هبّت الرياح قويّة قادمة من جهة الشّرق، تمايلت أشجار النخيل بشدّة حتى انكسر الكثير من سعوفها. واصطبغت السماء، مُكفهرّة، بلون الرمال والأتربة. حرنت الجمال والخيول، وبدت بعض المواشي القليلة خائفة؛ ارتفعت أصواتها واختلطت حركاتها ثمّ هربت من مراودها. تطاير سقف بيت وتلاعبت به الزّوبعة قبل أن يرتطم بجدار قديم محدثا فيه شقوقا عميقة. لم يتبق في ساحات مكّة وأزقّتها غير قلّة من العبيد يجتهدون في جمع ما يتشتّت من الأشياء والحاجيات، لقد دخل الجميع إلى بيوتهم ليحتموا من غضب السّماء؛ تجاربهم السابقة مع مثل هذه الأجواء المُهتاجة جعلتهم في حذر دائم منها، فلا أحد مستعدّ لأن يفقد رأسه أو تُفقأ إحدى عينيه جرّاء تطاير المَخاطر في الهواء كما وقع قبل خمس سنوات لأخوين من التّجار قدما ذات موسم من الشام ببضاعة لبني عوف، وها قد رحل أحدهما عائدا إلى بلده بعلّة دائمة، بينما أقبر الآخر في مكان لم يعد أحد يتذكّره.
كانت خديجة في السوق عندما رأت نذير العاصفة، كانت شديدة الهمّ. أسرعت، رفقة صديقتها نفيسة، عائدتان إلى البيت، وجلستا تساعدان الخادمة في إعداد وجبة الغذاء. كان بالها مشغولا؛ زوجها مات منذ مدّة، فتحمّلت بعده الحياة بتصبّر، ولكنّها ما عادت تقدر على مواجهة وحشة الحياة بمفردها؛ فالوحدة بالنسبة لامرأة في عنفوانها قاهرة، وتجارتها ـ بعد ذلك ـ تحتاج إلى رجل قوي كي يتابع شؤونها وينمّي مداخلها التي تكثر كلّ عام.
صامتة كانت وهي تُحرّك خليطا دون وعي بما تفعله، ولم تردّ على أسئلة المرأتين سوى بمقتضب الكلام. أحسّت نفيسة، بنباهة الأنثى، أنّ صديقتها تُدبّر أمرا لا تزال تُنضجه في السّر قبل أن تُفصح لها عنه. كانت مُخطئة في بعض ما ذهبت إليه؛ لأنّ ما كانت تفكر فيه خديجة قد نضج في نفسها بالفعل.
قالت لها فجأة وبدون مقدّمات: كيف ترين محمّدا؟
هدأت العاصفة في الخارج، وسكنت الأصوات إلا من سؤال خديجة… وساد هدوء مُريح يأتي عادة بعد رحيل خطر كان في مبتدأ خطْوه! سنوات بعد ذلك ستتذكّر نفيسة هذه “الإشارة”، ولن تملّ من حكيها لكلّ مَن تعرف بكثير من التّبجيل والحنين، كانت تقول: “ما إن ذَكرتْ خديجة اسم محمد حتى هدأت العاصفة!”، ولم تكن أبدا تتسامح مع كلّ من يحاول التشكيك في روايتها ولو مزاحا.
لم تستوعب نفيسة السؤال، ولم تتذكّر لحظتها أنها تعرف رجلا قرشيا بهذا الاسم يدفع صديقتها للتفكير فيه في مثل هذه الظروف، لذلك تساءلت ببراءة: “من محمد؟” قبل أن تستدرك بعد أن قرأت في عينيّ صديقتها توبيخا: “تقصدين فتى بني هاشم!”.
تفاجأت نفيسة بإحساس صديقتها تجاه محمد، وهو الذي يصغرها بسنوات تقترب من العشرين، ورغم أنّ خديجة أكّدت لها بأنّ الأمر لا يزال مجرّد تفكير عقلي، فقد قدّرت نفيسة بأنّ صديقتها في بداية إعجابها بمحمد.
استحلفت خديجة صديقتها أن تكتم عنها ما سمعته منها، وهدّدتها بالقطيعة إن هي أسرّت به لأحد. وبعد الغذاء خرجت، ككلّ أهل مكة، تتفقّد بعض ممتلكاتها بعد توقّف تلك العاصفة.
لم تنم تلك اللّيلة إلا قليلا؛ هجر النوم عينيها، وتمكّنت منها أسئلة كان لزاما عليها أن تجد إجابات لها؛ كانت امرأة ناضجة، ولم يكن لتسمح لنفسها أن تخطو خطوة واحدة بمثل الاتجاه الذي تريد أن ترتاده دون وضوح كامل.
في الصباح، والشّمس تُهيّئ نفسها للظهور من خلف الجبال لتشوي مَن يتجرّأ على تحدّيها، أرسلت خديجة في طلب خادمها ميسرة، وشرحت له بكلام قصير أنها تريدُ رجلا قرشيا، من عائلة محترمة، يمتلك تجربة في التجارة، ومعروف بالأمانة، فموعد الرحلة إلى الشام اقترب، وتبغي أن تبعثه في مال لها.
لم يتردّد ميسرة، فسرعان ما اقترح عليها محمدا، وذلك ما كانت ترجوه خديجة، بل إنها دفعته إلى ذلك بمكر أنثوي لطيف. قال لها: “محمد صادق، أمين، قوي، وفوق ذلك ضعيف الحال ومحتاج، ولا شكّ أنه، وكذا عمّه، سيشكر لك صنيعك معه”.
لم تتأخّر خديجة في استدعاء محمدا، واتّفقت معه على كلّ التفاصيل، ولم تكن تحتاج معه إلى كثير شرح، فقد وجدته كالمنتظر لقلّة ذات يده. كانت نفيسة خلفها تُراقب بعينين خبيرتين، ومن حركات خديجة وسكناتها، امتلأت يقينا بأنّ صديقتها تكتوي بنار حبّ حقيقي.
حينما وقفت خديجة، ذات مغرب تستعدّ سماؤها لاستقبال بدر كامل الاستدارة والضياء، تودّع قافلتها على مشارف الطريق المرسومة منذ قرون خلت، انفردت بميسرة، وأوصته بأن يظلّ لصيقا بالرجل، ويراقب كل حركته وتحركاته، سواء تعلّق الأمر بالتجارة أو غيرها؛ فهو في مقام المُمتحن، كما فسّرت له. قالت: “لو نجح في هذا الاختبار فسأكون قد…” قبل أن تتدارك بسرعة: “فسنكون قد فُزْنا برجل حقيقي”.
مرّ شهران طويلان على خديجة دون أن يبلغها خبر عن محمّد؛ وهي مدّة طويلة شاقة على كلّ محبّ، شهران قضّتهما في رسم خطط معقّدة وإلغائها، لتقتنع في الأخير بأنه لا شيء أفضل من البساطة والوضوح، هذا إن كانت شهادة ميسرة في الرجل مُشجّعة، فالسّفر كاشف لمعدن النّاس، فخلاله تطير القشور وتنفضح الأسرار، وإلا فإنّها ستلغي “المشروع” من أساسه. حدّثت نفسها ذات ليلة وهي تستدفئ في الفراش: “محمد شامة بين شباب قريش، الجميع يشهد له بعلوّ الأخلاق، وما يصلني من أنباء حول بعض تصرّفاته وعزلته وابتعاده عن سقط الحديث، جدير أن أغامر من أجله. لا بدّ أن أسبق إليه، وإلا ستفوز به امرأة غيري”.
” ما أجمل هذا الصّباح يا نفيسة… وما أسعدني!”: تأوّهت خديجة على مسمع من صديقتها وهما يتجوّلان في غرسة لها على أطراف مكة؛ كانت أوراق الأشجار ما تزال تحتفظ بقطرات ندى الليل. وفي الوقت الذي اغتمّت فيه السماء بسحب ناصعة البياض، مغطّية الشّمس التي تجمّلت بالظهور والتّخفي، كان سرب من الحمام يطير بفرح طفولي في غياب تام لكلّ كواسر السماء. لم تجد خديجة بُدّا من الجلوس حتى تستمتع بكل هذا البهاء الذي طال غيابه عن مكة التي تعوّدت أن تشويها الشّمس.
فجأة، غرّد طائرٌ فوق رأسها في حبور، رفعت عينيها لتتطلّع إلى هذا المخلوق الجميل الذي أبى إلا أن يُزيّن صباحها؛ كان طائرا غريبا ونادرا، لم يسبق لها أن رأته في هذه الأنحاء.
ـ “عادت القافلة… يا أهل مكة: قافلة الشام وصلت”، بلغها النّداء من بعيد، فبانت عليها الاستجابة سريعا، وارْتَاعَتْ، وكأنها فتاة صغيرة كانت تنتظر عودة والد طالت غيبته، ولم يعد لدى خديجة حينها ما تُخبّئه عن صديقتها. وحينما ألحّت عليها هذه الأخيرة قالت لها باختصار: “إنّني أرى في محمد ما لا أراه في غيره من الرّجال”، ثمّ سكتت.
لم تكن تحتاج سوى لدفعة خفيفة تأتي من هبّة نسيم عليل، أمّا القرار الكبير الذي سيصنع ما تبقى من حياتها فقد اتخذته تلك الليلة وهي في فراشها، وتلك الدّفعة هي ما رواه على مسامعها ميسرة حين مَقدمه عليها.
قصّ عليها كلّ شيء، تفاصيل كل شيء؛ قصّ عليها صبر محمد، وحكمته، وحنكته، وحبّ الناس له، كيف يأكل، وكيف ينام، واحتفظ بالحكاية الأجمل إلى الأخير؛ قال لها وهي شبه ساهية بعد أن أخذ منها ما سمعته كلّ مأخذ: مرّة، نزلَ محمد فِي ظِلِّ شجرةٍ قَريبًا مِنْ صوْمعةِ راهب، فما لبث أن جاءني الراهب وقال لي: مَنْ هذا الرَجلُ؟ قَلتُ له: هذا رجلٌ من قُرَيْشٍ من أهلِ الحَرمِ، فَقَال لَي: هذا الرّجل قد يكون نبّيا في المستقبل. قال ذلك وانصرف دون أن يمنحني فرصة لأسأله المزيد. توقّف ميسرة قليلا ثم أردف: يا سيّدتي، ذات هجيرة، وكان الحرّ شديدا، رأيتُ غمامة تظلّه وحده وهو يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ، وكان أمرا عجيبا لم يسبق لي أن رأيتُ مثله من قبل.
في الصّباح، لم تشأ خديجة أن تضيّع مزيدا من الوقت فأرسلت في طلب صديقتها على عجل، وبعثتها إلى محمد تستقصي رأيه وتدقّ باب قلبه. أسرعت نفيسة إلى دروب مكة وشعابها تبحث عنه، حتّى دُلّت عليه، وبدون أية مقدّمات لا يمكنها أن تنطلي عليه، فاتحته مباشرة بالسؤال الذي من أجله قَدِمت: لماذا لم تتزّوج لحد الآن يا محمد؟
ـ “ما بيدي ما أتزوج به يا نفيسة”: ردّ عليها ببساطة.
ـ فإن كفيت ذلك ـ شرحت له ـ ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟
ـ من هي؟ سألها مباشرة ودون مواربة.
نطقت نفيسة الاسم بفخامة: خديجة… خديجة بنت خويلد.
ـ أو تَقبل! ردّ باندهاش؛ كان يعرف مقامها ومقدارها، وبلغه أنّ رجالا كثرا طلبوها للزواج فامتنعت.
وهنا فجّرت أمامه سرّها الذي احتفظت به لحدّ الآن قائلة: هي من أرسلتني إليك.
انفرج ثغره عن ابتسامة عميقة، وأشرق البِشر في محيّاه، وحينئذ فقط استيقنت نفيسة تماما من سلامة اختيار صديقتها، وأنّ ذوقها من ذهب ويستحق المغامرة. كانت تحدّث نفسها بهذه المعاني عندما سمعت محمدا يقول: أقْـبَـلْ.
استقبلت خديجة الخبر بهدوء يليق بامرأة ناضجة، وعندما انتشر النّبأ بين أهل مكّة، كما يفعل نسيم المساء العليل، لم يستغربوا من شيء، لأن الجميع فطن أنّ محمّدا وخديجة يليق كلّ واحد منها بالآخر.
مرّت الأيام والسّنوات، وأنجبت خديجة أبناء ستة، توفّي الذّكور منهم، وكانت لمحمّد الأم والأخت والصّاحبة، وعوّضته عن يُتم طفولته فغدا في صحبتها في كامل اللياقة والعنفوان.
ومنذ الشهور الأولى للزواج اطّلعت خديجة على جانب جديد من شخصية زوجها كان غائبا عنها؛ اكتشفت أنّه يُحب العزلة لأيام في كهف في الجبل؛ أسرّ لها بأنه يجد نفسه هناك، حيث يتأمّل في العالم ويتفكّر في أحوال النّاس ومصائرهم. راقها هذا المسعى كثيرا، خاصة وأنّه لا أحد من أهل مكة سبق وأن اشتهر بذلك. هي تعرف أن هذا الأمر له صبغة روحية؛ فكثيرا ما سمعت من أحد أقاربها أحاديث مستفيضة عن الرّب، والنّبوّة، والإيمان، ويوم القيامة. كانت هذه الألفاظ ومثيلاتها وما يتبعها من المعاني المتداولة في مجالس أفراد عائلتها.
أثناء اعتزاله، كانت تزوره بانتظام لتطمئنّ عليه أوّلا، ولتمدّه ببعض الطعام والشّراب، وكثيرا ما جلست عنده بعض الوقت تراقب صُنعه، فليست خديجة – كما يؤكّد كلّ من يعرفها ـ بالمرأة التي تترك أمرا بهذا القدر يمرّ أمام عينيها بدون أن تفهم عمقه ومقاصده.
ذات صباح دافئ، كما روت خديجة لصديقتها نفيسة، التي نقلت الخبر لبعض صويحباتها، عاد محمدٌ إلى البيت شاحب الوجه، مخطوف النظر، ترتعد كلّ شعرة في جسده. احتضنته هنيهة، ولمست جبهته ووجنتيه، وحينما وجدتهما حارقتين قادته بهدوء نحو فراشه. مدّدته، وغطّته، وجثت أمام رأسه تريد أن تفهم منه الذي جرى.
كان مرتاعا يُقَفْقِف إلى حدّ أن أسنانه كان يُسمع لها اصطكاكا. وكان يردّد سؤالا واحدا: ما لي يا خديجة ما لي.. ما الذي يُراد بي؟ فيما بعد اعترف لها، بعد أن روى لها الحكاية كاملة، أنّه ـ يومها ـ خشي على نفسه المهالك مادية ومعنوية.
قال لها: جاءني كائن عظيم لم يسبق لي أن شاهدته أو سمعتُ به. انبعث معي فجأة، ولم يمنحني الفرصة كي أدقّق النظر فيه. ضمّني إليه مرّات وطلب مني بصوت قويّ أن أقرأ، فقلتُ له: ما أنا بقارئ، وكرّر سؤاله ثلاث مرّات، وفي الرابعة قال لي: “اِقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ مِنۡ عَلَقٍ. اِقۡرَأۡ وَرَبُّكَ ٱلۡأَكۡرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِٱلۡقَلَمِ. عَلَّمَ ٱلۡإِنسَٰنَ مَا لَمۡ يَعۡلَمۡ”.
صمت برهة طويلة، ثم قال لها في هلع: هل يمكنّ أن أكون قد صرتُ كاهنا يا خديجة؟
فَقالَتْ له في ثقة عارمة: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ.
عندما خفّ عن محمّد ما كان به من جزع، ألبسته خديجة معطفا من صوف، خوفا عليه من أذى الجو، ثمّ أخذت بيده، وانطلقت به إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل. وحينما سمع ورقة الحكاية كاملة تهللت أساريره، ودمعت عيناه، وتمتم بأدعية، ثمّ قال: هذا النّاموسُ الذي أُنْزلَ على موسى، يا لَيْتَنِي فيها أكون جَذَعًا حين يُخْرِجُكَ قومُكَ، فقالَ محمد: أوَمُخرجِيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم؛ لم يأْتِ رجلٌ قطُّ بمِثْلِ ما جئتَ به إلَّا عوديَ، وإن يُدْرِكْنِي يومُك أنْصُرْكَ نصرًا مؤَزَّرا.
خرجت خديجة من عند ابن عمّها ممتلئة حَمدا وفخرا. لم تكن الدّنيا تسع فرحتها؛ فقد حازت مُنتهى المجد وظفرت به.