عكس شعارات بناء “الدولة الاجتماعية” و”إرساء الديموقراطية التشاركية”، أقبلت الحكومة المغربية بشكل انفرادي على طرح مشروع قانون 23-54 القاضي بإدماج CNOPS في CNSS في إطار تغيير القانون 00-65 المتعلق ب AMO مع ما يشكل ذلك من خطر مستقبلي على حقوق ومكتسبات أزيد من 3 ملايين منخرط ومستفيد، وانفردت قبل ذلك بإعادة طرح مشروع القانون التنظيمي 15-97 الخاص بتكبيل الإضراب وإفراغه من محتواه، وهي تشتغل اليوم وفق ذات المنهجية الاستعلائية لإعلان مشروع خطة إصلاح أنظمة التقاعد ومشروع قانون النقابات.
دعنا نقر بأن حكومة “الباطرونا” ظلت وفية لنهجها الأحادي في إعداد مشاريع المراسيم والقوانين قبل وضع النقابات أمام الأمر الواقع باستدعائها لإبداء رأيها فيها عملا بمنطق “شاورها وامض”، فماذا فعلت النقابات لتدبير هذا الوضع؟ لاسيما وأن السلوك الانفرادي الحكومي يفرغ آلية الحوار الاجتماعي من معناه التفاوضي، ويجعل منه آلية لتأثيث المشهد ولإضفاء نوع من “الشرعية” على مشاريع قوانين قبل تمريرها بمنطق الأغلبية تحت قبة البرلمان. ونستحضر هنا كيف تم تمرير إصلاح صناديق التقاعد والقانون الإطار 17-51 تحت قبة البرلمان.
ثم أي معنى لآلية الحوار الاجتماعي يصمد أمام الهجوم الحكومي المبرمج في مشاريع قوانين المالية والمخططات التشريعية على مكتسبات الشغيلة من أجل هضم حقوقها الاجتماعية والمهنية والمادية، وضرب القدرة الشرائية للمواطنين، وتوسيع رقعة الفقر والهشاشة، وضرب جودة الخدمات الأساسية في التعليم والصحة وتسليعهما، وتقليص فرص الشغل القارة والكريمة بدخل معقول للشباب دفعا إياهم إلى الهروب الجماعي من جحيم الحكرة إلى الموت أو جحيم الغربة، وكذا أمام ضرب الحريات النقابية والحق في الإضراب تمهيدا لضرب ما تبقى من مكتسبات العمال والمستخدمين في مدونة الشغل، والزحف على ما تبقى من مكتسبات في مجال الحماية الاجتماعية.
أعتقد أن لا أحد يجادل في أن التفاوض الاجتماعي هو انعكاس لموازين القوى على طاولة الحوار وفي الميدان، وأن المحاور النقابي في حاجة إلى أن يكون موحد الموقف على طاولة الحوار، لأن التنازع فشل من الوهلة الأولى حتى لو كانت القضية عادلة. ثم هو في حاجة إلى حراك اجتماعي ضاغط على السلطة وقوة الرأسمال لتحسين الموقع التفاوضي دفاعا عن الأجراء وكرامتهم وحفظا لحقوقهم العادلة والمشروعة. ويكفي أن نقلب وجوهنا في تجارب النضال العمالي في العالم لنكتشف أن الحوار مع السلطة وحده لا يكفي، وأن المحاور في حاجة ماسة إلى جبهة ميدانية مناضلة داعمة تتداعى لها مختلف الهيئات النقابية والحقوقية والإعلامية والثقافية والسياسية المؤمنة بأهمية الدفاع عن العدالة الاجتماعية والحريات النقابية، وتكون قادرة على التعبئة والإسناد والضغط الميداني الموازي، لأن الحق ينتزع ولا يمنح. ولنا في معركة نساء ورجال التعليم درسا مهما -مع ما يمكن تسجيله من ملاحظات في السيرورة- حين استطاع الحراك التعليمي تجميد وإرجاع النظام الأساسي إلى طاولة الحوار، وإعادة صياغته من جديد بما يتوافق والكثير من مطالب الشغيلة التعليمية بعدما كانت الحكومة ترفض ذلك رفضا باتا.
أتصور أنه في غياب النضال التنسيقي الجبهوي الداعم، ستصدر الهيئات النقابية بيانات منفردة للتنديد، وقد فعلت، وقد تنطلق مبادرات تنسيقية منقوصة أقصى ما تستطيعه إقامة الحجة وإبراء الذمة، ثم يعود الجميع أدراجه بعد تمرير القوانين إلى تقاذف صكوك تحميل المسؤولية. فيصدق حينها قول الشاعر: “من يهن يسهل الهوان عليه”.
إننا جميعا أمام مرحلة مفصلية دقيقة تدعو جميع الفاعلين المجتمعيين، وفي مقدمتهم الهيئات النقابية، إلى تحمل المسؤولية التاريخية، والتعالي على الحسابات النقابوية والسياسوية والإيديولوجية الضيقة، وتوحيد الجهود وتنسيق النضالات، وهذا واجبها من أجل سحب مشاريع القوانين الانفرادية وإرجاعها إلى طاولة الحوار، ووقف الزحف على مكتسبات الشغيلة وحماية حقوقها المهنية والاجتماعية والنقابية.
محمد بن مسعود
كاتب عام القطاع النقابي للعدل والإحسان
18 شتنبر 2024