موقف ومغزى

Cover Image for موقف ومغزى
نشر بتاريخ

عانت الأم من صداع حاد في رأسها، خاصة وأنها تعبت اليوم كثيرًا في تنظيف البيت وإعداد الطعام والمسح والكنس.. وأعمال أخرى، وما زاد من تعبها هو أنها كانت قد ذهبت لزيارة جارتها العزيزة على قلبها لبعض  الوقت؛ تساندها في هذه المرحلة، فهي تعاني من اكتئاب جراء ظروف نفسية صعبة مرت بها.

نادت الأم ابنتها أكثر من مرة بصوت منخفض يكسوه التعب، وطلبت منها أن تُحضر لها كأسا من الماء حتى تتمكن من تناول حبة الدواء عساها تخفف عنها شدة الصداع.

كانت تجيبها ابنتها في كل تلك المرات: “حاضر يا أمي، سأحضره لك فورًا”.

وبينما هي مستلقية على فراشها، تنتظر من ابنتها أن تأتيها بما طلبته منها، وجدت نفسها أمام انتظار طال وقتُهُ، وصداع زادت حِدَّتُهُ، فتأملَت الموقف قليلا، وحدثت نفسها قائلة: “هكذا يا ابنتي.. حتى وأنا مريضة لم تشفقي على حالي! ولم تهتمي بي وبما طلبته منك! ألا ترين كم أنا منهكة ومرهقة؟! في حين أنتِ في عالمك الخاص، لا حياة لمن تنادي..”.

نهضت وهي على تلك الحال، اقتربت من غرفة ابنتها لتلومها على ما فعلته، لأنه غلب على ظنها أنها مشغولة بالهاتف؛ تتحدث مع إحدى صويحباتها كعادتها دوما، وهذا ما حدث بالفعل، تأكدت الأم من ظنها..

وفجأة رأت البنت أمها فتذكرت ما طلبته منها، وقامت مسرعة، وقالت: “آسفة يا أمي، لقد نسيتُ ما طلبتِه مني، وانشغلت عنك بالهاتف، عودي إلى سريرك، وسأحضر لكِ ما طلبته” !

الموقف قد يبدو في الظاهر بسيطا، ربما تواجهه كل أم في حياتها مع أولادها، وتواجه كل الأمهات أصعب منه بلا شك، لكنه يوضح حجم اللامبالاة التي يعيشها الأولاد في عصرنا تجاه آبائهم وأمهاتهم، وانشغالهم عنهم بأنانية تكون أحيانا مفرطة..

عادت الأم إلى مكانها، وتناولت دواءها، وبعدما ارتاحت قليلا، توضأت وقامت وصلت ركعات لربها، رافعةً كفَّيها إلى السماء؛ متضرعةً، داعيةً اللهَ أن يصلحَ لها أولادها، وأن يحفظهم من كل سوء، فإن تجاربَ الحياة علمتها الصبر، وأخذ الأمور برَوِيَّة، لأنها فهمت و تَعلَّمت وعَلِمت أن ابنتَها وجميعَ الأبناء هم أيضا سيتحملون يومًا ما أعباء هذه الحياة، وهم إلى اليوم لم يصلوا إلى مرحلة النضج التي تبين لهم كمية التضحيات والمعاناة التي واجهها، ويواجهها، الآباءُ من أجلهم، فاحتمال كبير أن ابنتها مع الوقت ستنسى هذا الموقف، ولن تتذكر كل المواقف التي كانت أمها لها فيها سندًا وحضنًا دافئًا وسدًّا منيعًا أمام أغيار الحياة.

خلاصة القول إنه ليس كل حب أعطيناه لأولادنا سيفهمونه، وليس كل خوف عليهم سيشكرونه، أو تضحية قدمناها لهم سيحملونها لنا في قلوبهم أبد الدهر..

إن إحساسهم بالأمان وهم بقربنا هو في حد ذاته إنجاز كبير، وتعظيم النية في تربيتهم تربية صالحة هو قربة لله عز وجل، نرجو ثمارها في الدنيا والآخرة، وهو أكبر نجاح وفوز بمشيئة الله.

 علينا بالصبر والمثابرة مع أولادنا حتى يصلوا بر الأمان، فهم في أمَسِّ الحاجة إلينا، خاصة اليوم مع فتن هذا العصر.

أصلحهم الله جميعا وأصلحنا لهم وبارك لنا فيهم.