من نسائم هواك

Cover Image for من نسائم هواك
نشر بتاريخ

مطلع

أقبل الربيع المحمدي ضاحكا مستبشرا.. يغرد مع الطير، ويهتف في البحر مع الموج، ويُصفّر بين الجبال مع الريح، ويقفز من تحت ألوان الزهر.. يعلو في السماء كقوس قزح، يحاكي الشمس في خيلائها، ويلمع كالنجوم في زهو وفرح.

أقبل كما يقبل الربيع بعد خريف واجم.. تخلع بمقدمه الأرض عبوسها، وتتزين بأحلى فساتينها، وتُبعد السماء برقها ورعدها وتُطِل ببسمة دافئة، تغشى الأفئدة فتحييها.

أقبل ذاك اليوم، الذي خنست فيه الشياطين، وأنشدت فيه الملائكة نشيد السرور بميلاده الشريف صلى الله عليه وسلم.

أقبل ذاك اليوم، الذي ابتلعت فيه الأرض آثام ساكنيها، وأخرجت كل جمالها وبركاتها.. وتكسّرت أنياب الشرك أمام إشراقة التوحيد، وأدبرت جحافل الشر، تلوك خيبتها وترجع القهقرى، لا تلوي على شيء.

قدم النور الوضّاء إلى عالم هاج وماج ظلما وانقساما، فأحضر معه العدل والإخاء، ونصب بين المستضعفين في الأرض راية النصر والاستخلاف، لمّا وحدوا وتوحدوا وانجمعوا بين يديه الكريمتين صلى الله عليه وسلم، فطوى عن أنفسهم المستعبدة المتألمة وحشة الضياع والانهزام، ومسح على قلوبهم بمحبّته ورسم على وجوههم الأمل برحمته، وغذى الفكر منهم بيقينه وثباته.

قدم صلى الله عليه وسلم إلى عالم اغتربت فيه الروح، نفخة الله الملك الوهاب في خلقه، لمّا سادت الشهوات وحكمت الأهواء، وترذّل الناس.

جاء لينذر ويبشر، ويذكر ويعلم ويربي، ويكون القدوة العظمى، فكان ما كان من أمر هذه الأمة العجيب؛ أمة الإسلام.

في تطلّعٍ وترقّب

أقبل الربيع المحمدي، فتطلعت معه قلوبنا التوّاقة إلى الحب بشوق كبير إلى ذلك اليوم، الذي ابتهجت فيه كل العوالم والأكوان بميلاد خير من أَحبّ وخير من أُحِبّ.

تكاد تتدحرج مُتأوهة، من دواخلنا المهزومة لتقف ثانية على تلك الربوة النّضِرة، في انتظار الإشراقة البهية لشمس خير البرية، وتُنْشد كما أنشد الأنصار، وتستقبل كما استقبلوا في عزم وإيثار:

يا قُرة العين يا طه بمهجتنا

من فرط حبك أشواق لها غلبُ

فضل من الله أن هام الفؤاد بكمُ

وكل قلب بلا حب لكم خرِبُ

زادي لآخرتي من قبل صالحة

حبي لكم ولفضل الله أرتقب (1)

وفي ذلك الانتظار الجميل المتأمل، تترقرق اللهفة وتتداخل والشوق، فيتمازجان، فيصبح في الانتظار لذة الرجاء، وفي الرجاء لذة العبادة، وفي العبادة لذة الحب، وفي الحب لذة الشكر والحمد.. وتلك تلك والله هي السعادة، وهي البداية الموفقة.

في حيرة السؤال

– فهل بالإمكان أن تتجدد في هذا الشهر العظيم، شهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، نظرتنا للدنيا وللعالم من حولنا، وتتيقظ حواسنا لتتنبه إلى هذه الذات المنكسرة، فتعيد جبر الكسر، ورأب الصدع، وترميم ما تهادم واندثر؟

– هل يجوز لنا الاحتفال بذكرى مولده الشريف صلى الله عليه وسلم، كأنها ذكرى حدث ولّى، حين فاض السيل، وسقط إيوان كسرى، وانطفأت نار الشرك، وغارت بحيرة ساوة، وسقطت أصنام الكعبة.. وملأت الآفاق أنواره الجليلة، تطرد من أمام مقدمه الشريف صلى الله عليه وسلم كل عزوف عن الله، وكل صدود وكل ظلم وجور.

– هل بالإمكان أن يعود الاعتبار لهذه الأمة المنهوكة المسلوبة الضائعة الحائرة، إن هي احتفلت بهذه الذكرى كما يحتفل بذكرى ميلاد أحد أفراد العائلة؟

– وهل يمكن أن تتجدد فينا معاني الوحي الذي اتصل بالأرض يوم وُلد ويوم بُعث عليه الصلاة والسلام، وظل مرتبطا في القرآن والسنة؟

– وهل وهل وهل؟ أسئلة كثيرة تشرئب بعنقها في حيرة ترجو جوابا بلسما، يشُق بين الأفكار لمعة، تُجدد فهما وترسم أفقا أبعد.

وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم

تكلّست أذهاننا، وتيبست، لمّا طال العهد بنا، وقسا القلب، وجفا العنفوان أيامنا، فبِتْنا نتسَمّع آيات الله وكأنها تُتلى على أقوام طواهم الرّدى، وكأننا في حِلّ منها، أو كأنها في قدسيتها متعالية، حتى نظن ظن الواهم المُتخبّطِ، أنها جزء لا كل، وبركات نتصَيّدُها، لا أخلاق نعيش فضائلها وأنوارها.

سُئِلَت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن خُلُق النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: “كان خُلُقه القرآن” (2).

بأبي هو وأمي.. كان قرآنا يمشي؛ يتنزل عليه غضا طريا، فيتلقاه علما وعملا، وتزكية وخلقا، واستمدادا وامتثالا، وتفصيلا وإرشادا.

غيّر به أفهام قوم مالوا عن فطرتهم، وأشركوا بربهم، فترَدّوا عن سنا الإنسانية فهم كالأنعام بل هم أضل.

أخرجهم من الظلمات إلى النور، وبث فيهم من أنواره الشريفة ما به زكوا.

وهم رضوان الله عليهم – الصحابة الكرام والصحابيات الجليلات – تلقوا تلك الأنوار وذلك الإخراج بقلب يهفو إلى التحرر، وبفهم يُنازع الأهواء.

استقبلوه أول ما قُذف في قلوبهم نور الإسلام بمحبة تخطت العادات والأنانيات وقيود الإخفاق والخذلان، شيئا فشيئا حتى أصبح هو صلى الله عليه وسلم أحب إليهم من كل الخلق أجمعين. و“الآن يا عمر” (3) تحققت فيهم بناء ذاتيا لا يتزعزع، وانعكست في العالم صرحا عاليا واحدا موحدا.

لما أصبح فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع عنهم سبحانه العذاب، وتولاهم بنصره وفتحه.

والآن..

توقف الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف عند كونها ذكرى ولّت وانتهت.

نقابل بركاتها بمهابة وقدسية لا تتنزل إلى واقعنا فتسلط الضوء على رعونته، ولا على أنفسنا فتنبهنا إلى تشظيها..

وبذلك تمر الذكرى تلو الذكرى، لا تحيي فينا شيئا، ويظل حالنا على حاله، وجوهرنا خاويا إلا من عِلاّته.

إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم

ألم يأن الأوان لتخشع قلوبنا لذكر الله وما نزل من الحق؟

وهو صلى الله عليه وسلم جاء بالحق وصدع به، وأول الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ توقّدت في القلوب التي شاء الله تعالى لها الهداية، وسرت بأنوارها في أوصالهم، فرأوا عجبا.

هل آن الأوان أن تحيي الذكرى فينا ما مات، وتتوقد جمراتنا المنطفئة، تنير ذواتنا، وتفتح نوافذ قلوبنا المغلقة على مصراعيها، تستقبل الميلاد المعنوي في حبه صلى الله عليه وسلم، حبّ “الآن يا عمر” الذي يتجاوز اعوجاج النفس وسقمها إلى الكمال الإنساني في أبهى حلله وأجمل معانيه.

نتقفّى خطواته الشريفة، ونتلقى من خلال سيرته العطرة روح القرآن وخلق القرآن.

نسمع ونصغي بقلب اكتمل إيمانه، ونشطت أعصابه إلى: اقرأ باسم ربك الذي خلق فنقرأ وننتهي ونأتمر، ونغير ما بأنفسنا ليتغير حالنا إلى الأفضل.

“إن الله ينصر من ينصره، وإن رسالة الله إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم لا تنحصر في زمان ولا مكان. إنها امتداد لرسالات إخوانه الأنبياء قبله، لكنها رسالة شاملة تستغرق الزمان إلى يوم القيامة، والمكان والأجناس والأقوام. إنها رسالة للإنسانية خالدة” (4).

وجاء العيد

“جاء يوم العيد، يوم الخروج من الزمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم.

زمن قصير ضاحك؛ يوم السلام والبشر والضحك والوفاء والإخاء، وقول الإنسان للإنسان: وأنت بخير..

ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح السعادة، وإلى أهله نظرة تبصر الإعزاز، وإلى داره تدرك الجمال، وإلى الناس نظرة ترى الصداقة.

ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم، فتبتهج نفسه بالعالم والحياة.

وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل” (5).

“ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير، وليس العيد للأمة إلا يوما تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون الشعور الواحد في نفوس الجميع، يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام..

وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد..

وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة، وإلا ذاتية للأمم الضعيفة، وإلا نشاط للأمم المستعبدة، فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: أخرجي يوم أفراحك أخرجي يوما كأيام النصر” (6).

جاء عيدنا، وتهللت فيه الذكرى كالثريا، تتناثر ترانيمها وتتهادى في كل الأمكنة وعبر كل الأزمنة، لتنير وجودنا الإنساني وتجعل له علة وغاية، فيستعيد جوهرنا روحه، وتتحرك دماؤنا تجري، وتَجُبّ الصدأ والرين والوهن.

نولد من جديد، ونخرج من العدم إلى الوجود، تستقبلنا محبته العظيمة صلى الله عليه وسلم، وتشملنا رحمته وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين، وتبتسم لنا يداه الكريمتان تسقينا، وتضمنا إليه بحنو ورقة ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك.

إليك سيدي

هنيئا لي بمولدك

هنيئا لقلوب تشكلت بمحبتك

هي الجهل وأنت بها علم

هي الظل وأنت بها نور

هي العري وأنت لها ستر

هي بيداء ذوت معالمها

وأنت البناء: صرح ممرد

هي الخواء والدهر يُعاكسها

وأنت النبض ليس يُماثله نبض

يتسرب الزمان من يديها

فتعيده إليها.. يحبو ويرنو

وتتشوه تقاسيمها وتخبو

فيأتي جمالك إلى وجهها

تزهو الأيام فيه وتسمو..

هنيئا لنا بمولدك

هنيئا لقلوب انجمعت بمحبتك

هنيئا يا سر الوجود

هنيئا يا سيد الخلق أجمع

“وصلاة الإله تغمر حِبي

وسلام لقرة الأحداق” (7)


(1) ديوان قطوف، 1: القطف 113، الأستاذ عبد السلام ياسين.

(2) رواه مسلم.

(3) روى البخاري عن عبد الله بن هشام قال: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب. فقال عمر : يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك!”. فقال عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي!. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:” الآن يا عمر!”.

(4) عبد السلام ياسين، القرآن والنبوة، ص 45.

(5) مقال: اجتلاء العيد من كتاب وحي القلم، ص 22. مصطفى صادق الرافعي.

(6) مقال: المعنى السياسي في العيد من كتاب وحي القلم، ص 26، مصطفى صادق الرافعي.

(7) ديوان قطوف 1: القطف 24، الأستاذ عبد السلام ياسين.