كتاب “الإسلام والحداثة” للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، الذي تمت صياغة فصوله بداية باللغة الفرنسية ثم تمت ترجمته لاحقا إلى اللغة العربية، من الكتب التي أثّلها الإمام بأبعاد فكرية عميقة، والتي بقدر ما أنها تلامس بوضوح قضايا الأمة المعاصرة، بقدر ما تغوص في العلل التاريخية والمآلات؛ تعالج الماضي وتفكك الحاضر وتستشرف المستقبل، وهي بهذا تجعل الدّارس أو المطّلع الباحث أمام صعوبة تقديم قراءة شاملة في الكتاب، دون تفكيك متأنّ للفصول والمباحث.
لا أزعم في هذه الصفحات المعدودة أني بصدد تقديم قراءة حول كتاب “الإسلام والحداثة” أو أي فصل من فصوله، وإن كنت أهفو إلى هذا الشرف، لكن حسبي وأكتفي باستنباطات خفيفة أتحين فيها لحظات وجدانية، وقلّما أفوز بها، لأقتفي أثر إشارات هنا وهناك، تلم شعث بصيرة مرغوبة، وتفتح آفاقا لما انسدّ من أفهام مطلوبة، في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الأمة.
أعتبر هذه المحاولة -مسبقا- تأملات وليست قراءة مجرّدة من الحس، لاسيما أن صفحات هذا الفصل المعنون بـ”الجرح الفلسطيني” معدودة، لكنها بمضمون مكثّف من الأفكار والمضامين، التي إن تم التفصيل فيها ستتجاوز عشرات الصفحات دون مبالغة، ولن تسعها بالتأكيد هذه المحاولة المتواضعة.
فلسطين الابتلاء
من بين 353 صفحة، ومن خلال ثمانية فصول كاملة بعناوينها الفرعية وفقراتها المسترسلة، كان لافتا أن يخصص الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله عنوانا خاصا، بأبعاد لا متناهية من التأمل في أوضاع الأمة وتشتت مآلاتها الراهنة، من خلال الغوص في عمق قضيتها المركزية؛ القضية الفلسطينية بكل أبعادها الإنسانية، عنوانا لمبحث سماه “فلسطين الابتلاء”.
في حقيقة الأمر يعتبر الفصل الرابع من هذا الكتاب الفخم بعمقه وتنوع ما يمكن أن يستشف منه من أفكار ونظريات على المستويين: العام؛ بكل زخم التاريخ ومنعرجاته ومآلاته، وقوانينه المتحكمة في مساراته، ثم الغيب المستشرف. والخاص؛ الذي يهم المنطقة العربية وعمقها الإسلامي، وصراعهما الحضاري الوجودي مع الجسم الغريب عن جسد الأمة، الذي تم زرعه في قلبها عن قصد وغصبا من طرف الغرب الصليبي المتدثر بالصهيونية.
الفصل المعنون بـ”الجرح الفلسطيني” هو فصل منير لطريق الفهم لدى كل من يعتبر من أفراد وجماعات هذه الأمة أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو صراع تاريخي وجودي، لا يخضع لحسابات الحوار والتعايش والسلم المؤدية إلى الرضا بالأمر الواقع والتسليم؛ مهما كانت محاولات التغليف بعناوين وشعارات رنّانة حاجبة للحقيقة من قبل النافذين المسيطرين، سادة العالم، المهيمنين على الآني من تاريخ إنساني أوصلهم التداول الحضاري لقمته.
لكن المستضعفون حالا من المسلمين، ممّن يؤمنون بإدراك لا يتزحزح أن مفهوم التداول في القرآن أوسع من أن يخندق ضمن أفكار وتنظيرات وقوانين وضعية، وعوامل أريد لها أن تكون نواميس جبرية تتحكم في سير التاريخ تحدد له وجهته بشكل صارم، حتى وإن صيغت بجهد فلسفي، فإنها تجعل من الإنسان فاعلا وحيدا في تحريكه للتاريخ ضمن حتمية إجبارية توجه التاريخ ولا تتجاوز الإنسان.
يستهل الإمام عبد السلام ياسين نظراته حول القضية الفلسطينية كابتلاء جماعي لأمة مكلومة، من خلال جرد لمحطات من التاريخ المعاصر انتصر فيها اليهود وانهزم العرب، وينهيها بتساؤل شبه فلسفي: أهو وعد إلهي أم تداول حضاري؟ وبين الجرد والتساؤل أفكار قد تعتبر عناوين تحتاج للتفكيك قبل التحليل؛ قمت بتصنيفها ضمن إحدى عشرة فقرة مركزة:
– هزائم العرب وانتصار اليهود: تفكك المجتمع وخيانة القادة
– تواطؤ المجتمع والمؤسسات الدولية
– اليهود وهواية تزوير التاريخ
– أطماع اليهود في المنطقة تتجاوز فلسطين
– دَين لليهود على أوربا يؤديه العرب
– سيطرة اليهود على الإعلام وتلاعبهم بالأرقام
– سينما في خدمة المشروع والصهيوني
– مستقبل ملبد بالسحب
– شبح التدمير الذاتي
– النصر رهين بالاستحقاق
– وعد إلهي قرآني أم تداول حضاري؟
“Israël l’Epreuve restera là pour quelque temps jusqu’à ce que le milliard et demi de musulmans, quantité éparpillée, prenne conscience de son identité véritable. L’épreuve (pour que Dieu reconnaisse les fidèles et les distingue de ceux qui ne le sont pas) est une notion centrale en islam et à laquelle nous reviendrons, si Dieu le veut.
La promesse de Dieu explicite dans le Saint Livre est subordonnée à quelques conditions : foi, dispositions politiques et sociales, résistance et martyrs, préparation de longue haleine jusqu’au “jour de l’alternance”. La victoire se mérite” 1.
“ستظل إسرائيل ابتلاء مؤقتا، ريثما يدرك المليار ونصف المليار مسلم المتشرذمون هويتهم الحقيقية، لأن الابتلاء مفهوم مركزي في الإسلام يميز الله به الذين آمنوا، من الكافرين.
وعد الله جلي في كتاب الله، لكن تحقيقه رهين ببضعة شروط؛ بالإيمان، بالمؤهلات السياسية والاجتماعية، بالمقاومة والاستشهاد، وبالإعداد الطويل المتأنِّي إلى أن يحل «يوم التداول»، فالنصر رهين بالاستحقاق!” 2.
ونحن نتابع ما يجري الآن على أرض فلسطين وغزة بالخصوص، منذ السابع من أكتوبر 2023 تاريخ إطلاق الشرارة الأولى لطوفان الأقصى المبارك حتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار صباح التاسع عشر من يناير 2025، يبدو أن هذه الفقرة أعلاه كافية لفهم ما على أمة المليار ونصف المليار فعله بعد الابتلاء.
يبدو أن أهل أكناف الأقصى قد كتب لهم شرف إطلاق المبادرة الأولى، وهم المبشرون الباقون المرابطون، الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ بشارة نبوية تكفيهم وتكفي صبرهم وجلدهم وبذلهم إلى يوم الدين.. طوبى لهم.
1. هزائم العرب وانتصار اليهود: تفكك المجتمع وخيانة القادة
هل كان لا بد من هذه الهزائم العربية المتتالية أمام دويلة إسرائيل، حتى يظهر مدى تفكك المجتمعات العربية ورعونة حكـوماتها، حقائق مؤلمة! من خيـانة القـادة الذين سلّحوا جنودهم سنة 1948 ببنادق معطلة وذخائر فاسدة، غابَ الجنرالات المصريون عن ميدان القتال أثناء هجوم إسرائيل الصاعق سنة 1967 وانهمكوا في لذاتهم الآثمة.
أليست فعلا -كما يؤكد الإمام في هذه الفقرة- كانت آخر فرصة أمام مصر لتحارب الدولة الصهيونية نِدّاً لندٍّ، أضاعها الجنرالات برعونة مبكية؛ والأدهى أن الجيش المصري عوض ذلك انسحب بذل سنة 1973 بل وتخلى عن شعاراته الوطنية.
2. تواطؤ المجتمع والمؤسسات الدولية
أما منظمة الأمم المتحدة -يقول الإمام- فلطالما أصدرت قراراتها بإدانة إسرائيل لتنقضها الولايات المتحدة ولتضرب بها الدولة العبرية عُرض الحائط معتبرة إياها مجرد أوراق تافهة.
ونقول إن الأمر اليوم ازداد استفحالا بازدياد المنظمات الدولية عجزا؛ العجز الذي ظهر ما بقي مستخفيا منه جليا بعد الأحداث التي أعقبت طوفان الأقصى المبارك.
3. اليهود وهواية تزوير التاريخ
أليس هذا ديدنهم منذ النشأة الأولى؟ أو؛ أيمكن أن يغلب الطّبع التطبّع؟ وعند اليهود الطّبع راسخ لا يتزحزح، وطبعهم تحريف الكلم، والزور والتزوير، في الماضي والحاضر ولن يتغير شيء في المستقبل، “ولأن دولة يهود هي البنت المدللة لأمريكا البروتستانتية الولهى بالأساطير التوراتية، -يقول الإمام مؤكدا- فهي لا تتردد -مستقوية بجهاز دعايتها الأخطبوطي المتنفذ في أمريكا- في تضخيم أعداد ضحايا هتلر، مقتبسة من الخزان التوراتي المشترك مفاهيم معبئة مثل الخروج والمحرقة، رافعة شعار «أرض بدون شعب لشعب بدون أرض» لتصبح فلسطين أرضا خالية، إرثا ضائعا استرده الشعب المختار”.
4. أطماع اليهود في المنطقة تتجاوز فلسطين
هي حقيقة أصبح يعلمها الجميع، ولم تعد شعارا أو هدفا يتداوله اليهود في غرفهم المغلقة، “إن «الأرض الموعودة» المسترجعة ليست سوى مرحلة انتقالية نحو «إسرائيل الكبرى» التي ترسمها الخرائط الصهيونية، والتي تحتوي جزءا كبيرا من المشرق العربي (الأردن وسوريا والعراق ومصر) فإسرائيل تعمل بنفسها، معتمدة على حليفها الأساسي، المتمثل في الإحساس بالذنب الذي خلفته المحرقة الهتليرية”.
يؤكد هذه المعطيات خطب قادتهم والعروض العلنية أمام كاميرات وسائل الإعلام بخرائط تظهر بشكل واضح الأطماع المجالية الكبرى للصهاينة، التي لم يعد يعيق تنفيذهم لها إلا قرارا يصدر في الجهة الأخرى من العالم، وهي الجهة التي يمارسون فيها صنفا آخر من الحكم المطلق.
5. دَين لليهود على أوربا يؤديه العرب
وكأن الزعيم الألماني “أدولف هتلر” وحزبه النازي لم يقوموا بتصفية أحد سوى اليهود، وكأنهم لم يقتلوا أزيد من 20 مليون سوفييتي، وكأن ما قتله الحلفاء في الحرب العالمية الثانية لا يضاهي أو يتعدى ما قتله هتلر في نفس الحرب، وكأن الولايات المتحدة لم تستخدم المحرم من الأسلحة وعلى رأسها القنابل النووية.
فقط اليهود من تم ظلمهم في هذه الحرب، ليستمروا في ممارسة ضغوط المظلومية على الغرب، حتى تصبح هذه الضغوط “أسطورة مؤسِّسة للمطالب اليهودية تتمتع بالحماية القانونية، إذ تم التصويت في فرنسا لصالح قانون غيسو فابيوس الصادر سنة 1990 ليعاقب بصرامة كل من طعن في العقيدة السياسية الصهيونية وشكك مثلا في وجود أو حجم الإبادة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا النازية”. حتى لا تدرك فرنسا والغرب يوما أنها أدت ما عليها من دين وزيادة، وحتى تستمر في الاعتقاد الجازم ودوما بأن عليها “دينا تاريخيا يجب أن تؤديه للشعب اليهودي، ولا بد لهذا الدين أن يسدد بأي ثمن، وإن تطلب ذلك سحق المبادئ الديمقراطية التي ينافح الغربُ باسمها عن حقوق الإنسان، زعماً.
احتُلت أراضي العرب بدعم من الغرب، وأُعدّت لاستقبال الأجناس اليهودية المدعومة من الغرب، وأزهقت أرواح الأبرياء على مدى عقود وتم تهجير وترحيل وإبادة أصحاب الأرض وكل هذا بدعم من الغرب، ولم يؤدّ الدين بعد.
6. سيطرة اليهود على الإعلام وتلاعبهم بالأرقام
كما تم رسم جزء من صورة هتلر المتوحش والقاتل، جزء آخر من شخصيته تم تخصيصه للكاريكاتير، وتم جمع ودمج ما لا يجتمع أو يدمج من صفات في شخصية واحدة، وهي القدرة على التأثير في الجماهير، مع الإجرام والقتل، مع الخبال والجنون وعدم الاتزان، استطاعت الآلة الإعلامية الصهيونية أن تفعل هذا وتجعل هذا المزيج يجتمع في شخصية هتلر، وأصبح بفضل الدعاية اليهودية مجنونا أمام العالم ومحبوبا لدى الألمان المعتقدين في النازية، وعدوُّ الجنس البشري. وفي نفس الوقت تم تحميله تاريخيا مسؤولية قتل اليهود فقط دون بقية ضحايا الألمان النازيين البالغ عددهم “خمسين مليون نسمة منهم عشرون مليون سوفييتي”.
“تَغَنَّى وبكى اليهود طويلا على ضحايا هتلر البالغ عددهم الستة ملايين، ثم تراجع هذا الرقم إلى أربعة ملايين، ليصبح الرقم المنقوش مؤخرا على النصب التذكاري والمعترف به رسميا مليونا ونصف مليون”.
الإمام عبد السلام ياسين وهو يفضح هذه القدرة على التلاعب بالأرقام والإعلام لدى اليهود لا ينفي “فظاعة المجزرة الهتليرية، لأن إهدار دم ضحية بريئة واحدة -يهودية كانت أم غير يهودية- مرفوض في ديننا الإسلامي”. ونحن نؤكد على كلمة بريئة، نرنو ببصرنا إلى شاشات الأقمار الصناعية وهواتفنا الذكية، كيف تعامل المقاومون في غزة مع أسراهم، وأحيوا بذلك أخلاقا للحرب لم يعد لها وجود إلا في المصنفات التاريخية القديمة، القديمة جدا.
7. السينما في خدمة المشروع الصهيوني
إن أفضل هيئة دفاع يمكن أن تنصب نفسها مدافعة عن قضية معينة، هي السينما، وهوليود الأمريكية كمؤسسة سينمائية رائدة على مستوى العالم، حاضرة في جميع أنحائه متجذرة في ذهنية الشعوب، جعلت دورها، وقضيتها، ورسالتها الأساسية هي الدفاع عن اليهود والمشروع الصهيوني؛ يقول الإمام رحمه الله: “حين يتكفل مثل هؤلاء المحامين البارعين بالقضية اليهودية، تتجذر في ضمير العالم، بينما ينمحي منه أي أثر لأي قضية أخرى، فلا نُصُبَ تبكي الستين مليون هندي أمريكي الذين أبادهم الرجل الأبيض المستكشف البروتستانتي الأمريكي، ولا لوحة تخلد ذكرى المائة مليون إفريقي أسود الذين هلكوا في قيعان السفن، بعد أن لم تعد حقول القطن الأمريكية تحتاج سوى عُشُر هذا القطيع الآدمي، أما الباقون فكانوا يموتون أثناء اعتقالهم أو خلال رحلتهم السعيدة، مغلولين مكدّسين في قاع السفن. من يفكر بعْد في مثل هؤلاء؟ الدولة اليهودية وحدها تستحوذ على القلوب والذاكرات!”.
ومن يفكر من المخرجين أو الممثلين الأمريكيين وغير الأمريكيين مهما علا شأنهم يتم وضعهم على الهامش، وهامش الهامش، وممارسة التشويه وقلب الحقائق في حقهم، والنماذج حول هذا الأمر معلومة ومعروفة ومتعددة.
8. مستقبل ملبد بالسحب
ما العمل؟ وما الذي على العربي والمسلم أن يفعله في ظل كل هذه الهيمنة المتغطرسة؟
يقول الإمام عبد السلام ياسين في هذه الفقرة: “لا ينبغي لصورة المعاناة هذه التي يروجها اليهود ويستغلونها أن تلهينا عن المشروع الصهيوني، وأن تمنعنا من الإحاطة ببعض السمات المزاجية لحماة الدولة الصهيونية وبعض سوابقهم، فالدولة العبرية صاحبة المشروع، وحماتها يطلبون المستحيل، يجتهدون مخاطرين بمستقبلهم لاحتلال أراضي ثلاثمائة مليون عربي والاستيلاء على اقتصادهم غير مهتمين بالدعم المقدم غدا من المليار ونصف المليار مسلم الذين سيدركون مدى أهمية الرهان الفلسطيني ويهبون لتلبية نداء إخوتهم”.
يقين في موعود الله هو هذا متجليا ومتدثرا بالنصوص القرآنية والقصص، مستشرفا لمستقبل قريب تُنكّس فيه أعلام الطغاة، أوليس هو استشراف نبوي من الأصل؟ ثم تكون خلافة على منهاج النبوة!
إن غدا لناظره لقريب، يكاد يتجلى لأرباب البصيرة كما تجلت الحقيقة لزرقاء اليمامة، وإن طوفان الأقصى لهو بشارة ربانية تنضاف إلى الاستشراف النبوي كشعاع شمس يسطع من وراء السحب الملبدة تثبيتا للقلوب واستبشارا بموعود إلهي قادم لا محالة.
يقول الإمام: “يبدو المستقبل ملبدا بالسحب إذا ما اعتبرنا عجرفة وطيش الرئيس الحالي للحكومة الصهيونية نتنياهو 3، واستنطقنا العقيدة اليهودية التي تجعل من «الأمميين» -غير اليهود- كائنات خلقت لتستغل بالإقراض الربوي خاصة، وبغيره من طرق الاستغلال. «أمميون» مصيرهم -حسب التأويل المتطرف للتوراة- الإبادة، إن هم حالوا دون تنفيذ مشاريع الشعب المختار.”
نرى مشروع الإبادة الآن في مستوى التوهج الذي أراده له الصهاينة، لكن التصدي فاق توهّجه بالفعل الجهادي الذي أطلقه الأشاوس يوم السابع من أكتوبر المبارك وأبهر العالم.
9. شبح التدمير الذاتي
قد ينجح الكيان الصهيوني في العديد من المجالات، وعلى مستويات متعددة؛ الاقتصاد وبناء الدولة وقوة الواقع السياسي الداخلي، وديمقراطيته، وإعطاء الانطباع بأنه جنة للديمقراطية تحيط بها صحراء من الديكتاتوريات العربية المتخلفة.
“لكن الدويلة المصطنعة المُكشّرة عن أنيابها يهددها شبح التدمير الذاتي. فهي ليست سوى عصابة من العشائر المتنافرة” 4.
التاريخ يكشف عن انقسامات داخلية للكيان الصهيوني -وكذلك حاضره-، تؤكدها التقارير الإسرائيلية نفسها، الانقسامات التي تتميز بالحدة والعمق قد تنهش جسد الكيان، الأمر الذي يجعل من فكرة الهوية المتجانسة مسألة غير قابلة للتنزيل، وتضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة الصهيونية في خلق القومية اليهودية الديمقراطية.
يضيف الإمام: “تظل الدولة التي يسندها حلفاؤها الغربيون منذ خمسين سنة تعاني من حركية عنصرية إقصائية تنخر كيانها من الداخل رغم الواجهة الديمقراطية، التي وإن كانت ناجعة لحد الساعة لا تمثل اللحمة الضامنة لبقاء البناء قائما”.
10. النصر رهين بالاستحقاق
هل يمكن أن يكون شبح الانهيار الذاتي كافيا لزوال هذا الكيان؟ موعود الله قائم، نستشرفه، ونعزي أنفسنا بتحققه “لكن يجب ألا نمني أنفسنا بالأحلام وننتظر انهيار المعتدي بفعل سحر خفي! يجب أن نفهم ونتحرك! علينا فهم التاريخ والاستعداد لموعود الله بالشرط المذكور في القرآن: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ٱلْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ 5.
“دامت مملكة أورشليم التي أسسها الصليبيون قرنين كاملين ثم طرد الفرنجة وتفككت الإمارات الصليبية التي كانت متناثرة في العالم العربي. كان النظام الإقطاعي السائد في المنطقة جائرا وغير إنساني لكنه ظاهريا كان مستقرا. كان نظاما يمارس الاسترقاق، إذ كانت الأراضي تباع أو تورث مع أقنانها الخاضعين للسوط لكنه كان يبدو مستقراً”.
الاستقرار نفسه الذي عليه قوة الظلم الذي تعيشه الأمة الإسلامية في هذا العصر، استقرار ظاهري هو هذا الذي نراه رأي العين ليس فقط الكيان الصهيوني الغاصب، بل راعيته أمريكا، بدورها على المسلمين ألا يغرهم ويرهبهم استقرارها الظاهري، قدرة الله فوق الجميع بشرط الفهم والتحرك.
“وعد الله جلي في كتاب الله، لكن تحقيقه رهين ببضعة شروط؛ بالإيمان، بالمؤهلات السياسية والاجتماعية، بالمقاومة والاستشهاد، وبالإعداد الطويل المتأنِي إلى أن يحل يوم «التداول»، فالنصر رهين بالاستحقاق”!
11. وعد إلهي قرآني أم تداول حضاري؟
التاريخ من وجهة نظر الإمام عبد السلام ياسين له مسار آخر يحتكم للقصص القرآني والاستشراف النبوي، ولا يتجاوز النظر الفلسفي وما اجتهد فيه العقل البشري، “فهم ناموس الله في الكون والتاريخ، وفهم قضائه وقدره كيف يظهر أحدهما بالآخر، وكيف يكون أولهما ستارا للثاني” 6.
إن ما يراه المسلم وهو يتدبر كتاب الله، وما جاء فيه من قَصص تحكي صعود ونهايات الأمم، والأحاديث النبوية الصحيحة التي تستشرف مستقبل الأمة ومن خلالها مستقبل العالم، يجعله ينظر إلى مسألة ونظرية التداول الحضاري بشكل غير الذي نظّر له المفكرون والفلاسفة، فهذا له قوانين من صنع البشر، وذاك تتحكم فيه الإرادة الإلهية لكن دون تحييد فعل البشر، إنها معادلة ضرورة الفعل البشري الجالب للتأييد الإلهي، ليس هناك ظهور مؤيد دون فعل حضاري.
إن سقوط الحضارة الغربية في ظل هذا الوضع المزري الذي تعيشه الأمة يعد مستبعدا للاعتبار السابق، رغم المؤشرات المستبطنة، وإنَّ تحقُّق النصر الموعود للأمة في ظل نفس الوضع سيبقى وعدا مؤجّلا إلى حين استفاقتها ونهوضها.
لنختم بهذه الفقرة ذات المغزى العميق من كلام الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، لنستجلي ما بقي غامضا من هذه المعادلة التاريخية العصية عن الإدراك:
“لقد لاحظ المؤرخ الإنجليزي الفطن توينبي ظاهرة تداول الحضارات، لكن يبقى سقوط الحضارة الغربية الحديثة وتحللها مستَبعداً في نظر العقل المنبهر بقوة الغرب وثرائه، بتنوع القدرات التي تمكنه من استغلال الطبيعة وترويضها، بل تدميرها.
أما المتفحص لنفسانية الإنسان الحديث -اليهودي الصهيوني مثلا- فيكتشف علامات واضحة للتحلل القادم لا محالة.
نعم! لكن وضع المسلم ليس أفضل من أوضاع غيره، فهو بالإضافة إلى انهياره الأخلاقي يعاني من البؤس المادي، من التخلف، من الظلم الاجتماعي، من التفكك السياسي. وتبقى القائمة طويلة.
لذلك يظل المسلم -إذا اعتبرنا الظرفية التاريخية ونفسانية الشعوب- مستبعد الترشيح لدور مشرف في الساحة الدولية، وتظل نظرية الدورات الحضارية مجرد فكرة هائمة.
لنُعرضْ إذن عن المؤرخين المنهمكين في تحليل الظروف والملابسات، ولنستعرض قصة أنبياء الله كما أوردها القرآن: كلما علت قرية وتجبرت واستكبرت عن طاعة ربها، حقت عليها اللعنة، وحاق بها العذاب، ثم أعقبتها أخرى أعدل منها وأقل فساداً. ذلك كان مصير عادٍ، قوم نبي الله هود، وثَمود، قوم صالح، وفرعون عدو موسى… وبذا يصبح المستضعفون الأذلة بالأمس محلّا لتنـزل النصر غداً، بشروط يجب توفرها. لأن القعود المتأمل والانتظار المطمئن لا يمنحان في عقيدتنا النصر”.
[2] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، مطبوعات الهلال، وجدة، ط1، 2000، ص 132.
[3] كان نتنياهو وقت تأليف كتاب الإسلام والحداثة رئيسا لحكومة الكيان الصهيوني، وهو حاليا رئيس للوزراء، وقد مرت العديد من الأحداث ولعل في ذلك حكمة إلهية.
[4] يعَامل اليهود السفارديم المهاجرون من البلدان العربية باحتقار كما يُعامل المواطنون العرب في إسرائيل. فهم مجردون من حقوقهم، وهم يجترون حقدهم على الأقلية الأشكنازية القادمة من أوربا، المتحكمة في مقاليد الدولة الصهيونية. سنسمع إذن الكثير عن الانشقاقات الحاصلة بين المواطنين المسخَّرين المخدوعين.
[5] آل عمران: 139-140.
[6] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، ط2، 1415/1994، ص 50.