نور حل بالديار وطيب وكرم وجود
نور علا الوجوه ومسك وعطر وورود
بركة ورحمة وهداية يزفها القدر لأهل الأرض،إنه المولد السعيد، المولد النعمة والبعثة الرحمة، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
“حدثنا ابن حُميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرة مضت من شهر ربيع الأول.” 1
حبذا أنت من نور!
من أسمائه عليه الصلاة والسلام النور، وقد كان نورا قبل مولده الشريف، ونورا حين وضعته أمه آمنة بنت وهب، تتراءى منه أقاصي البلدان.
يقول ابن إسحاق: يزعُمون فيما يتحدث الناس.. أن آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت تُحدث أنها أُتِيَتْ لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل لها: إنك حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع بالأرض فقولي: أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد،ثم سميه محمدا.
ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت منه قصور بصرى في أرض الشام 2.
وعن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “.. ثم إن أمي رأت في المنام أن الذي في بطنها نور، قالت: فجعلتُ أتْبع بصري النورَ، والنورُ يسبق بصري، حتى أضاءت لي مشارق الأرض ومغاربها” 3.
وعن عثمان ابن العاص، قال: “حدثتني أمي أنها شاهدت ولادة آمنة بنت وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك ليل ولدتْه. قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلا نوﱠر، وإني لأنظر إلى النجوم تدنو، حتى إني أقول: لتَقَعَنَّ عليﱠ” 4.
نور أضاءت له جنبات البيت وتلألأت له نجوم السماء وكأنها تستقبل وترحب بمقدم وبزوغ فجر جديد ليُنبئ العالمين بأن صباحا مشرقا قد أهلﱠ وبأن صفحة بيضاء ناصعة على وشك أن تعرض وتنشر كتابها معلنة عن طي خِرَقِ وأسْمالِ ليل مظلم معتم ظالم طال مكوثه وضاق منه الكون بما رحب.
“الله أعلم حيث يجعل رسالاته”
نور تقلب في الساجدين على مر السنين نكاحا لا سفاحا، حتى استقر حيث اختار الله، بطن آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة الزهرية.
فلما كان اليوم السابع ذبح عنه جده عبد المطلب ودعا له قريشا فلما أكلوا، قالوا: “يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟
قال: سميته محمدا، قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟
قال: أردت أن يحمده الله في السماء وخلقه في الأرض.
قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يسمى محمدا. 5.
ولا يُعرف في العرب من تسمى باسم محمد قبله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة، طمع آباؤهم حين سمعوا بذكر محمد صلى الله عليه وسلم وبقرب زمانه وبعثته.. أن يكون ولد لهم 6.
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.
الرسول الخاتم والرحمة المهداة، الشفيع المشفع هادي الأنام وماحي الظلام، أبو القاسم الشاهد المبشر النذير السراج المنير، طه الأمين الحاشر، صاحب الحوض ولواء الحمد، إمام المرسلين وسيد الأولين والآخرين. عليك صلوات ربي وسلامه أيها النبي الكريم والرسول الرؤوف الرحيم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن مَثَلي ومَثَل الأنبياء من قبلي كمَثَل رجل بنى بيتا فأحسنه وجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناسُ يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هل وُضعت هذه اللبنةُ؟ قال فأنا اللبنةُ وأنا خاتم النبيين” 7.
أكرم به من بيت وأعظم بها من زاوية وحبذا أنت من لبنة يا حبيب الله. صلوات ربي وسلامه عليك.
الذكرى، الحصيلة والعزمة!
هذه ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حلت بنا .. حلت بالأمة وهي على هذه الحال من التشتت والتفرقة وهذا الضعف والمهانة.
حلت بنا ذكرى المولد والأمة مغلوبة مضطهدة في أمنها واستقرارها، مستهدفة مهددة في ثرواتها واستقلالها.
حلت بنا ذكرى الثاني عشر من ربيع الأنور، ودماء المسلمين مستباحة في كل مكان وأعراضهم تنتهك جهارا نهارا..
حلت بنا ذكرى المولد الشريف، ودموع الثكالى واليتامى لا تجد من يكفكفها، دموع تتلقفها دموع.. دموع تتلاحق لا تكاد تجف حتى تنفجر وتذبل منها العيون حزنا وألما على فراق قريب أو حبيب و قلة النصير وفقدان المسكن والمأوى.. وخوفا ورعبا من بطش العدو الظالم والمستعمر الغاشم.
حلت بنا ذكرى المولد النبوي وبيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين يئن تحت نير الاحتلال الصهيوني، يشكو تخلي حكامنا وزهدهم فيه، وخذلانهم وتقاعسهم عن نجدته وحمايته من تدنيس بني صهيون.
بأية حصيلة نستقبل هذه الذكرى؟
ما هي الجهود التي بذلت لتوحيد كلمة الأمة؟ هل قام قائم لحفظ دماء وأعراض المسلمين؟ ما هي مساعي وتدابير حكوماتنا من أجل استرجاع القدس وكل فلسطين؟ وإخلاء كل بلداننا من الاستعمار “الصهيوأمريكيوروبي”.
كيف نستقبل هذه الذكرى؟
– بالأمداح والأهازيج والطقوس المبتدعة والضجيج؟
– بالأطباق والولائم والشموع البديعة والعمائم؟
أم باستعراض نسبه عليه الصلاة والسلام، وذكر مولده ورَضَاعِه ونشأته وبعثته، في سَرْد مُخِل مُمِل لا يبعث على شيء ولا يُنهض لعمل إلا بقدر ما يلفنا خلف أستار ناعمة سميكة هي كل تلك القرون التي تفصلنا عن ولادته وبعثته صلى الله عليه وسلم، فلا نكاد نقوم أو نحاول شيئا لتجاوز ما بنا، وربط ذلك العهد بحاضرنا، والسير على منهاجه بما يتيحه واقعنا، وييسره زماننا، علنا نغير ما بنا، وننفلت من قبضة هواننا ونكوصنا.
ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم عزيزة، نفرح بقدومها، لكنها فرحة بدون عزمة! تبرك بدون اتباع! لا معنى لفرحتنا ولاحتفائنا بذكرى المولد النبوي إذا لم تنعقد عندنا نية بالتتلمذ عليه، وإذا لم يحصل لدينا عزم على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
لا ينبغي أن تمر هذه الذكرى دون أن نجعل منها محطة أخرى نستلهم منها العبر ونأخذ منها الدروس التي من شأنها أن تنبت فينا ذلك الحب القوي والتعلق الكامل بنبي هذه الأمة وبسيرته ومنهاجه. وليكن ذلك التعلق وذلك الاقتداء به في كل شأنه صلى الله عليه وسلم.
في خُلقه ورحمته، وفي رفقه بالناس عامة وبالمومنين خاصة وحرصه عليهم، وفي صبره وحلمه، وشجاعته وإقدامه، وفي إحسانه بالقريب وإكرامه للضيف وابن السبيل، وفي إسعافه للمحتاج وغوثه للملهوف ونصره للضعيف، وفي غضبه لحرمات الله وحدوده، وفي جهاده للكفر ورفضه للظلم والطغيان، وفي حسن تدبيره لشؤون المسلمين وعدله فيهم، وفي توجيهه لعلاقات الدولة الإسلامية مع باقي الأمم والشعوب..
ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيده الله بنصره وجعل فيه كل خصال الحمد والفضل، وهيأ له من المؤمنين تلك الزمرة الخالدة التي آمنت به ونصرته, وآوت دعوته وبذلت في سبيلها المال والنفس.. فكيف لنا نحن -يقول معترض- أن نقتدي به ونقتفي أثره والزمان غير الزمان والناس غير الناس!؟
ما جعل الله علينا في الدين من حرج، نحاول جهدنا ونستنفذ وسعنا، نتحرى الحلال في كل شيء ونتقي الشبهات، نقف بين يديه، نطرق بابه جل شأنه، نسأله ونرجوه.. نعقد النية ونعزم ونتوكل على الله، ومن يتوكل على الله فهو حسبه.
أمة واحدة
تأملت شجرة الأنبياء والرسل من أولي العزم، وتتبعت أصول كل نبي ورسول، وكيف تعاقبت النبوة فيهم إلى أن انتهت عند خاتم النبيين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. تأملت منذ متى كانوا، صلوات ربي عليهم وعلى سيدنا محمد وسلامه، يصدعون بنداء الحق ويبلغون رسالة التوحيد نقية طاهرة إلى كل البشر على اختلاف الشرائع التي جاء بها كل رسول إلى قومه ولكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجا وكيف أن الله تعالى حفظ عقيدة التوحيد من التدليس والتزوير، وكيف جعل الإسلام إرثا ووصية يعهد بها كل نبي إلى عَقْبِه، قال تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب ُ يا بَنيﱠ إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوبَ الموتُ إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آباءك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.
وقال سبحانه: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.
وقال عز من قائل: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وإني بما تعملون عليم. وإنﱠ هذه أمتكم أمةً واحدة وأنا ربكم فاتقون.
فأدركت عظمة الخالق، بل زاد يقيني فيه عز وجل. يا لتدبيره وتصريفه..! يا لحكمته واختياره..!
خلق الخلق، وأخذ منهم العهود والمواثيق، وقسم أرزاقهم، وبعث إليهم الرسل تترى، تذكر مبشرة ومنذرة، وبسط ومنع، وأمهل وعجل، وأضحك وأبكى، وأحيى وأمات، وغفر وعذب، ووسعت رحمته كل شيء..
اللهم اشملنا برحمتك يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، فقد آمنا بك وبنبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وبجميع الأنبياء والرسل لا نفرق بين أحد منهم ونحن لك مسلمون.
الوصية التي يخلفها كل نبي ورسول في قومه هي توحيد الله، وإسلام الوجه له، والإيمان بكل من سبق ويلحق من الرسل والأنبياء. ما وصوا صلوات ربي وسلامه عليهم وعلى سيدنا محمد، بقتال أحد إلا أن يكون عدوا لله محاربا لدينه، ظالما معتديا باغيا.
ما اختلف الأنبياء فيما بينهم وما اقتتلوا، فما حاجتهم إلى ذلك؟ وحاجتهم واحدة ومحجتهم لاحبة وهي توحيد الله والإيمان بكل أنبيائه ورسله.
من يطلب الدليل على أن أحبار اليهود قد زورا في الكتب، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وكذبوا على الناس وأضافوا وطرحوا من التوراة والإنجيل.. فلينظر إلى القتل الذي استشرى في الناس قديما وحديثا على أيديهم، فضلا عن قتلهم للأنبياء، وإلى الكيد والتدليس والظلم والاحتقار الذي عاملوا به غيرهم من الأقوام ألم يقولوا: ليس علينا في الأميين سبيل. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون وكل ذلك بدعوى أن الله أمرهم بذلك في كتبهم المحرفة وإن منهم لفريق يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون.
كتب الله أن عليهم لعنته ولعنة الملائكة والناس أجمعين خالدين فيها قال تعالى: كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
دعوة أبي إبراهيم..
قال عليه الصلاة والسلام وهو يجيب شيخا من بني عامر جاء يسأله عن حقيقة أمره: “يا أخ بني عامر، إن حقيقة أمري أني دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى ابن مريم..” 8.
نعم دعوة إبراهيم وإسماعيل أن يبعث الله في القوم من ذريتهما رسولا يتلو عليهم آياته، قال تعالى: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. إنك أنت العزيز الحكيم.
دعوة يتوجهان بها إلى العزيز الحكيم وهما يرفعان القواعد من البيت الحرام ويطهرانه للطائفين والعاكفين والركع السجود، ليبعث في أهل ديار هذا البيت وهم قريش، في أحسن بطونها وهم بنو هاشم، رسولا يهديهم ويزكيهم.
ففي صحيح مسلم من حديث الأوزاعي عن شداد أبي عامر عن وائلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بني كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم” 9.
إن الدعوة المستجابة تستجاب، ولكنها تتحقق في أوانها الذي يقدره الله بحكمته. غير أن الناس يستعجلون! وغير الواصلين يملون ويقنطون! 10.
استجاب الله إذن لدعوة إبراهيم، وليس في المسلمين من ينكر ذلك أو يعترض، ثم إن الله أنبأ سيدنا موسى عليه السلام ببعثة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم وذكره في التوراة وكتب الرحمة للمتقين من بني إسرائيل الذين يومنون به قال تعالى: قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويوتون الزكاة والذين هم بآياتنا يومنون. الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون.
إنه لنبأ عظيم، يشهد بأن بني إسرائيل قد جاءهم الخبر اليقين بالنبي الأمي على يد نبيهم موسى ونبيهم عيسى عليهما وعلى نبينا محمد الصلاة والسلام – منذ أمد بعيد – جاءهم الخبر اليقين ببعثه، وبصفاته، وبمنهج رسالته 11.
لقد أخذ الله سبحانه موثقا رهيبا جليلا كان هو شاهده وأشهد عليه رسله – موثقا على كل رسول – أنه مهما أتاه من كتاب وحكمة، ثم جاء رسول بعده مصدقا لما معه، أن يؤمن به وينصره، ويتبع دينه 12.
فكان من تمام العهد والوفاء بهذا الميثاق أن بشر سيدنا عيسى ابن مريم عليه وعلى سيدنا محمد الصلاة والسلام، قومه ببعثة رسول آخر الزمان. قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.
فكان أن بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى الناس أجمعين قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.
وقال عز وجل: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا.
استجاب الله لدعوة إبراهيم، وحقق نبوءة موسى، وصدﱠق بشارة عيسى، عليهم وعلى سيدنا محمد أفضل الصلاة وأزكى السلام. فكان الاصطفاء وكان الاجتباء، وكان المولد السعيد وكانت البعثة الرحمة، وكنا خير أمة أخرجت للناس لما آمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وعزرناه ونصرناه واتبعنا النور الذي أنزل معه.
وكتب الله على من أعرض وتولى أنه من الفاسقين، قال تعالى: فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
فهل من خبر بعد هذا؟ هل من أمر ونبأ؟ هل من بشارة وموعود ننتظره ونترقبه؟ نومن به ولا نكفره؟
موعود الله ورسوله!
يقول تعالى وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيستخلفنهم في الاَرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون.
هذا وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وهذا شرطه، الإيمان بكل مقتضياته، والعمل الصالح، وهو سبحانه يقبل منا أدْوَمه وإن قََل، ووعده سبحانه ماض فينا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وظاهرٌ أن الأمرَ مُداولةٌ.. فبعد النكوص والجحود ينفلت من الفئة المؤمنة، زمام الأمر وناصية المبادرة، وتستوي مع غيرها من الأمم الكافرة الباغية في الذنب، فتصير الغلبة للأقوى، وللأكثر تنظيما والأجود تدبيرا والأفضل تسييرا..! فيعمنا الفشل ويغشانا الخوف وتمتلئ قلوبنا رعبا ورهبة من العدو القوي كما هو حالنا اليوم تماما.
ما نحن فيه من هوان وذل وانكسار هو مما كسبت أيدينا، تتابعت الأسباب، واشترك كل واحد من جهته ليبرز هذا الواقع المقيت الذي تعيشه الأمة الحكام والعلماء وعامة الناس.. الكل مشترك ومتواطئ!
لقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بمظاهر هذا التراجع عبر تاريخ المسلمين بعد فترة العزة والريادة، فقال: “تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها.ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا. فتكون ما شاء الله أن تكون. ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا. فتكون ما شاء الله أن تكون. ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون الخلافة على منهاج النبوة. ثم سكت”.
هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وسنده صحيح، ينقل لنا خبر ما كان من أمر أمتنا، النبوة والخلافة الراشدة، وخبر ما جاء بعدهما من ملك عاض وراثي تمثل في ملوك بني أمية وبني العباس بالخصوص وفي باقي الإمارات التي سميت فترة حكمها خلافة زورا وكذبا على التاريخ.. إلى أن بلغ بنا إلى عصرنا الحالي حيث نرى آخر مراحل الحكم الجبري الطاغوتي الذي يحكم الناس ويقودهم بالحديد والنار. ليُسَلم -الحديث النبوي- المقادة والقيادة مرة أخرى، وبعد الإتيان بالأسباب واستكمال الشروط، للذين آمنوا وعملوا الصالحات، الذين إن مكاناهم في الارض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور.
لقد استعرضت كم هي الوعود التي تحققت، وكم هي البشائر التي صدقت بإذن الله، وقد كان ما كان من بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهل في ذلك شك!؟
ثم كانت خلافة أبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله عنهم وأرضاهم، وهي ما عرف في التاريخ بالخلافة الراشدة الأولى على منهاج النبوة.. ويستعرض التاريخ على امتداد عصوره صور وأشكال الحكم في العالم الإسلامي إلى أن وصل إلى يومنا هذا الذي نعيشه، فهل يكذب أحد ما نراه ونعيشه من ظلم وجبروت الحكام واستئثارهم بخيرات بلاد المسلمين دون عامة الناس؟
لم يبق من موعود الله وبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تركها لنا سوى خبره اليقين بالخلافة الثانية على منهاج النبوة، فكيف نستكثر على الله، وقد تابعنا كيف يصرف جل شأنه أمره وكيف يؤتي وعده، كيف نستكثر عليه تحقيق وعده لنا بالاستخلاف وتصديق بشرى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم بالخلافة الثانية على منهاج النبوة؟
إن من يعترض على حقيقة هذا الأمر، إنما يعترض على قدرة الله ومشيئته.
من يشكك في أن الله سيورث أرضه لعباده الصالحين، فلا حاجة من صلاة يقيمها، ولا زكاة يؤتيها، ولا صالح يعمله.
ما كان الله تقدس شأنه، أن يترك مصير عباده الذين يعملون الصالحات في يد الظالمين الذين يفسدون في الأرض ويحكمون بالهوى ويُخضعون العباد لعبادة غير الله.
غير أن الناس من ضعفهم يطلبون العاجلة! وغير مستعدين لاستقبال موعود الله يُرْجِفون ويُشككون!
بهذه العزمة وبهذه النية نستقبل ذكرى المولد النبوي، وبهذا اليقين في موعود الله ورسوله نحتفل، ونقطع عهدا على أنفسنا بأن يبذل كل واحد منا، على قدر استطاعته، ما يقوى عليه في سبيل تحقيق وعد الله الذي لا يتخلف، إنما بذلنا وسعينا نرجو أن يكون لنا ذخرا يوم نلقاه جل في علاه.
[2] الطبري، ابن جرير: تاريخ الأمم والملوك، المجلد 1، ص 454/ ابن هشام، السيرة النبوية، الجزء 1، ص 158.
[3] الطبري، ابن جرير: تاريخ الأمم والملوك، المجلد 1، ص 456.
[4] نفسه، المجلد 1، ص454.
[5] ابن كثير، البداية والنهاية،دار الفكر، الجزء 1، ص 266.
[6] انظر هامش السيرة النبوية لابن هشام، الجزء 1، ص 158.
[7] البخاري، محمد ابن إسماعيل:صحيح البخاري، الطبعة الأولى،1987، المجلد 3، ص26.
[8] الطبري، ابن جرير: تاريخ الأمم والملوك، المجلد 1، ص 456.
[9] ابن كثير: البداية والنهاية، الجزء 1، ص 256.
[10] قطب سيد: في ظلال القرآن، الطبعة الشرعية التاسعة 1980،دار الشروق، المجلد 1،ص 110.
[11] قطب، سيد: في ظلال القرآن، المجلد 3، ص 1378.
[12] نفسه، المجلد 1، ص 420.