نحو تجديد معاني الفقه في الدين: نظرات في الأصول2– (الفقه في الدين) والفتح

Cover Image for نحو تجديد معاني الفقه في الدين: نظرات في الأصول2– (الفقه في الدين) والفتح
نشر بتاريخ

بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته المرحومة بما ادخر الله لها في آخر الزمان من الخير الكثير والفيض العميم. روى الإمام الترمذي رحمه الله بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر لا يُدْرَى أَّوَّلُه خيرٌ أمْ آخرُه”. ووعد الغرباءَ بخلافة ثانية على منهاج النبوة تتجدد فيها معاني الإيمان في قلوب المسلمين، ويُبنى فيها أمرُ الأمة على أساس الشورى والعدل، لتستعيد بعد عهود العض والجبر عزةَ المؤمنين المتقين، فتفتح لها بركات السماء والأرض، وتَدين لها ملوكُ الشرق والغرب تحقيقا لوعده الكريم سبحانه: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا 1 .

في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم باح لصحابته الكرام باشتياقه الكبير لإخوانه الذين يأتون من بعد، والذين يبادلونه هذا الشعور الوجداني الرقيق من الشوق والتوق. “عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: “السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا”. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟ قَالَ: “بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانِي الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ”. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: “أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ بُهْمٍ دُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: “فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْض”” 2 . و“عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِه”” 3 .

لحظةٌ تقع فيها العين على شخص الحبيب، يهون دونها بذل المال والأهل والقريب.

ما كان لهؤلاء “الإخوان” أن يحظوا بشوق المصطفى صلى الله عليه وسلم لو لم يكن لهم في أيام الغُربة النصيبُ الأوفرُ من العطاء الإلهي المدَّخَر لهذه الأمة، ولو لم يكن بينهم و بين الرعيل الأول مناسبةٌ ومشاكلة تستدعي هذه المقابلةَ المعبِّرة بين “الأصحاب” و”الإخوان”. لا جَرَم يكون لهؤلاء شرف الوعد الرباني والبشرى النبوية بالفتح والنصر كما كان لأولئك، ولا جرم يصلحون آخر الأمر بما صلح به أوله كما قال الإمام مالك.

بماذا إذن صلح أمر المسلمين في أول الدعوة حتى يحصل الاقتداء؟ وما هي الكيمياء التي تقلب ضعف الأمة قوة، وذلها عزة، وانهزامها سيادة وريادة وظهورا على الأعداء؟

في أحاديث التبشير بالفتح، يدل سيد المشتاقين إخوانَه الغرباء على البلسم والدواء. روى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده بسند صحيح عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: “مَنْ يُرِد اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الْأُمَّةُ أُمَّةً قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ”.

غالبا ما يُذْكَرُ شِقَّا هذا الحديث – في الخطب والمناسبات – مفصولا أحدُهما عن الثاني، وهو ما يُفقد النصَّ معناه التام. فتجد الناس يخوضون في شرح الحديث المرغب في التفقه في الدين دون أن يجاوزوا دائرة التعبد الفردي والمعاملات المالية وما شابه ذلك. ثم إذا تذاكروا الشطر الثاني أوردوه بلسان المحوقل العاجز، أو في أحسن الأحوال بقلب المؤمن الضعيف المترقب نزول المدد بالنصر والتمكين. والحقيقة أن انفصال شقي الحديث على ألسنة “خاصة” المسلمين و”عامتهم” ما هو إلا تعبير عن واقع عاشته الأمة بعد قرن النبوة والخلافة ولا زالت. انفصال أورث “فقها” مبتورا عن مصير الأمة، و”ظهورا” مُشَوَّها لا ينبني على فقه رصين.

العلم الكامل الذي نستفيده من هذا الحديث العظيم هو أن الشرط في ظهور الأمة وتأييدها بالفتح المبين فقهٌ في الدين. كلِّ الدين. أي: فقه في الإسلام، وفقه في الإيمان، وفقه في الإحسان.

ولأمرٍ ما قال الإمام الزمخشري رحمه الله في كتابه (الفائق في غريب الحديث): الفقهُ حقيقةً: الشقُّ والفَتْحُ).

فمتى أراد الله عز وجل أن يجـدد للأمة خيريتها، “فَقَّهَ” “الإخوانَ” في الدين كُلِّه، ورَزَقَهَم به الفتحَ القريب.

كان هذا المعنى راسخا في فهم الصحابة رضي الله عنهم، حتى قال سيدنا عمر رضي الله عنه فيما رواه الإمام الدارمي رحمه الله في (مقدمته) بسنده عن الثقات: “تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا”. ليُعَلِّمَ أهلَ العدل في كل زمان أن السيادة تطلب تفقها كُلّيا في الدين، بل ليُحَذِّرَ من الطمع في السيادة والظهور بغير فقه. “عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: تَطَاوَلَ النَّاسُ فِي الْبِنَاءِ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ: “يَا مَعْشَرَ الْعُرَيْبِ! الْأَرْضَ الْأَرْضَ! إِنَّهُ لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ، وَلَا جَمَاعَةَ إِلَّا بِإِمَارَة، وَلَا إِمَارَةَ إِلَّا بِطَاعَة، فَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى الْفِقْهِ كَانَ حَيَاةً لَهُ وَلَهُم، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَانَ هَلَاكًا لَهُ وَلَهُمْ”” 4 .

درس عُمَرِيٌّ لأمة انقطعت صلتها – منذ حَكَمَ السيف وظَهَر الحيْف – بسنة الخلفاء الراشدين. “سادةٌ” أرادوها كسروية هرقلية، لكنها مزينة بشعار “الخلافة” حينا، أو مستترة بلباس “البطولة القومية” حينا آخر، أو “مكشوفة” أحيانا كثيرة تحت قطمير النفاق والاستخفاف بعقول العوام. سادوا بغير فقه فهلكوا وأهلكوا!!

أما الغرباء فتراهم قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، فتفقهوا في دينهم التفقه الكامل اللائق بفتح جديد، واعتبروا بقوم أعوزهم الفقه فامتلأت قلوبهم رعبا ورهبة: لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 5 . وبقوم أعوزهم الفقه فانهزموا من كثرة: إن تكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون 6 . وبقوم أعوزهم الفقه فأصابتهم الصيحة: قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول 7 .

وقد ذكر الإمام البغوي رحمه الله عند تفسيره للآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين 8 : وقال الحسن (أي البصري رحمه الله ): “هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة، ومعناه: هلا نفر فرقة ليتفقهوا، أي: ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليه من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يحذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار”).

رعب، وهزيمة، وعذاب لقوم “لا يفقهون”. ورجال “يتفقهون بما يريهم الله من الظهور”. درس وعبرة.

غربة الدين من غربة الفقه فيه، وتزول هذه الغربة إن شاء الله بإرجاعه (أي الفقه في الدين) إلى قائمة المطالب، بل تعطى له الصدارة في سلم الأولويات. عن كعب رحمه الله قال: “ليأتين على الناس زمان يُعَيَّر المؤمن بإيمانه كما يعير اليومَ الفاجر بفجوره حتى يقال للرجل إنك مؤمن فقيه” 9 .


[1] النور 53.\
[2] رواه الإمام النسائي بسند حسن.\
[3] رواه الإمام مسلم رحمه الله.\
[4] رواه الإمام الدارمي رحمه الله في (المقدمة).\
[5] الحشر 13.\
[6] الأنفال 65.\
[7] هود 91.\
[8] التوبة 122.\
[9] رواه الإمام نعيم بن حماد رحمه الله في (الفتن).\