نشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وترعرع فيها، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله قبل أن يهاجر إلى المدينة.
لقي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم من المشركين أذى كثيرا، كُذبوا وأُهينوا ونُبذوا، وانصفق عنهم عامة الناس، وهم المستضعفون لا عدد لهم ولا عدة.
لا عدد لهم ولا عدة، بالميزان المادي الصرف، أما بميزان الإيمان واليقين، فعددهم أكثر وعدتهم أكبر. والله أكبر.
كلمات أذكر بها في هذه المناسبة الغالية؛ مناسبة الهجرة النبوية. والهجرة ليست حدثا عابرا، ولكنها نقلة شعورية؛ فردية وجماعية.
ليست فقط هجر مكة، ولكنها هجر الشك والشرك والفتن والأدران. وليست فقط هجرة إلى المدينة، ولكنها هجرة إلى اليقين والتوحيد والإيمان؛ هجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كلمات سامية، وتسمو الكلمات بقائلها، كما تسمو بسياقها ودلالاتها. كلمات من قلب الهجرة عن الهجرة.
“لا تحزن إن الله معنا”
اشتد حزن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عندما رأى القافة (الذين يقفون الأثر) قد انتهوا إلى باب الغار الذي يقيمان فيه؛ هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم، في انتظار مناسبة الظرف، لتتمة هجرتهما إلى المدينة.
اشتد حزنه رضي الله عنه لما رآه من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتراه النصب، ودميت قدماه الشريفتان. روت كتب السيرة أنه رضي الله عنه قال: (نظرت إلى قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت، وعلمت أنه عليه السلام لم يكن تعود الحفاء والجفوة).
ما أعظمها من رقة لا تليق إلا بصاحب قد أدرك حقيقة مصحوبه. قال رضي الله عنه: (إن قتلت فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة) عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تحزن إن الله معنا” وقال “ما ظنك باثنين الله ثالثهما”.
ثبات وتثبيت ويقين مسلكه الصحبة، ومعية الله ثمن ذلك التصديق وجزاء تلك المحبة، التي لم تكن ادعاء، ولكن كانت حقيقة ماثلة، قدم الصديق رضي الله عنه دليلها في أكثر من مناسبة. فها هو رضي الله عنه يدخل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار، ويتلمس هل فيه من حية أو سبع، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما بنفسه.
“لا تحزن إن الله معنا” حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس خوف على النفس أو المال أو الولد. ما أعظمه من إيمان وتصديق أوصل صاحبه لتلك المرتبة الرفيعة؛ معية الله.
يقول الله عز وجل: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدۡ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذۡ أَخۡرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ ٱثۡنَيۡنِ إِذۡ هُمَا فِي ٱلۡغَارِ إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيۡهِ وَأَيَّدَهُۥ بِجُنُودٖ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِيَ ٱلۡعُلۡيَاۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة، 40].
إذ يقول لصاحبه تنبيه وإرشاد لمفتاح لا محيذ عنه لكل من أراد أن يتحقق بكمال الإيمان وكمال التصديق، حتى يفوز بمعية الله وسكينته ونصر من عنده وتمكين؛ إنه مفتاح الصحبة.
نال سيدنا أبو بكر ما ناله بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته “إذ يقول لصاحبه”؛ “لصاحبه”..
“إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها”
هذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام عندما أذن لهم بالخروج من مكة إلى المدينة.
الأخوة في الله امتزاج روح بروح، وتعلق قلب بقلب، تنسي من تنسم بعبيرها، وسار في رياضها، كل أصناف الأذى والوحشة.
أخوة جعلها الله، يقول الله عز وجل: وَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِي ٱلۡأَرۡضِ جَمِيعٗا مَّآ أَلَّفۡتَ بَيۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٞ [لأنفال، 63]. أخوة في الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.
هي هجرة إلى مجتمع الأخوة إذن؛ مجتمع الحب في الله والبذل والإيثار. يقول الله عز وجل في حق الأنصار رضوان الله عليهم: وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ [الحشر، 9].
الأخوة لا الفرقة، المحبة لا الصراع، البذل لا الشح، الإيثار لا الأنانية؛ هي الأسس التي بني عليها مجتمع الأمن والإيمان. “الدار والإيمان”، “دارا تأمنون بها”.
أمن في الدنيا، للتدرج على مراتب العبودية، تحقيقا لأمن الآخرة وأمانها فَلۡيَعۡبُدُواْ رَبَّ هَٰذَا ٱلۡبَيۡتِ ٱلَّذِيٓ أَطۡعَمَهُم مِّن جُوعٖ وَءَامَنَهُم مِّنۡ خَوۡفِۭ [قريش، 3-4].
“ربح صهيب، ربح صهيب”
ورد في سيرة بن هشام أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تذهب بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: آرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال فإني جعلت لكم مالي، قال فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “ربح صهيب، ربح صهيب”.
ربح لأنه قدم برهان صدقه. وأي برهان هو أوضح وأجلى من تنازل المرء عن ماله الذي أفنى عمره في جمعه.
إنها هجرة حب المال إلى مآل الحب؛ حب الله ورسوله والمؤمنين.
هل أنت إلا أصبع دميت.. وفي سبيل الله ما لقيت
قال ابن هشام: .. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالمدينة: “من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي؟” فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا. فلقي امرأة تحمل طعاما. فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت أريد هذين المحبوسين - تعنيهما – فتبعها حتى عرف موضعهما، وكان محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما .. ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه فقال: “هلْ أنْتِ إلَّا إصْبَعٌ دَمِيتِ، وفي سَبيلِ اللَّهِ ما لَقِيتِ”.
معاناة شديدة للصحابيين الجليلين، وتعذيب وأذى من قبل قومهما، لصدهما عن الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وحرص من المصحوب الأعظم، عليه أفضل الصلاة والسلام، واستجابة سريعة لندائه. وهبة لإنقاذ الأخوين، دون اكتراث بما يمكن أن يكون من أذى. إنه هجر التردد والخوف والاستكانة.
والمهاجر إلى الله ورسوله، كل عمله لله، قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ [الأنعام، 162]، وما تصيبه من مصيبة صغيرة أو كبيرة إلا يحتسبها عند الله عز وجل.
فاللهم اجعلنا من المهاجرين إليك وإلى رسولك الكريم.