نسائم من الهجرة نستنشق عبيرها علنا نحيي بها قلوبنا ونلم بها شعثنا ونجمع بها شملنا ونتقدم بها إلى الباري ليجيب دعواتنا.
ليس عبثا أن يكون حدث الهجرة حدثا تاريخيا عند المسلمين، فالهجرة مدرسة كبرى نتعلم منها الكثير. لنذكر بعض الفوائد التي نستنبطها من تاريخ الهجرة:
1. التخطيط الرائع والمحكم الذي خططه النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وأثناءها لكي تنجح نجاحا تاما.
قبل الهجرة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في موسم الحج من كل سنة على القبائل التي تأتي إلى الكعبة، وكانت هذه القبائل ترفض دعوته إلى أن التقى بأهل المدينة فاستجابوا له وبايعوه مرتين كلما كانوا يأتون إلى مكة حاجين. وأرسل معهم أول سفير في الإسلام وهو مصعب بن عمير، كما جعل عليهم اثني عشر نقيبا منهم، هم بمثابة اللجنة التي تسعى إلى تيسير أمور الصحابة في التواصل والمعاملات والفقه في الدين..
بعد أن تهيأت الأجواء بالمدينة، أذن الرسول لأصحابه بالهجرة. ولما خرج النبي مع صاحبه أبي بكر الصديق ترك وراءه بمكة عليا بن أبي طالب لكي ينام مكانه موهما المشركين أنه ما زال صلى الله عليه وسلم في فراشه، وكذلك لكي يرد سيدنا عليّ الودائع التي كانت لديه لأصحابها بمكة.
أثناء هجرته صلى الله عليه وسلم لبث في غار ثور ثلاثة أيام، كما سار متبعا طريق الساحل بإرشاد من عبد الله بن أرقط، كل ذلك لتمويه المشركين عن مكانه.
2. درس في التضحية؛ يتجلى ذلك في نوم سيدنا عليّ رضي الله عنه مكان النبي صلى الله عليه وسلم، فقد عرض نفسه للموت فداء للنبي صلى الله عليه وسلم لولا لطف الله وحفظه. كما تبدو هذه التضحية حينما دخل سيدنا أبو بكر الصديق ليلمس الغار قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكي لا يصيبه أذى.
كذلك ضحى الصحابة رضوان الله عليهم بكل غال ونفيس حينما خرجوا من مكة تاركين وراءهم الأهل والبيت والمال، مهاجرين إلى المدينة بدينهم رغم ما يلاقونه من مشاق الطريق.
3. درس في البذل والعطاء؛ يظهر هذا في تعامل الأنصار بالمدينة مع المهاجرين؛ حين كانوا يستقبلونهم أحسن استقبال ويؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، فكانوا يتقاسمون الدار والمال.. وكان كل أنصاري يتمنى أن يحظى بضيافة النبي صلى الله عليه وسلم حينما هل بالمدينة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل نصروهم وآووهم وجاهدوا معهم في سبيل نصرة الدين.
4. درس في اليقين والأخذ بالأسباب؛ كان بإمكان النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة دون أي إجراءات وإنما بقول الله سبحانه وتعالى لشيء إذا أراده: “كن فيكون”، ومع ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم جميع الإجراءات كسنة نستن بها. ومما يزيد عمله نجاحا اليقين الذي كان يتسلح به؛ يقينه في موعود الله بالنصر والتمكين للمؤمنين. كان صلى الله عليه وسلم يطيع الله سبحانه في كل كبيرة وصغيرة ولو لم يكن له تفسير واضح حينها، ولكن يوقن أن الله حافظه وراعيه، وأن الله هو المدبر الحكيم.
5. درس في اغتنام الشباب لنصرة الدين؛ لما تتميز به هذه الفترة من الفتوة والقوة. هناك عديد من الشبان الذين أبلوا البلاء الحسن خلال هذه الهجرة النبوية، مثل مصعب بن عمير وأسماء بنت أبي بكر التي كانت تأتي بالمؤونة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وهما في غار ثور.. فالمرأة لعبت دورا كبيرا في هذه الهجرة وساهمت فيها بعدة أشكال؛ فقد بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهاجرت مع المهاجرين وهيأت كل ما يلزم..
هذه صورة مما يجب أن يكون عليه الشباب المسلم ذكورا وإناثا، يستنفذ طاقته ونشاطه سعيا في سبيل الإسلام، ولا يجمل به أن يكون إنسانا منطويا على نفسه مقتصرا على عباداته فقط.
6. التعاون والعمل الجماعي؛ يبدو هذا التعاون في عمل المهاجرين من جهة، والأنصار من جهة أخرى، وبذلك حازوا الشرف لتنسب إليهم تأسيس أول دولة إسلامية بالمدينة. وما زالت المدينة المنورة لحد الآن تجمع العرب والعجم، يتوافدون إليها من كل بقاع الأرض كما وعد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يدعو القبائل ويقول لهم: “يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب والعجم. وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة”. فالخطاب كان موجها للجماعة وليس لفرد واحد في حد ذاته. وهكذا دأب الخطاب الإلهي للمؤمنين في القرآن بحيث يخاطبهم بصفتهم جماعة واحدة تتسم بالتعاون بين أفرادها كالبنيان المرصوص لكي يكون عملهم مثمرا وطريقهم منيرا.
فالأمة الإسلامية واحدة لا تتجزأ رغم محاولة أعداء الإسلام تعميق الفرقة بين مكوناتها إلى حد التضارب.
للهجرة النبوية فوائد جمة، فما علينا إلا أن نعظم هذه الذكرى ونحييها بما تستحق، ولا نتركها تتلاشى كما تلاشت عدة شعائر إسلامية هي من الدين بالضرورة.
وسط عائلاتنا وبين جيراننا وفي مؤسساتنا نتبادل التهاني بهذه المناسبة العظيمة، لا نتركها تمر إلا وقد أعطيناها ما تستحق من تكريم وإجلال. بالهجرة إلى المدينة تأسست الدولة الإسلامية قوية، ولا تزال إلى أن تقوم الساعة إن شاء الله.
الهجرة لن تقف في حدود معينة، بل إن معاني الهجرة ما زالت مستمرة في كل زمان ومكان. علينا أن نهاجر من قول الزور إلى قول الحق، ومن فعل الشر إلى فعل الخيرات، ومن الكسل إلى الاجتهاد، ومن فحش الكلام إلى طيب القول.. ومن كل ما يغضب الله إلى ما يرضيه ويحبه.
ندعو الله أن يهل علينا هذه السنة باليمن والبركات، وأن يكون فاتح محرم فاتحة خير ويسر وأمن وفرج وفلاح، وأن يعلي كلمة الحق ولواء الدين في بلاد المسلمين، ويفك رقابهم من الظلمة المستبدين… إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير.