من وصايا الإمام المجدد رحمه الله تعالى

Cover Image for  من وصايا الإمام المجدد رحمه الله تعالى
نشر بتاريخ

مقدمة

الحمد لله تعالى الحاث على التواصي بالحق والتواصي بالصبر بقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَفِے خُسْرٍ. اِلَّا اَ۬لذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ اُ۬لصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ. وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على الناصح الأمين، الحاض لكل مسلم على التعجيل بكتابة وصيته، حين قال فيما صح عنه: “ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، له شيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ” 1. ورحم الله عز وجل العارف بالله تعالى، الذي أسدى للأمة معروفا، فتعين عليها وفاء، شكر العارف والتعريف بالمعروف، رجل لما يربو عن أربعة عقود، وهو ينصح ويحاور، ويوصي ويحاضر، يدافع من يحاصر، يرشد من يهاجر، يحتضن من يناصر. بدأ مشواره الدعوي بنصيحة مفتوحة للحاكم ودائرته، فأوذي وصبر وصابر، وختم نصائحه في وصية مكتوبة بيده، ومسجلة بصوته، قبل وفاته بأحد عشر عاما، ومما جاء فيها: “ألا وإن لي أشياء أوصي بها من يسمع ويعقل” 2، والله نسأل أن يجعلنا ممن يسمع ويعقل، ويعمل ولا يهمل، آمين.

سنحاول في هذه المقالة، وبالاستناد إلى كتاب السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، للأستاذ عبد الكريم العلمي حفظه الله تعالى، خاصة من الفصل الثالث منه، أن نجلي بعض ما أوصى به الإمام المجدد رحمه الله تعالى، وبثه في كتبه ورسائله وتسجيلاته، وجسده في حياته بمواقف وسلوكات، كل ذلك في إطار ما يسمح به المجال. وسأحاول أن أبسط هذا الأمر من خلال محاور ثلاثة؛ أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم السداد والحكمة وفصل الخطاب، وأن يوفقني وإياكم لحسن التواصل والتوصيل، وأن يقدرني وإياكم لإحسان التفعيل والتنزيل، حتى نكون بحق من الجيل الفريد، جيل الأخذ بنية التنفيذ، وهذه المحاور هي:

1. الوصايا الغائية الثلاث.

2. الوصايا البنائية الثلاث.

3. الوصايا الوقائية الثلاث.

وسأعمل جاهدا على الاختزال والإجمال، دون الوقوع في الارتجال والابتذال، لكن هذا الجهد لا يلغي الرجوع إلى وصايا الرجل في مضانها الأصلية، وكذا الرجوع لكتاب السلوك إلى الله قراءة وتدارسا وتذكرا.

أولا: الوصايا الغائية الثلاث

ضمن الإمام المجدد رحمه الله تعالى وصيته المكتوبة بيده الشريفة، والمسموعة بصوته المبارك، – والتي كتبها وسجلها في أواخر ذي الحجة سنة 1422 هجرية، الموافق لأواسط مارس 2022 -، مجموعة من الوصايا الموجهة للأجيال القادمة، وقسمها إلى قسمين اثنين:

– القسم الأول: وصايا عامة

وصايا شاملة لسلوك المؤمن(ة)، أدرج فيها مجموعة من الوصايا المستخلصة من كتاب الله تعالى، خاصة سورتي الأنعام والشورى، ووصايا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، خاصة وصايا حجة الوداع، ووصاياه في فراش الموت، وورد فعل “أوصي” في هذا القسم 13 مرة.

– القسم الثاني: وصايا خاصة

وصايا مرتبطة بالخصال العشر، وجلها كانت بمثابة تذكير، بما أوصى وربى عليه محبيه طيلة حياته، من الخصال العشر، وهي لب المنهاج وأساسه، وقد ورد فعل “أوصي” في هذا القسم 13 مرة، وقد أفرد الخصلة الأولى “الصحبة والجماعة” بثلاث وصايا عدلت في مجموعها معنى ومبنى، ما أوصى به من وصايا مندرجة في باقي الخصال التسع، وهي التي سميناها “الوصايا البنائية”، والتي سنتناولها في المحور الثاني إن شاء الله تعالى.

لكن قبل الخوض فيها، نقدم لها بالحديث عن الوصايا التي سميناها بالوصايا الغائية الثلاث، والتي عرج عليها تلميحا لا تصريحا، حين حديثه عن مقصده من كتابة الوصية، وأجملها في أمرين اثنين: الترحم على العارف بالله، وتذكر المعروف الذي دعا إليه، وجلى ذلك بقوله: “وصية ليتذكر متذكر، ويدعو داع، فتلتئم أواصر الصلة، ويتحقق التزاور في الله، والتحاب في الله عبر الأزمان” 3، وقرر في هذا السياق حقيقة عظيمة نابعة من قلوب عرفت ربها، وتخطت جاذبية الطين والتراب، فقال رحمه الله تعالى: “لا تحبس الصلة، برازح الموت” 4، وأناط بالجماعة بعده مسؤولية عظيمة وجسيمة، ألا وهي أمانة “حفظ وتبليغ هذا الإرث للأجيال القادمة”. ويمكن حصر هذه الوصايا في ثلاثية جامعة لوصايا تفصيلية مندرجة ضمنها، حرصا على التركيز والاختزال وهي:

1. الوصية الأولى: سريان دستور الصحبة عبر الأجيال

فالتزاور والتحاب في الله عبر الأزمان، صلة متجاوزة لأبعاد الزمكان، متعالية على أبعاد الحياة والموت، لأن التزاور في الله كرامة، أكرم الله بها المؤمنين(ات)، فزيارة الأحياء للأموات في قبورهم، وتلاقي أرواح الأموات والأحياء في المنام، حقيقة غيبية لها عدة شواهد شرعية، لذلك يستحسن زيارة الإمام المجدد رحمه الله تعالى، وسائر أموات هذه الجماعة، وأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من السلف والخلف، بهذه النية العظيمة، مع التزام آداب الزيارة الشرعية، فمقابر الصالحين من مواطن إجابة الدعوة، على أن لا تضع يدا، ولا تقبل شاهدا، ولا تقعد على القبر، ولا تدوسه إلا اضطرارا، وتقف عند رأس الميت، تاليا ما تيسر من كتاب الله، داعيا مع الأحياء والأموات.

أما التحاب في الله عبر الأزمان، والدوام عليه؛ فهو درجة معتبرة من درجات الوفاء بالعهد، وبرهان على ما كان من مودة الدنيا والحب في الله، قبل أن تنقضي الأيام الفانية لأحد المتحابين في هذه الدار، ولتستمر الأيام الخالدة الباقية التي لا قياس لها بما مضى وانتهى، “فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل” 5، وتفعيل ذلك إنما يكون بحفظ الود، ورعاية حرمة المصحوب في حياته ووفاته. ويزداد حسن العهد وجوبا؛ وحفظ الود لزوما؛ ورعاية الحرمة تأكيدا؛ كلما علت مرتبة العشرة، وارتفعت درجة الصحبة، وسما ما كان بين السابق للآخرة واللاحق به، كما صرح بذلك صاحب المؤلف الأستاذ عبد الكريم العلمي حفظه الله تعالى، ومن آليات تعميق المحبة التي وجهنا إليها المعصوم صلى الله عليه وسلم، نجد إفشاء السلام؛ والتهادي؛ ومنها ختمات القرآن الكريم؛ والدعاء في الأوقات الفاضلة؛ ولزوم الغرز والطاعة والاقتداء؛ لأن “المحب للمحب مطيع” 6.

2. الوصية الثانية: سريان دستور المنهاج النبوي عبر الأجيال

فالصوت المبارك الذي قال: “أنا أسعد الناس إذا إن حصل في ميزان حسناتي أفواج من المحسنين كنت لهم صوتا يقول: من هنا الطريق، من هنا البداية” 7، لا يزال وسيبقى إن شاء الله تعالى يتردد في أسماع الأفئدة والعقول: “صدى وترجيعا يبلغه الله عز وجل آذانا واعية، وقلوبا صاغية، إن شاء ربنا الولي الحميد. صدى ترجعه إن شاء الله تعالى أجيال العدل والإحسان إلى يوم الدين” 8.

صلة تتجاوز التزاور والتحاب في الله، لتبلغ درجة الدلالة على الله، والصلة برسول الله، ما دامت الجماعة حافظة لعهد الصحبة، وود المصحوب رحمه الله تعالى، متمسكة بسره الذي بشر أنه باق في الجماعة، كما صرح بذلك صاحب الكتاب.

فالبدار البدار إلى بذل الجهد والوسع، فكرا وعملا، تطويرا واجتهادا، رحمة وحكمة، حتى نمكن لدين الله في القلوب، ولشرعه في الأرض، وحتى تسعد الأمة من ورائها الإنسانية دنيا وآخرة، ومن أراد الفهم حقا وعمقا عن الإمام المجدد، فليأخذ ما أثله مجموعا مجتمعا مندمجا، بلا انتقاء ولا إلغاء للسياق والمساق، ولا جمود وترك للاجتهاد، الذي لم يتوقف في حياته، ولن يتوقف بوفاته.

كل ذلك مع استحضار من رباهم، وبما رباهم، حتى منّ الله عليهم بولادة معنوية  في ظل أبوة روحية لا يطرأ عليها الفناء، فالإمام ليس مصحوبا مقبورا متبركا بهن بل أحيا الله على يديه أبناء وبنات روح، يخلفونه ويرثونه ويجتهدون في تبليغ إرثه، “سنة الله في الكون أن تسري الهداية بالميراث الروحي، كما تسري خصائص الجسم بالتناسل البيولوجي، ويسري من المصحوب المقبور لتابعه نورانية ولا شك، ولكنه لا تبلغ أبدا أن تعطيه الميلاد الروحي، الذي يوجدك في عالم لا تولد فيه، إن لم تكن لك أبوة، إن لم يزرع في أرض نفسك فحولة الأب الروحي بذرة الحياة” 9، ونشهد الله تعالى أن صحبته زرعت ولله الحمد، بذرة الحياة في القلوب، وسقت ونمت بمشيئة الله تعالى وكرمه.

3. الوصية الثالثة: سريان تبليغ هذا الإرث عبر الأجيال

كثيرا ما أوصى الإمام بالاجتهاد في تبليغ هذا الإرث، وذلك بالتحقق بشروطه، وبيان الكيف الذي يخرجنا من الوصف إلى الاتصاف بمواصفات معينة على التبليغ، ومن أهم هذه الشروط والمواصفات التي أشار إليها في شريط بعنوان: “كيف نبلغ هذا الإرث”، المسجل بتاريخ رمضان 1426 هجرية/ أكتوبر 2005 ميلادية، ابتداء بالحفاظ على هذا الإرث، ومرورا بعدم تضييعه بالتنافس المرضي، والأنانية الشيطانية، والكبر والادعاء، وحب الظهور القاصم للظهور، وهي عنده من خوارم الصحبة، ووصولا إلى تعظيم المؤمنين(ات)، والتخلق بأخلاق الجماعة، خاصة الذكر الكثير الموصل لصفاء القلوب، “فإن لم يكن في جماعة العدل والإحسان ذكر، فلسنا على شيء” 10.

ويَـا وَارِثَ الأَحْــيَــاءِ بَعْدَ انْـتِقَــالِهِمْ

إِلَى بَرْزَخِ المِيعَـادِ فَالـعَــرْضِ والـنَّـشْــرِ

تَـوَلَّ صِـحَـابِي بَعْدَ مَوْتِـي وَصِلْ لَـهُمْ

عَـوَائِـدَ فضْـلٍ مِـنْكَ يـا مُـولِيَ الخَيْــرِ

وَرَشِّــدْ رِجَـالاً يَا رَشِــيـدُ وَرَقِّــهِمْ

إلَى قِـمَّــةِ الإْحْــسَــانِ والعِـلْـمِ والـقَــدْرِ

لِــيَــبْــنُــوا صُــرُوحــاً لِلْخِـلاَفَـةِ بَــعْــدَنَـا

بِمِنْهَـاجِ خَــيْـرِ الخَلْقِ آخِــرَةَ الدَّهْــرِ

وَأَلْـهِـمْـهُمُ الصَّـبْـرَ الجَـمِـيـلَ وَكُنْ لَـهُمْ

مُعِـيناً قَوِيـّـاً يـا صَبُــورُ عَـلَـى الصَّــبْــرِ

لِكَيْلاَ يَحِيدُوا عَـنْ طِــلاَبِــكَ لَـحْـظَــةً

وَهُمْ فِي جِهَـادٍ في امتِـدادٍ وفي جَـزْرِ

فـصــلِّ إِلَــهِــي ثُـمَّ سَــلِّــمْ عَــلَــى الــذِي

خَـتَـمْـتَ بِــهِ وَحْـيَ الرِّسَـالَـةِ والـذِّكْــرِ 11

ثانيا: الوصايا البنائية الثلاث

ثلاث وصايا تظهر مدى تهمم الإمام المجدد رحمه الله تعالى بلب وجوهر هذا الأمر، طيلة حياته وحتى بعد مماته.

1. الوصية الأولى: الحفاظ على اقتران العدل والإحسان

حفظ واقتران إن على مستوى الفكر أو السلوك، يقي من مزلقين مرديين: مزلق الانعزال المكبل عن الجهاد، ومزلق الغلو في التهمم السياسي المبعد عن الله.

“أوصي أن العدل قرين الإحسان في كتاب ربنا وفي اسم جماعتنا، فلا يلهنا الجهاد المتواصل لإقامة دولة العدل في أمتنا عن الجهاد لبلوغ مراتب الإحسان، الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه” 12.

واعتبر رحمه الله تعالى أن الفصل بينهما نكد على الجماعة والأمة، وضياع للمؤمن(ة)، ونزول قاس عن المنزلة العظمى. “تتمزق أوصالنا إن تعرضنا لأول صعوبة، وليس معنا الإحسان، تفشل محاولتنا إن غاب العدل في برنامجنا، تتفكك عرانا في الدنيا والآخرة، إن لم نهب هبة العباد الراجين عفو الله، السائرين إلى الله، في قلوبنا وألسنتنا وفي كراستنا برنامج العدل والإحسان، لنتوثق من أن العدل والإحسان، أصبحا فكرة الوافد علينا الدائمة، وعبرته القائمة، قبل أن نعتد به ونعول على الله ثم عليه” 13.

وخلاصة القول في هذه الوصية: أنى لمن كان في نفسه هوس، وغفلة عن الله، وإضاعة لحقوق الله، وتنكب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخفاف بلقاء الله، أن يطاول طوفان الفساد والإفساد والاستبداد، ويغالب قوى الجاهلية من خارج، المساندة والمسنودة بأنظمة الفتنة من داخل، فاللهم ارزقنا الجمع والانجماع والعمل الجامع.

نصحتك حبي أخي في حياتي

وهذي الوصية من مرمسي

بنية روحي أخت الجهاد

إليك كساء من السندس 14

2. الوصية الثانية: الحفاظ على تلازم الصحبة والجماعة

قال الإمام رحمه الله تعالى مباشرة بعد وصيته الأولى: “ولا مدخل لك في هذا أخي، ولا مدخل لك يا أختي في هذا المضمار إلا بصحبة تفتح أمامكَ وأمامكِ المغالق، وتحذو بركبك إلى عالم النور والرقائق” 15، فالصحبة نسبة ومحبة وطاعة ومفتاح؛ الصحبة موصلة إلى عالم النور؛ دالة على رب الملائكة والروح؛ الصحبة جماعة لأنها نوعان: صحبة مباشرة وصحبة غير مباشرة؛ الصحبة جماعة لأن لها رافضان: الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة، الصحبة مجددة لأنها تروم تتويج جهاد النفس بجهاد إحياء الأمة؛ كما تروم اقتباس النور من القلوب، وتسقى بذكر الله، وتحتضن في تربة الصدق؛ صحبة مجددة لأنها تقطع مع الصورة الصوفية للسلوك إلى الله، وهي الصيغة المصغرة للإحسان الكامل للصحابة رضوان الله عليهم، قال رحمه الله تعالى: “لذا أوصي بالصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة وكررها ثلاثا” 16.

ومما يستفاد من هذه الوصية نجد ما يلي:

– عدم الفصل بين المفهومين، فهما صنوان ونظيران.

– الإلحاح والتوكيد على المفهومين بدليل التكرار.

– ابتداء الوصية بكلمة “لذا”، أي لا مدخل إلى الإحسان الكامل، المقرون بالعدل الشامل إلا بالصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة.

– التمييز والتقابل بين الصحبة الفردية والصحبة في الجماعة، بقوله: “كان من قبلنا رحمهم الله، ورفع درجاتهم، يتفرد منهم الطالب الراغب السائر تأخذ بيده، يد فرد نور الله قلبه من العارفين بالله مشايخ التربية… ولمستقبل دعوتنا نرجو من الله نور السماوات والأرض سبحانه، أن يفيض رحمته على أفراد أوليائه، وأن يلهمهم التعاون على البر والتقوى” 17.

يقول رحمه الله تعالى راجيا الله الكريم العظيم: “نرجو من الله عز وجل أن يجمع المؤمنين من بعد الشتات، فتكون جماعة المسلمين هي جماعة العارفين بالله، يرعونها، ويربونها بمنهاج واحد، وعلى كلمة واحدة، ولغاية تسليك العباد، وعز الأمة وتوحيدها” 18.

رجاء كان في أوائل الثمانينيات، صار واقعا بعد أن تربى على يديه، وبمنهاج واحد، وعلى كلمة واحدة رجال ونساء، ونهلوا من معينه فخصهم الله بفتوحاته وبركاته وتأييده.

وخلاصة القول في هذه الوصية أن الرجل رحمه الله تعالى، دعا لجهاد ثلاثي الأبعاد: مقاومة ومدافعة الاستبداد؛ ومزايلة الفكر التكفيري الطائفي؛ والنأي عن السلوك الفردي الانعزالي.

 3. الوصية الثالثة: الحفاظ على وحدة الصحبة والجماعة والإلحاح في الدعاء بذلك

وصية تالية للسابقتين، وبانية عليهما، تجلي مدى انشغال الإمام التنظيري والعملي بوصال الصحبة والجماعة ووحدتها، وهو ما عمل على تنزيله في الجماعة تطبيقا وعملا، بسلاسة وعفوية وانسياب بديع، ونصح واضح صريح إذا دعت الحاجة لذلك.

وصية بالدعاء، “أوصي أن يدعوَ أحبابي إخواني ربّنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا. أوصي أن يدعوَ أحبابي، إخواني وأخواتي من جماعة العدل والإحسان ربنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة في جماعتنا كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا. أوصي أن يدعوَ أحبابي، إخواني وأخواتي في جماعة العدل والإحسان ربنا عز وجل أن يمسك الله عز وجل وحدة الصحبة والجماعة في جماعتنا كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا” 19.

إلحاح على الوحدة بين الصحبة والجماعة، وتحذير من افتراقهما، لأن في ذلك نزول عن التربية الإحسانية الكملى، الجامعة لعروج الروح في سماء الإحسان، وجهاد العقول والجسوم، لإقامة العدل في دنيا الناس، “لا نبحث عن صحبة خارج الجماعة، ولا عن جماعة خارج الصحبة” 20، فكل صحبة لا تنشد جمع الجماعة، صحبة ضعيفة ناقصة، وكل جماعة تخلت عن لب الصحبة، وجوهرها ونورها، جثة بلا روح، ولو بقي لها شبه حياة حينا من الدهر.

ومما قاله للتدليل على نفس المعنى: “مما يفرق ولا يجمع وجود صحبات لا تفضي لجماعة، ووجود تقوى لا تنفتح على جهاد” 21، وزاد الأمر توضيحا في كتاب الإحسان بقوله: “الوصلة الصحيحة بين الصحبة والجماعة، قيادة ربانية واحدة” 22، لينتقل بعد ذلك من التعميم إلى التخصيص، ومن التلميح إلى التصريح، في متن الرسالة التي وجهها سنة 1411ه /1991م، للإخوة المسؤولين في مراكش، ومما جاء فيها قوله لناقل الرسالة سيدي أبو بكر بن الصديق، “أخبرهم أن صحبتنا منا، وأنه لا يمكن أن يستفيد من صحبتنا وجماعتنا، من يتوزع توجهه ذات اليمين وذات الشمال” 23، فالصحبة والجماعة وحدة لا تقبل القسمة، ومنهاجنا لا يقبل الشركة بوجه، وتوجه لا يقبل التشتت، فلا يستقيم أن يضع المرء جسده في الجماعة، ويدع قلبه في صحبة خارجها، ودون ذلك صبر ومصابرة واصطبار: “الصحبة في الله محبة في الله وتآخٍ وتراحم يرتفع بها الوافد علينا في درجات حب الله وحب رسول الله. والجماعة تنظيم. لا يمكن أن تجابه قوى الكفر والظلم وأنت شتات ورفات. ويختصم التنظيم وضوابطه ومسؤولياته مع ليونة تأليف القلوب فلا يثبت في الميدان إلا كل قوي الإيمان، يمنعه من التساقط الثقة بالله، وحسن الظن بعباد الله، والصبر على أذى الإخوة والأعداء في ذات الله” 24.

ثالثا: الوصايا الوقائية الثلاث

هذه الوصايا تجسد التوازن العملي الدقيق بين الصحبة والجماعة، ومضمونها ألا تخرج الأنوار الوهبية عن مقتضيات الشرع، وضوابط الجماعة ونواظمها، “لا تطغ جذبة سابح في الأنوار على شريعة قول الله عز وجل: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ25.

فالأنوار الفردية ينبغي أن تنضاف للمقتضيات الجماعية وئاما وودادا، وتياسرا وتعاونا، لتصب في الجماعة، ولتصيب الجميع ويصيب منها الجميع، فالعاصم من خروج الأنوار عن الجادة هو ما أجمعت عليه الجماعة.

1. الوصية الأولى: الشورى واسطة العقد

الشورى في الأمر الخاص والعام، والحكم دين من الدين، فشريعة ائتمروا بينكم بمعروف، تجسيدها العملي هو الشورى بآدابها ومقدماتها ونتائجها.

فالسلطان يطغي، والشح المطاع يقلص الإحسان، والهوى المتبع يضل، والدنيا تغري، والإعجاب بالرأي يورث الخلاف، وخراب الذمة يورث إخلاف العهود، وتضييع الأمانات، والشفوف على الأقران يدفع للعصيان، لكل ذلك لا بد من الذكر الكثير، والاستغفار من الإثم الكبير والصغير، مع التشاور بعد أن تتوكل على الله وتستخير.

فمن المواصفات التي ينبغي أن تتحلى بها القيادة، التغلب على كل نوازع الفردية قلبيا وعقليا ونفسيا، “ثم أعطونا برهان كفايتهم القيادية طبعا مستقرا (المنافي لطغيان الجذبة)، وفكرا وعلما، وعزيمة ماضية وربانية رفيقة، حق لنا أن نسير في ركابهم”.

وخلاصة القول إنه يتعين علينا هزم النفس، فلا يأمن مكرها إلا من رآها في مرايا الجماعة الجامعة المتوالية في الله، التوالي الحق الذي يغلب كل الميول النفسية، ويقهرها، ويطردها.

2. الوصية الثانية: لزوم سياج الشريعة

أمرنا محبة، والمحبة شأن قلبي، قلما تتسع له الألفاظ والكلمات، وفي الأمور القلبية يكمن الشيطان، شيطان الهوى. فما العاصم؟ وكيف التمييز بين شيطان الهوى، وبين داعي الخير؟ وكيف السبيل ليخرج صاحب الأنوار إلى بر وبر؟

العاصم من غلبة الحال، وشطح المقال، وطغيان جذبة الأنوار، هو الاقتداء الحافظ من الزيغ والخطل، يقول الإمام المجدد رحمه الله تعالى: “إذ لا عاصم من الزيغ العامد، والخطأ غير الراشد، إلا معيار التقوى وتعليم الهدى” 26، وزاد الأمر وضوحا بقوله في موضع آخر: “الأذواق والكشف تخطئ كما يخطئ الرأي، بل يجد الشيطان والهوى منها مدخلا ليستحوذ على هواجس النفس، ويكدر خواطر القلب” 27، فالمعول عليه بعد الله تعالى سياج الشريعة، فإذا كان “تمسك المؤمن من العامة بالشريعة واجبا مرة، فهو في حق السالك مؤكد مرتين، وما هلك من هلك في هذه الطريق، ونقص من نقص، وهام من هام في أودية الأوهام، إلا بحل عقدة الاعتصام بالعلم الموحى به” 28.

2. الوصية الثالثة: التعفف واتقاء الشبهات

من التحديات والأزمات التي تعانيها الدعوة ويقابلها الدعاة على مر الأزمان واختلاف الأماكن والبلدان، ما يثيره أعداء الدعوة من شبهات حول الدعوة ذاتها أحيانا، أو حول الدعاة أنفسهم في أحيان أخرى، ونقصد بذلك، كل أمر يثير الشك والارتياب في قلب المدعو؛ فيمنعه من معرفة الحق واتباعه، وعلى رأس هذه الأمور، نجد تصيد هفوات وسقطات بعض المنتسبين للدعوة، أو تضخيمها وتهويلها للطعن والإرجاف، لذلك نجد الإمام ألح في أكثر من موضع، على احتراز الدعاة عموما والمسؤولين خصوصا، من فعل الحرام حتى في حالات الاضطرار، أو الأخذ بالرخص عوض العزائم، أو التساهل في ضوابط الشرع، كما ألح أيما إلحاح على الحرص على السنن والنوافل، والأخذ بالأحوط في أمورنا الخاصة إعمالا للتقوى، والتيسير على الأمة بالإفتاء بالأيسر، ومدخل كل ذلك بوابة التفقه في الدين، قال الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه:  “لا يبيع في سوقنا إلّا من يفقه، وإلا أكل الربا شاء أم أبى” 29.

خاتمة

النصيحة كما يتناولها الإمام المجدد في مؤلفاته ومارسها عمليا في مسيرته، هي أكثر من مجرد آلية أو إجراء؛ إنها قيمة أساسية تهدف إلى تحقيق العدل والإحسان في المجتمع، فهي تجسيد لقيم التعاون والتضامن بين أفراد المجتمع. فالنصيحة تعزز من الوحدة والتلاحم الاجتماعي، وتسهم في بناء مجتمع عادل ومنصف.

ووصايا المجدد رحمه الله تعالى، التي أشرنا لبعضها في هذا العرض كانت تجسيدا عمليا لقيمة النصيحة التي تعكس أسلوب حياة الرجل، وتهممه بتبليغها لأبنائه وبناته في هذا الجماعة، فاللهم اجعلنا من الجيل الفريد، جيل الأخذ بنية التنفيذ.


[1] أخرجه مسلم في صحيحه، رقم  1627.
[2] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 10.
[3] نفس المصدر، ص 10.
[4] نفس المصدر، ص 10.
[5] قولة تنسب للإمام مالك.
[6] عجز بيت شعري ينسب للإمام الشافعي.
[7] كتاب الإحسان للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 23.
[8] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 10.
[9] الإسلام غدا للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 787.
[10] شريط كيف نبلغ هذا الإرث؟
[11] القطف 777 من قطوف رقم 10 للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 90.
[12] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 18.
[13] رسالة العدل والإحسان.
[14] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 27.
[15] نفس المصدر، 18.
[16] نفس المصدر، 18.
[17] نفس المصدر، 18.
[18] إمامة الأمة للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 138.
[19] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص 19.
[20] من تعقيبات الإمام رحمه الله تعالى على ورقة “الصحبة في الجماعة”؛ وهي ورقة تمت صياغتها من قِبَل أعضاء مجلس الإرشاد.
[21] المنهاج النبوي، ص143.
[22] الإحسان، الجزء الأول ص 250.
[23] من كتاب السلوك إلى الله، ص 215.
[24] رسالة تذكير، ص 13.
[25] وصيتي للأستاذ عبد السلام ياسين، ص19.
[26] الإحسان، ج 2، ص 16.
[27] الإحسان، ج 2، ص 18.
[28] الإحسان، مرجع سابق، ص 23.
[29] إحياء علوم الدين (2/ 64).