اذا أردنا أن نكون صادقين وامناء مع انفسنا فينبغي ان نحني رؤوسنا اجلالا للشعب الفلسطيني وخجلا منه. الاجلال لما يفعلونه، والخجل مما لم نفعله. فالبطولة حظهم الذي لهم ان يفخروا به، والعجز نصيبنا الذي ينبغي ان نستحي منه. واذ تعلمنا دروس التاريخ ان المقبلين على الموت وحدهم الذين تكتب لهم الحياة، فلا ينبغي ان ينسينا ذلك حقيقة ان المؤثرين للنجاة والمستسلمين للقعود والعجز هم الموتى الحقيقيون.
(1)
هذه رسالة تنطق بالعزة والكبرياء والفداء وجهتها الينا مؤخرا طالبة جامعة النجاح في نابلس، دارين ابو عيشة (22 سنة) بعدما قضت ليلتها في قراءة القرآن، وخرجت من بيتها صامتة، لكي تفجر نفسها في جنود العدو الاسرائيلي، وتحقق امنيتها في ان تلحق بركب الشهداء وموكبهم الجليل، الذي سبقها اليه شقيقها وخطيبها.
في الرسالة قالت دارين ما نصه: “لأن دور المرأة المسلمة الفلسطينية لا يقل في شأنه مكانة عن دور اخواننا المجاهدين، قررت ان اكون ثاني استشهادية تكمل الدرب والطريق الذي بدأت به الشهيدة وفاء ادريس. فأهب نفسي رخيصة في سبيل الله سبحانه وتعالى انتقاما لاشلاء اخواننا الشهداء، وانتقاما لحرمة ديننا ومساجدنا وانتقاما لحرمة المسجد الاقصى وبيوت الله التي حولت الى بارات يمارس فيها ما حرم الله نكاية في ديننا واهانة لرسالة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ولان الجسد والروح كل ما نملك، فاني اهبهما في سبيل الله لنكون قنابل تحرق الصهاينة، وتدمر اسطورة شعب الله المختار. ولان المرأة المسلمة الفلسطينية كانت وما زالت تحتفظ بمكان الصدارة في مسيرة الجهاد ضد الظلم، فاني ادعو جميع اخواتي للمضي على هذا الدرب. الذي هو درب جميع الاحرار والشرفاء. فاني ادعو كل من يحتفظ بشيء من ماء وجه العزة والشرف، للمضي في هذا الطريق، لكي يعلم كل جبابرة الصهاينة انهم لا يساون شيئا امام عظمة وعزة اصرارنا وجهادنا. وليعلم الجبان شارون بأن كل امرأة فلسطينية ستنجب جيشا من الاستشهاديين، وان حاول وأدهم في بطون امهاتهم على حواجز الموت، وان دور المرأة الفلسطينية لم يعد مقصورا على بكاء الزوج والاخ والاب، بل اننا سنتحول بأجسادنا الى قنابل بشرية تنتشر هنا وهناك، لتدمر وهم الامن للشعب (الاسرائيلي) وفي الختام اتوجه الى كل مسلم ومناضل عشق الحرية والشهادة ان يبقى على هذا الدرب المشرف، درب الشهادة والحرية.
ابنتكم الشهيدة الحية: دارين محمد توفيق ابو عيشة.
(2)
دخول الفتاة الفلسطينية ساحة العمليات الاستشهادية بهذه الدرجة من الجسارة اضاف لطمة جديدة الى الغرور والصلف الاسرائيليين، وبعث الى الجميع برسالة مدوية تقول ان المذابح اليومية وعمليات التركيع لن تثني الشعب الفلسطيني عن عزمه في الدفاع عن حريته وكرامته. إذ خلال الاسابيع الاربعة الاخيرة وجهت المقاومة الفلسطينية بشتى فصائلها لطمات عنيفة باغتت الاسرائيليين بضراوتها وبراعتها، واثارت الانتباه بشدة، من حيث انها كانت بمثابة نقلة من موقع رد الفعل الى الفعل، ومن الدفاع الى الهجوم، على نحو لقن الاسرائيليين دروسا لم يألفوها اربكت قياداتهم وألقت في روع جنودهم خوفا ظل مستبعدا من خيالاتهم.
اترك الاستطراد في هذه النقطة الى شهادة احد الصحفيين العرب في تل ابيب نظير مجلي، الذي نشرت له صحيفة “الشرق الاوسط” في 5/3 تقريرا يلقي ضوءا قويا على الاصداء الاسرائيلية للجسارة التي ابدتها عناصر المقاومة الفلسطينية وفيه قال: ان القادة العسكريين في اسرائيل يشعرون ان الفلسطينيين يضربون في الصميم الجيش الاسرائيلي الذي يرددون، جيلا بعد جيل بأنه الجيش الذي لا يقهر، وانه اقوى وافضل خمسة جيوش في العالم. وعند بداية الانتفاضة في زمن حكومة ايهود، باراك، كانوا يبررون نجاح بعض العمليات الفلسطينية بالادعاء بان الحكومة تكبل أيدي الجيش. وفي تلك الفترة ارتفع شعارهم “دعوا الجيش ينتصر” وتبنى زعيم المعارضة في حينه، ارييل شارون، هذا الشعار وراح يستند اليه في حملته الانتخابية ضد باراك ويغدق بالوعود في ان ينجح هو مع الجيش في تحقيق الانتصار على الفلسطينيين.
وبعد مرور سنة على فوز شارون في الانتخابات، لم يحقق الجيش ذلك الانتصار الموعود، بل على العكس ارتفعت وتيرة المقاومة الفلسطينية وزاد عدد القتلى الاسرائيليين من جراء العمليات. ففي غضون الاسبوعين الاخيرين قتل حوالي 21 عسكريا اسرائيليا. وفي اقل من 12 ساعة ما بين ليل 1/3 وفجر 3/3 قتل 21 اسرائيليا بينهم ما لا يقل عن 7 جنود.
وكان شارون قد زاد الطين بلة، قبل سبعة اشهر عندما وبخ القيادة العسكرية على انها لا تفلح في اعطاء الرد المناسب على العمليات الفلسطينية وفي مرحلة معينة اجتمع مع القادة العسكريين الميدانيين، في قواعدهم العسكرية وراح يشرف بنفسه على العمليات الميدانية. ويضع معهم “الخطط الناجعة لاقتلاع الارهاب” وذلك باعتباره صاحب خبرة عسكرية طويلة. ولكن كل البطولات العسكرية السابقة وكل تجارب الماضي واختراعات الحاضر، لم تمكن الجيش الاسرائيلي من صد العمليات الفلسطينية العسكرية الناجحة. بل لوحظ ان هناك تطورا عسكريا في مستوى هذه العمليات وجرأتها ونجاحها، خصوصا تدمير الدبابة الاكثر تطورا في العالم “ميركافا ـ 3” وتصفية جميع الجنود المرابطين على حاجز عسكري محصن قرب رام الله قبل اسبوعين واقتحام عدة مستوطنات محصنة، اطلاق الصاروخ الفلسطيني “قسام 2”. لقد أثار نجاح هذه العمليات نقاشا واسعا في اسرائيل عموما، ونقاشا حادا داخل الجيش، وراحوا يفتشون عن اسباب هذا النجاح في مجالات التفافية على الحقيقة، فتارة يقولون ان الجنود اهملوا وتارة يقولون ان الصدفة اتاحت هذا النجاح.
(3)
غير ان ما سبق في كفة، والعمليتان العسكريتان المذهلتان اللتان تمتا يومي 3 و4 مارس الحالي في كفة اخرى. ذلك انهما احدثتا دويا مصحوبا بصدمة كبيرة داخل اوساط الجيش الاسرائيلي ـ كيف؟ اليك التفاصيل.
العملية الاولى وقعت في الساعة السابعة الا ثلثا من صباح الاحد 3/3، على حاجز الشرطة الاسرائيلية في وادي الحرمية على طريق رام الله ـ نابلس حيث كمن شاب فلسطيني، على تل يطل على الحاجز يعتقد بأنه وصل اليها مبكرا جدا. وعندما بدأ الجنود يخرجون من استراحتهم اخذ يصفيهم واحدا واحدا. وهناك من يقول انه اطلق رصاصة في الهواء لجعلهم يخرجون.
الحاجز المذكور محصن جدا ويحرسه باستمرار 12 جنديا، وفيه استراحة الجنود مغلقة ومحصنة، تضمن للجنود عدم الشعور بالارهاق خلال الخدمة، ومع ذلك فقد انتهت العملية بعد 25 دقيقة فقط، بمقتل 10 اسرائيليين سبعة منهم جنود وجرح عدد آخر.
الشاب الفلسطيني كان مسلحا ببندقية قديمة من طراز كاربين (ام ـ 1) التي انتجت لأول مرة سنة 1940 في الولايات المتحدة. وتتسع باغة هذه البندقية لـ 30 رصاصة، عيار 6 ملم، وتطلق رصاصاتها واحدة تلو الاخرى.
كان صاحبنا الفلسطيني يكمن على بعد 50 مترا من الجنود،لكنه اتخذ له موقعا مرتفعا عنهم في التلة المجاورة. في البداية اطلق رصاصة باتجاه الجندي الذي يحرس الحاجز. ورصاصة اخرى باتجاه مواطن يهودي يرتدي ثيابا مدنية كان الى جانبه، قتلهما على الفور. الجنديان اللذان يحرسان الحاجز من الجهة الشمالية لم يستوعبا بعد ما يجري يطل أحدهما من وراء حاجز من الاسمنت المسلح، فيصيبه الفدائي برصاصة. فيطل الجندي الثاني فيصاب هو الاخر. عندئذ يخرج جندي من الاستراحة. كان نائما فأيقظه ازيز الرصاص. فاتجه نحو زملائه المصابين راكضا، لتصيبه واحدة من رصاصات الفدائي المتلاحقة. لم يمت هذا الجندي بالذات، وكانت اصابته متوسطة. عندها يخرج نائب قائد قوة الحراسة من الغرفة، ويزحف من حولها حتى يتعرف الى مصدر النيران، لكنه قبل ان يكتشفه، يتلقى رصاصة اخرى، ويسقط قتيلا على الفور. هنا يتقدم الجندي الممرض محاولا اسعاف الجرحى، وهو يشهر السلاح فصوب الفدائي بندقيته نحوه فأرداه. وفي هذه الاثناء وصلت سيارة مستوطن، فأطلق باتجاهها. ثم حضر قائد القوة العسكرية المسيطرة على هذه المنطقة، وهو برتبة مقدم في الجيش، وما ان وطأت قدماه الارض حتى استقرت رصاصة في رأسه، فسقط ووصلت بعد لحظات سيارة مدنية اخرى كان يقودها بالصدفة ضابط في سلاح المظليين، فأطلق الفدائي باتجاهه، فأرداه ايضا. وحضرت سيارة ضابط الامن في مستعمرات المنطقة فأصيب بجراح بليغة. ثم حضرت سيارة مستوطن اخر. وقتل على الفور. عندها فقط غادر الفدائي المكان مخلفا البندقية وراءه، وهرب ـ حسب تقديرات الجيش، باتجاه قرية سنجل القريبة ضمن حدود 1967) او قرية جلجولية (ضمن حدود 1948).
العملية الثانية: وقعت بعد الاولى مباشرة، في السابعة والثلث صباحا ولكن في الجنوب على حدود قطاع غزة، حسب تقديرات الجيش الاسرائيلي فان خمسة فدائيين (من سرايا القدس الجناح العسكري للجهاد الاسلامي وكتائب شهداء الاقصى) وصلوا الى المكان، وكان احدهم يحمل سلما من الحشب ذا ساقين. حامل السلم الخشبي نصبه فوق السياج الالكتروني. ولكونه من الخشب لم تكتمل الدائرة الكهربائية فلم ينطلق جهاز الانذار والمراقبة. فتسلق عليه وانتقل الى الجانب الاسرائيلي من الحدود حاملا السلم معه. في حين كان رفاقه الاربعة يراقبون المنطقة من بعيد ويبلغونه بالتطورات.
توجه الفدائي الفلسطيني مباشرة الى النقطة العسكرية غير الثابتة قرب السياج، والتي يشغلها الجنود ا لاسرائيليون في النهار، بشكل عام، ويتركونها في الليل، ويبدو ان الفدائيين راقبوا تحركات الجيش في المكان، وبنوا عمليتهم على اساسها.
كمن الفدائي في الموقع في انتظار جنود الحراسة، فما ان وصل الجنود وعددهم خمسة وهم من الوحدة العسكرية الاسرائيلية المشهورة “جعلاني”، حتى داهمهم الفدائي وراح يطلق الرصاص المكثف باتجاههم. فاصابهم جميعا بجروح ما بين خفيفة ومتوسطة وتمكن من قتل احدهم. ونجح في الهرب من المكان بنفس الطريقة، اي بواسطة السلم، قبل ان تصل قوة الانقاذ.
(4)
أدري ان الحكومة الاسرائيلية لم تدر للفلسطينيين خدها الايسر، وانما حاولت ان ترد الصاع صاعين، فشددت من حملاتها الانتقامية الامر الذي أدى الى اغراق فلسطين كلها في بركة من الدم. (في يوم الجمعة 5/3وحده قتل 50 شخصا في غزة وبيت لحم) ـ وفي تقدير الدكتور زياد ابو عمرو رئيس اللجنة السياسية في المجلس التشريعي الفلسطيني ان عدد الذين استشهدوا منذ بداية الانتفاضة (في سبتمبر 2000) وحتى الان، اي خلال الـ 18 شهرا الماضية، يتراوح ما بين 1500 و2000 شخص، بمعدل عشرة شهداء يوميا تقريبا. وذلك اذا كان قد عبر عن الوحشية الاسرائيلية الا انه ايضا تعبير اقوى عن الاصرار والاستعداد غير المتناهي للفداء لدى الفلسطينيين.
في 5/3 نشرت صحيفة “يديعوت احرونوت” مقالا تحت عنوان: سنرد على الذبح بالذبح، ويجب ان نضربهم حتى يتوسلونا لوقف اطلاق النار. وفي مستهل المقال اشارت الصحيفة الى ان المقولة الواردة في العنوان وردت على لسان احد الوزراء “المعتدلين” بعد يوم صعب سقط فيه 22 قتيلا من الجانب الاسرائيلي. وانه في ذلك الاجتماع تنافس الوزراء في وصف الرد المضاد. ومما قاله شارون في هذا الصدد “علينا ان نضربهم ضربات مؤلمة جدا، وبصورة متواصلة الى ان يستوعبوا حقيقة انهم لن يحققوا شيئا عن طريق “الارهاب” وفي حديثه الى الصحفيين اضاف: في الوقت الراهن، اما نحن واما هم.
وزير العدل مائير شطريت قال: لقد سئمنا، وانتهى الاعتدال (!) لذلك يجب ان نضربهم حتى يتوسلوا لوقف اطلاق النار. وزيرة المعارف ليمور ليفنات قالت: الحسم العسكري قبل كل شيء. فقط بعد ذلك يمكن ان نتحدث. وزير البنى التحتية افيغدور ليبرمان قال: يجب تقويض السلطة كلها وطرد عرفات واعتبار قادة المنظمات الفلسطينية مخربين. واقترح لتدمير الوضع الفلسطيني البدء بابلاغ الفلسطينيين بانهم اذا لم يوقفوا الاعمال “الاهاربية” خلال 24 ساعة، فعلى اسرائيل في اليوم التالي ان تقوم بما يلي: في الساعة الثامنة صباحا يتم قصف كل المراكز التجارية في الضفة وغزة.. في الثانية عشرة ونصف تقصف محطات الوقود، وفي الثانية من بعد الظهر تقصف كل البنوك. والى ان يتحقق ذلك. دعا ليبرمان الى قطع الكهرباء والهاتف عن مكتب عرفات ومنع الناس من زيارته ولو بالقوة.
من الكتابات التي عبرت عن اللوثة التي اصابت النخبة الاسرائيلية من جراء ضربات المقاومة الفلسطينية ما نشرته صحيفة “هاآرتس” في 5/3 للمعلق العسكري زئيف شيف، وقال فيه: ان “الانتحاريين” ومرسليهم وافراد عائلاتهم قد يكتشفون بان اسرائيل المتعرضة لضربات العنف ستنجرف الى ردود فعل عديمة الرحمة. ومن تلك الردود الحاق الاذى بعائلة الفدائي (الانتحاري)، وليس فقط باملاكها (في العادة يهدم بيت الاسرة) ذلك انه اذا كان “العنف الفلسطيني” يقضي على عائلات اسرائيلية بكاملها، فيحتمل ايضا ان تتعاظم الاصوات الداعية الى المس جسديا (قتلا بطبيعة الحال)بعائلة “الارهابي الانتحاري” بحيث تتغلب على المعارضين الاسرائيليين للفكرة، استنادا الى المعايير الاخلاقية(!).
(5)
يتوارى المرء خجلا حين يشاهد على شاشات التلفزيون مظاهرات الاحتجاج ضد الوحشية الاسرائيلية في لندن وباريس وروما وموسكو، ولا يجد لمثل تلك المظاهر اثرا في اي عاصمة عربية، باستثناء مظاهرة اللاجئين الفلسطينيين في عمان وتظاهر بعض طلاب الجامعات في مصر. ويتضاعف الخجل حين نلاحظ انفعال الصحفي البريطاني فيل ريفز، فيما كتبه بصحيفة “الاندبندنت” محتجا على صمت العالم الغربي و”وقوفه موقف المتفرج بينما الفلسطينيون يموتون ويسحقون من جانب اسرائيل” ويتحول الخجل الى شعور بالخزي حين يلاحظ المرء ان بعض صحفنا ومحطاتنا الفضائية العربية تعاملت مع المشهد الفلسطيني بحياد مفجع. فاكتفت بتسجيل ما يجري على هذه الجبهة وتلك دون التزام بموقف معين، وكأن الصراع يدور في زائير او كولومبيا. ويتواصل الشعور بالخزي حين تتحدث اصوات بعض الساسة في العالم العربي من ذات الموقف المحايد، الذي لا يرى مبررا للوقوف مع هذا الطرف او ذاك، وانما يدعي الانحياز الى السلام فقط، او ذلك الموقف الذي يحمل الطرفين مسؤولية ما جرى ويجري دون تمييز بين القاتل والقتيل، او بين المجرم والضحية.
لا غرابة والامر كذلك ان يدرك الفلسطينيون انهم في الحرب الشاملة التي تشن ضدهم الان يقفون وحدهم، مكشوفي الظهر تماما، بغير اي سند او ظهير على وجه الارض. وربما كان ذلك حافزا اضافيا رفع من وتيرة الجسارة والاستبسال. حيث لم يعد هناك ما يعولون عليه عربيا او دوليا. واذا خيروا بين الاقدام مع الشهادة وبين الكمون والموت تحت القصف، فقد كان طبيعيا ان يؤثروا الشهادة وان ينتظموا على دربها المجلل بالدم الزكي والمعبق بريح الجنة، في طوابير لا نهاية لها، تنسج الحلم الآتي في غد غير منظور.
لا احد يعرف الان كم ولا كيف او متى سيدفع العرب ثمن موقفهم المفجع لكن القدر المتيقن ان محكمة التاريخ سيكون حكمها قاسيا على عرب هذا الزمان، ذلك ان عجزا بهذا القدر ازاء قضية مصيرية ومحورية في العالم العربي من ذلك القبيل، ليس له ان يمر بالمجان.
نعم هناك افكار واوراق عربية متداولة في الساحة، لكن كل ما هو مطروح الان يظل ادنى بكثير من الثمن الذي دفعه الفلسطينيون، ناهيك عن انه لا يرتقي الى مستوى الدعم الحقيقي لصمود الشعب البطل. اذ بعدما تجاوز عدد القتلى اكثر من 1500 شخص خلال 18 شهرا فقط. وبعدما تحولت الارض المحتلة الى بركة دم، ولم يعد يرى في شوارعها سوى جنازات الشهداء، وبعدما عانت مرابعها من التجويع والترويع بعد هذا كله، سيكون مهينا ان يصبح غاية المراد ان يسمح للرئيس عرفات بالسفر لحضور القمة العربية في بيروت او ان يجلس الفلسطينيون مع نفر من القتلة ومجرمي الحرب الاسرائيليين على طاولة المفاوضات في اي مكان. ثم انه ازدراء ما بعده ازدراء ان تعلق الآمال والابصار في نهاية المطاف بمبعوث امريكي يأتي لكي يبيع الوهم للعرب، بينما يقف بالكامل على الارضية الاسرائيلية هو وحكومته التي اوفدته.
والامر كذلك، فلعلي لا ابالغ اذا قلت ان نداء ـ او رجاء ـ الارض المحتلة الى الوقت الراهن، كما يلي: لا تبخسوا الفلسطييين حقهم، ولا تهينوا نضالهم وشهداءهم فما دفعوه حتى الان هو بالدقة عربون لحلم الاستقلال الذي انتظروه طويلا. ومن اراد ان يكون وفيا حقا لكل ذلك فليقف مطلبه عن شيء واحد لا يحول عنه بصره هو: انهاء الاحتلال. اما ما دون ذلك فهو تصويب خارج الهدف، وثرثرة بعيدة عن جوهر الموضوع وتشتيت يبدد الجهد ويميع القضية. اما الذين يعجزون عن الوقوف في المربع الصحيح او تبني لغة الخطاب المطلوبة فليخدموا القضية بصمتهم عسى الله ان يستبدل قوما غيرهم، لا يكونون امثالهم.