موضوع المرأة في التصور المنهاجي

Cover Image for موضوع المرأة في التصور المنهاجي
نشر بتاريخ

مقدمة

تطرق المنهاج النبوي في إطاره العام إلى مجموعة من المواضيع المهمة التي تهمّ الفرد والجماعة والأمة، وقد تناولها المنهاج وعالجها من زوايا مختلفة تربوية وتنظيمية وحركية جهادية. ومن هذه المواضيع قضية المرأة إذ خصّص لها مؤلّفا خاصا في جزأين هو “تنوير المؤمنات”. يتحدث المنهاج النبوي عن المرأة باعتبارها أمّا وزوجة وأختا وبنتا، وشقيقة للرجل ومشاركة له في البناء (أي بناء) ابتداء من بناء الأسرة وانتهاء ببناء الأمة، كل واحد منهما من زاوية تخصصه الذي تمليه عليه البنية الفسيولوجية التي خلقه الله عليها، وهذا التخصص المتنوع يفضي في الأخير إلى التكامل. وليس كما يزعم البعض ممن يرفعون شعار “تحرير المرأة” من كون التخصص واحد وبالتالي مزاحمة المرأة للرجل في كل شيء بدل المشاركة، فصارت المزاحمة بينهما صراعا يستغله ويوظفه المستكبرون محليا وعالميا في مناسبات اجتماعية وسياسية الهدف منها الإلهاء والاستغفال لتمرير مخططات الاستبداد.

يحاول المنهاج منذ البداية أن يُطْلع المرأة على تاريخها كيف ساهم حضورها المتميّز زمن النبوة والخلافة الراشدة في نهضة إسلامية نموذجية. وكيف انحطّت بعد الانكسار التاريخي ليشكل انحطاطُها أحد النتائج الوخيمة التي نتجت عن تخلف المسلمين وانحطاطهم 1 . ولمعرفة هذا المنعطف التاريخي في حياة المرأة بين الحضور الوازن والانحطاط، وبين العطاء والانكفاء يطرح المنهاج عدة تساؤلات كبيرة:

لماذا لا نجد بعد النبوة والخلافة الراشدة ذكرا للنساء بفضل؟ هل الفتن التي أذلّت الرجال وأخضعتهم لحكم السيف في عهد الملك العاض فالجبري عقّمت النساء من الفضائل التي كان يتحلى بها الجيل الباني المشارك الحي من الصحابيات رضي الله عنهن؟

أين همم النساء نحو قرن من الهجرة؟ أين تلك النهضة التي أبرزت خديجة أمّ المؤمنين، وسمية أول شهيدة في الإسلام، وعائشة العالمة، واللاتي غزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واللاتي عرضن نحورهن فداء لنحره، واللاتي جادلن عن حقوقهن، ونازعن حتى أنزل الله قرآنا يتلى في فصل خصومتهن وردّ حقوقهن، واللاتي هجرن إلى الحبشة، واللاتي هاجرن إلى المدينة، واللاتي آوين ونصرن؟

من أخمد تلك الجذوة؟ من أطفأ ذلك النور؟ من هبط بالمرأة من معاني الحياة السامية النابضة بالقوة السخية بالعطاء، إلى حضيض واقع الجواري في القصور، وواقع تشييء المرأة، وجعلها في سوق النخاسة وقد جعلوها اليوم في تنشيط سوق السياسة؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يضع المنهاج النبوي بين يدي المرأة بصفة عامة والمرأة المؤمنة بصفة خاصة النموذج النبوي لنساء تلقّيْن التربية النبوية فصرْن مربيات، ووعيْن بضرورة العمل الجماعي فشكّلن للمطالبة بحقوقهن عملا منظما وممثلات، وأدركن قيمة المشاركة في الشأن العام للأمة فلم يتخلّفْن عن الدعوة والحركة والجهاد بكل أبوابه جنبا إلى جنب مع الرجال.

المرأة والتربية

يقول الله تعالى: إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (الأحزاب: 35).

حينما نستقرئ القرآن نجد أن المرأة والرجل يتلقّيان نفس الخطاب ونفس النداء للعمل الصالح وما يترتب عليه من نيل الجزاء الوفاق في الدنيا والآخرة. يقول الله عز وجل: من عمل صالحا من ذكر وأنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97). لم يفت الرجالُ النساء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من الأعمال الصالحة، فقد تلقين التربية في حضن النبي صلى الله عليه وسلم كما تلقاها الرجال، وجالسن كما جالسوا، وتعلّمن كما تعلموا. فتروي لنا كتب السيرة أنهن كن يحضرن مجالس العلم والإيمان التي يجالس فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في المسجد، كما كنّ يحضرن الجمعة والجماعة والعيدين، ولم يدعْن منقبة من المناقب ولا فضيلة من الفضائل إلا وكان لهنّ نصيب وافر أحيانا وأوفر أحيانا أخرى.

وقد حرصت المؤمنات على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصحبة حرصا شديدا من خلال محبته صلى الله عليه وسلم ومجالسته والتعلم بين يديه. روى الطبراني عن أنس رضي الله عنه قال: “لما كان يومُ أحُدٍ حاص أهل المدينة حَيْصة (اضطربوا وفروا) وقالوا: قُتِلَ محمد حتى كثرت الصوارِخُ (الباكيات الصارخات) في ناحية المدينة. فخرجت امرأة من الأنصار محرمة، فاستُقْبِلتْ بأبيها وابنها وزوجها وأخيها (أخبرت بأنهم قُتلوا)، لا أدري أيّهم استُقبلت به أولا. فلما مرت على أحدهم قالت: من هذا؟ قالوا: أبوك، أخوك، زوجُك، ابنك. تقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يقولون: أمامَكِ. حتى دفَعَتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت بناحية ثوبه ثم قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لاَ أُبالي إذا سلمتَ مَنْ عَطِبَ!” والقصة يرويها أيضا ابن إسحاق، وفي روايته تقول المرأة حين رأته صلى الله عليه وسلم حيا: “كل مصيبة بعدك جَلَلٌ (هينة)”. قمّة في المحبة أن يكون رسول الله صلى عليه وسلم أحب إليها من نفسها ووالدها وولدها وزوجها والناس أجمعين.

ومن حرصهن رضي الله عنهنّ على مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم حدا ببعضهن لتسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهن من نفسه يوما يعلّمهن مما علمه الله، وقد استجاب لهن لذلك على الفور. فقد جاء عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت منوهة بخصلة التعلم والتفقه التي تميّزت بها الأنصاريات على الخصوص، قالت: “نعم النساء نساء الأنصار: لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين”2 .

إلى جانب حرصهن على محبة المصطفى ومجالسته والتعلم بين يديه كان لهن إقبال كبير على ذكر الله تعالى، حتى أن السيرة النبوية سجلت لنا نماذج خالدة في الذكر بالآلاف. والمثال على هذا سيدتنا صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعن صفية رضي الله عنها “أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وبين يديها أربعة آلاف نواة تسبّح بهن. فقال: “ألا أعلمك بأكثر مما سبّحت به؟” فقالت: بلى علمني. فقال: “قولي: سبحان الله عدد خلقه”” 3 .

وكان كل هذا الحرص منهن رضي الله عنهن على الصحبة والذكر ما يدل بوضح تام على صدقهن في الانتماء للإسلام ولاية وهجرة ونصرة وجهادا.

المرأة والتنظيم

يقول الله تعالى: إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص (الصف: 4).

حين يتحدث المنهاج النبوي عن النساء على عهد النبوة والخلافة الراشدة وعن عملهن الإسلامي يتساءل هل كان عملهنّ هذا التربوي والجهادي مبعثرا أم كان منظما. ولتأكيد المنهاج على أن هذا العمل كان منظما يورد مجموعة من الأدلة من الحديث والسيرة منها:

روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن إياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تضربوا إماء الله، فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرْن النساء (ثُرن) على أزواجهن فرخص في ضربهن، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم”.

نستفيد من هذا أن الصحابيات كنّ لا يتهاونّ في حقوقهن ولا يسكتن عن المطالبة بها، والوسيلة في ذلك قيامهن الجماعي في المطالبة والاحتجاج. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على دقّة تنظيم عملهنّ وشدة الوعي بأهميته.

نموذج آخر يفصح عن هذا العمل المنظم وعن وجود حتى من يمثله وينطق باسمه، عن ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة يقال لها رٍعلة القشيرية وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة ذات لسان وفصاحة فقالت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، إنا ذوات الخدور (صاحبات البيوت) ومحل أزر البعول (سكن للرجال) ومربيات الأولاد ولا حظّ لنا في الجيش، فعلمنا شيئا يقربنا إلى الله عزّ وجل، فقال: “عليكن بذكر الله أناء الليل وأطراف النهار وغض البصر وخفض الصوت” الحديث، وفيه قالت يا رسول الله: إني امرأة مُقيّنة (مزينة للنساء) أقيّن النساء وأزينهن لأزواجهن فهل هو حُوب (إثم) فأثبط عنه (أتخلى عنه)؟ فقال لها: “يا أم رعلة قينيهن وزينيهن إذا كسدْن”.

نموذج آخر ثالث من عدة نماذج لا يتسع المجال لذكرها هو لمحدثة فاضلة ومجاهدة جليلة كانت من ذوات العقل والدين والخطابة حتى لقّبوها “بخطيبة النساء” أي ممثلة وناطقة باسمهنّ ووافدة النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي أسماء بنت يزيد وتُكنى ب” أمّ سلمة” الأنصارية بنت عمّ سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه. فعن أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيد الأَنْصَارِيَّةِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، “أَنَّهَا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ، فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك، إن الله عز وجل بعثك إلى الرجال والنساء كافة فآمنا بك وبإلهك، وإنا معشر النساء محصورات مقصورات قواعد بيوتكم، ومقضى شهواتكم، وحاملات أولادكم، وإنكم معشر الرجال فُضلتم علينا بالجُمع والجماعات وعيادة المرضى وشهود الجنائز والحج بعد الحج، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو مجاهدا حفظنا لكم أموالكم وغزلنا أثوابكم، وربينا لكم أولادكم أفلا نشارككم في هذا الأجر؟ وما انتهت أسماء من حديثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم بمقالة امرأة أحسن من سائلة في أمر دينها من هذه؟” فقالوا: يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا! فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “انصرفي يا أسماء، وأعلمي من وراءك من النساء أن حسن تبعّل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته، وإتباعها لموافقته يعدل ذلك كله”. قال: فأدبرت المرأة وهي تهلل وتكبر استبشارا” 4 .

امتد العمر بأسماء رضي الله عنها حتى شهدت موقعة اليرموك سنة 15هـ وشاركت فيها فكانت مجاهدة جليلة وتذكر الروايات أنها قتلت تسعة من جنود الروم بعمود خيمتها وعاشت بعد ذلك دهراً رضي الله عنها، وهذا يفيدنا في كون كلامها لا نفهم منه أبدا أن المرأة كانت فقط حبيسة البيت للتبعّل لا حظ لها ولا نصيب في الدعوة والحركة والجهاد بل هذا كله.

المرأة والجهاد

يقول الله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (التوبة: 71).

الصور المشرقة من حياة الصحابيات في الجهاد مثال يحتذى ونموذج يقتدى لكل نساء العالم وليس نساء الإسلام فقط، جهاد لم يقتصر على المشاركة في البناء فقط بل تجاوز إلى المشاركة في ميدان القتال أيضا حيث قاتلت الصحابيات رضي الله عنهن جنبا إلى جنب مع الصحابة. قاتلن رضي الله عنهن وليس القتال عليهن فرضا، فقد استأذنتْ عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال: “جهادكن الحج” 5 . وروي عنها أيضا رضي الله عنها أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه عن الجهاد، فقال: “نعم الجهاد الحج”.

لكن عائشة وغيرها من الصحابيات رضي الله عنهن قاتلن متطوعات وأبلين البلاء الحسن 6 .

يستعرض المنهاج النبوي في حديثه عن جهاد الصحابيات على عهد النبوة والخلافة الراشدة وجوه نساء شاركن في الجهاد أشد ما يكون الجهاد. وفي هذا الصدد يفتح المنهاج قوسا ليؤكد على أن جهاد بناء الأمة وتنشئة الأجيال وتعبئة حاملي الرسالة هو أكبر الجهاد حتى وإن كان الباعث والتربية ومصدر القوة لا يختلف بين الجهادين.

الجهاد القتالي الذي حضرته الصحابيات كان بأدوار مختلفة منظمة ومتكاملة تنمّ عن وعْيهنّ بضرورة توزيع المهام وتنظيم العمل. وهذه الأدوار متنوعة إذا حاولنا أن نذكر بعضها نجد من الصحابيات من باشرن قتال العدو وحملن السلاح في وجهه كأم عمارة وصفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت يزيد، ومنهن من كنّ يحملن القرب من الماء يسقين المجاهدين كعائشة وأم سليم، ومنهن من تكلّفن بمداواة الجرحى ونقلهم إلى مراكز الاستشفاء في المعسكر أو في المدينة كالرُّبيّع بنت مُعوّذ، ومنهن من كن يناولن السهام للمجاهدين ويسقين السويق، ومنهن من كن يمدن الجيش بالمعونات المادية والإمدادات الغذائية، وغيره من الأدوار.

وحتى الإمام البخاري رحمه الله في ذكره لجهاد الصحابيات قسّمه إلى أبواب ليؤكد هذا التنويع في الأدوار والتوزيع في المهام، فنجد من هذه الأبواب:

“باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال”، روى فيه عن أنس رضي الله عنه قال: “لما كان يومُ أحُد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر وأمَّ سُلَيم وإنهما لمشَمرتان أرى خَدَمَ سوقهما (خلاخلهما) تنقُزان القِرَب -وقال غيره: تنقلان القرب- على متونهما، ثم تُفْرِغانِهِ في أفواه القوم. ثم ترجعان تملآنها، ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم”.

“باب حمل النساء القِرَبَ إلى الناس في الغزو” فيه أن عمر أمير المؤمنين قَسَم مُروطا (أكسية) بين نساء من نساء المدينة فَبقي مِرْط جيد. فقال له بعض من عنده: يا أمير المومنين! أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عندك -وهي زوجه أم كلثوم بنت الإمام علي- فقال عمر: أمّ سليطٍ أحق. وأم سَليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عمر: فإنها كانَتْ تزفِرُ (تخيط) لنا القِرب يوم أحد.

“باب مداواة النساء الجرحى في الغزو” فيه عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوّذٍ قالت: “كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة”.

هذا عند الإمام البخاري، أما عند الإمام أبي داود فنجد أن صحابيَات خرجن في غزوة خيبر فسألهن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصدهن فقلن: “خرجنا نغزل الشعر فنعين به في سبيل الله، ونداوي الجرحى، ونناوِل السهام، ونسقي السويق”.

وعند ابن هشام رحمه الله نجد ذكرا لبطولة أم عمارة في غزوة أحُدٍ قالت: “فقمت أباشر القتال، وأذُبّ عنه (عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالسيف، وأرمي عن القوس حتى خلَصَتْ الجِراحُ إِلَيّ”.

وأما عند ابن اسحاق فنجد ذكرا لبطلة أخرى هي صفية بنت عبد المطلب أنها لجأتْ يوم أُحُد إلى حصن حسان بن ثابت شاعر المسلمين مع النساء والصبيان وحسان. فمر يهودي يُطيفُ بالحصن. فطلبت المرأة الصالحة البطلة إلى الرجل الشاعر حسان أن ينزل إلى اليهودي. قال حسان: “يغفِرُ الله لكِ يا بنت عبد المطلب! والله لقد عرَفْتِ ما أنا بصاحب هذا! قالت صفية: فلما قال لي ذلك ولم أجد عنده شيئا احتجزْتُ (شددت وسطي) ثم أخذت عمودا، ثم نزلت فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسان! انزِلْ فاستلِبْه، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل. فقال حسان: ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب!”.

جبُنَ رجل وأقدمت امرأة. وكانت أولَ مؤمنة قتلت عدوا في الإسلام.

ويوم حنين إذ انهزم المسلمون ساعة من نهار كانت أم سُلَيم بخنجرها تتحدى الأعداء. جاء زوجها أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ويُخبره أن مع أم سليم خِنْجَراً. سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصدها فقالت: “أردتُ إن دنا إليَّ أحد منهم طعنته به!” 7 .

وأخرج الطبراني أن أسماء بنتَ يزيد بنِ السَّكـن بنت عَمِّ معاذ بن جبل رضي الله عنهما قتلت يوم اليرمـوك -الحرب الفاصلة بين الروم والمسلمين في عهد عمر- تسعة من الروم بعمود فُسطاط.

خاتمة

عندما يتحدث المنهاج النبوي عن تحرير المرأة اليوم وغدا إنما يتحدث عن صلاح المرأة في محنتها الحاضرة كيف تكون مؤمنة بربها ومربية ومشاركة وفاعلة جنبا إلى جنب مع الرجل وذلك باستيحائها للنموذج النبوي الصحي، وتنفس عبيره، وتجديد أجوائه، والانغراس في بيئة إيمانية تجدد ذلك النموذج روحا وسلوكا وعلما وإتباعا واعتصاما.

إلى نموذج الصحابيات ترجع نساء الإسلام لاستيحاء المثال والنموذج.

نقرأ من بيت النبوة، نستقي من النبع، نقتبس الهدى والنور من مشكاة النبي وآله وأهل بيته. كان خلُقه صلى الله عليه وسلم القرآن كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها. فبالقرآن خلّقهن، وبالقرآن هذبهن، وبرأفته وحكمته قوَّمهن. وبحضوره ومعاشرته ومحبته التي سكنت شِغاف القلوب تشربن الإيمان واستروَحْن رَوح الإحسان 8 .

عن البناء العملي من الأساس تحدثنا ونتحدث حين نريد للمومنة تعميق إيمانها وتعلقها بربها وبالدار الآخرة، حتى تتأصَّل في أعماق روحها وفي أكناف قلبها إرادة العمل الصالح، مطمئنةً إلى أن الشريعة السمحة لاَ تظلمها مِن حقوقها شيئا إن جهَّلها الانحطاط التاريخي، وكَمّ فمها، وعزلها وراء الجدران، وحرم أن يظهر ظفرها في الوجود 9 .

ونشير في الأخير إلى أن المنهاج النبوي تتطرق إلى قضايا عدة متعلقة بموضوع المرأة بالتحليل والتفصيل منها: المرأة والعمل، المرأة والعلم، المرأة والحرية، المرأة والزواج، المرآة والأسرة، والمرأة والجهاد… وهذه القضايا نجد لها فصولا وعناوين وفقرات في مختلف مؤلفات الإمام المجدد رحمه الله تعالى التي تشرح المنهاج وتفسره وتوسّع في محتوياته ومضامينه، خاصة منها: كتاب العدل والإسلام والحداثة.


[1] انظر تنوير المؤمنات، ص: 25 و26.\
[2] متفق عليه.\
[3] أخرجه الترمذي والحاكم.\
[4] ذكره الإمام البيهقي في شعبه وقال: حديثا مرفوعا.\
[5] رواه عنها البخاري.\
[6] انظر تنوير المؤمنات، ص: 296 و297 و298.\
[7] رواه ابن سعد وغيره.\
[8] تنوير المؤمنات، ص: 172.\
[9] تنوير المؤمنات، ص:229.\