة إلا أنهم حققوا الغاية من خلقهم وهي العبودية، كما ذكرهم بصيغة الجمع لأن معاني العبودية قد تحققت وبدت تجلياتها في الأمة، ووُصفوا بالصلاح في الآية الأولى وهو ضد الفساد الذي فيه مخالفة حكم الله وشرعه، ووصفوا بالقوة والبأس في الآية الثانية ويتضمن الأخذ بالأسباب والإعداد المادي، وفي سياق الحديث عن فساد بني إسرائيل ونهايتهم يأتي قوله تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ [الإسراء: ٩]، وفيه ملمح أن دواء علتنا في القرآن وأنه دليلنا نحو السعادة والفوز في الدنيا والآخرة، فهو روح يحيي القلوب والأمم إن تجسدت أحكامه أفعالا واعتُبر بحكمه وأمثاله.
[2] قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا. فأي قلب أُشرِبَها نُكِتَ فيه نكتة سوداء. وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء. حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض. والآخر أسود مُرْبَادّاً، كالكوز مُجَخِّيّاً، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه”. أخرجه مسلم في “كتاب الإيمان” من صحيحه، باب: عرض الفتن على القلوب، رقم الحديث: 144.
[3] سنة الله، عبد السلام ياسين، ص: 51.
[4] نفسه، ص: 51.
[5] في ظلال القرآن، سيد قطب، 5/ 78
[6] من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: «… ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب». خرجه البخاري، كتاب الإيمان باب فضل من استبرأ لدينه، رقم 52. ومسلم، كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشّبهات، رقم 1599، واللفظ له.
[7] الإحسان، عبد السلام ياسين، 1/ 22
[8] سنة الله، ص: 11، بتصرف
[9] محنة العقل المسلم، عبد السلام ياسين، ص: 94
[10] الفطرة وعلاج القلوب، عبد السلام ياسين، ص: 7.
[11] المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، عبد السلام ياسين، ص: 390
[12] نفسه، 389
[13] العدل: الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، ص: 59