مواصفات أهل النور
من سمات الرجال الارتجاف والخوف من فزع يوم القيامة. يقول البيضاوي: (مع ما هم عليه من الذكر والطاعة يخافون يوما تضطرب فيه القلوب والأبصار وتتغير من الهول، أو تتقلب أحوالها فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه، وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر). وهم مع هذا الخوف يُعلقون رجاءهم بثواب الله ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله ، ورجاؤهم لن يخيب في فضل الله والله يرزق من يشاء بغير حساب من فضله الذي لا حدود له ولا قيود.
وهكذا فالخوف والرجاء أجنحة للمؤمن في السلوك. فلا نفع في امرء أمن مكر الله ولم يخف من أبراق وأرعاد وأهوال يوم القيامة.. فلقد قال رجل للحسن البصري رضي الله عنه: (كيف نصنع بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟! فقال الحسن: والله لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يلحقك الخوف) [الحلية 2/150].
يقول الإمام الشافعي رحمه الله:
على قدر علم المرء يعظم خوفه ** فلا عالم إلا من الله خائف
وآمن مكر الله، بالله جاهل ** وخائف مكر الله، بالله عارف
ولا نفع كذلك من أناس يئسوا وقنطوا من رحمة الله لشكهم في عظمة وغنى الخالق.
مصدر النور وقوامه
هو الله عز وجل الذي يفيض بنوره انسكابا على الكون كله، فترى العالم العلوي والسفلي سابحا في فيوضات الأنوار القدسية، فضلا عن النور الذي قذفه تعالى في قلوب عباده المومنين، وهو نور معقول مشهود بالبصائر والقلوب.
“فهما نوران عظيمان، وأحدهما أعظم من الآخر، فكَما أن مواضع الظلمة التي لا يُشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان البتة، فكذلك أمة فُقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة، وقلب فقد هذا النور ميت ولابد” [ابن القيم: الوابل الصيب، ص 89]. قال سبحانه: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا [الشورى، الآية 52].
وكلما خف الإنسان من عرامة اللحم والدم والشهوات والأهواء والغفلات، وتجرد من ثقله وكثافته انزاحت عنه الحجب ليرى عرش ربه بارزا، وأهل الجنة متزاورين وأهل النار متعاورين في الظلمات، لأنه عانق الطهارة وارتفع إلى آفاق النور.
وما أعظم قلب محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدرك هذه الحقيقة، حقيقة النور وفاض بها.. وانظر إليه لما تخلص من أوهاق الأرض ومخالب اليأس وهو عائد من الطائف قائلا: “أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة” [مسلم 263، كتاب الإيمان]، وقوله لعائشة رضي الله عنها وهو راجع من رحلة المعراج بعدما سألته “هل رأيت ربك؟ قال: نور، أنَّى أراه” [مسلم 261، كتاب الإيمان]. وهذا النور مشرق أبدا لا يأفل دنيا وآخرة، قال تعالى: وأشرقت الأرض بنور ربها [أواخر سورة الزمر]، فإذا جاء تبارك وتعالى يوم القيامة للفصل بين عباده أشرقت بنوره الأرض، وليس إشراقها يومئذ لشمس ولا قمر، فإن الشمس كورت والقمر قد خُسف به وذهب نورهما، وحجابه تبارك وتعالى النور؛ قال أبو موسى: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال: “إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلفه، ثم قرأ: “أن بورك من في النار ومن حولها” فاستنار ذلك الحجاب بنور وجهه، ولولاه لأحرقت سبحات وجهه ونوره ما انتهى إليه بصره” [الوابل، ص 85]، ولهذا لما تجلى تبارك وتعالى للجبل وكشف من الحجاب شيئا يسيرا ساخ الجبل في الأرض وتدكدك ولم يقم لربه تبارك وتعالى، وهذا معنى قول ابن عباس في قوله عز وجل: لا تدركه الأبصارقال: “ذلك الله عز وجل إذا تجلى بنوره لم يقو له شيء”، وهكذا فالقلب البشري لا يستشرف طويلا هذا الأفق الوضيء ولا يقوى على إدراكه…
وتقريبا لحقيقته إلى الإدراك البشري قال سبحانه: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ (النور، من الآية 35)؛ تلك صورة النور التي لا ندرك كنهها ومداها، مُثلت بكُوَّة صغيرة وهي المشكاة في الحائط وقد وُضع فيها مصباح وحصرت نوره فيها ليبدو متألقا، هذا المصباح في زجاجة تقيه الريح وتُصفي نوره فيزداد بريقا ووَهجا وكأن هذه الزجاجة كوكبا ذريا متقدا وَصْلا للمثل بالحقيقة، وكذلك قوله عز وجل في وصفه المصباح أنه يتوقد وهجا من شجرة مباركة غير معروفة لا شرقية ولا غربية للدلالة على أن المثل إنما هو لتقريب المعنى المجرد ليس إلا.
إنه نور الله الذي أشرقت به الظلمات، طليق من القيود والحدود فائض على السماوات والأرض لا يأفل ولا يخبو، بل حيثما توجه إليه القلب رآه أو تطلع إليه الحائر هداه، يهدي الله لنوره من يشاء.
بيوت النور
النور الطليق الشائع في السماوات والأرض يتجلى في بيوت الله، التي تتصل فيها القلوب بالله وتتطلع إليه وتذكره وتخشاه وتتجرد عن كل لاه، صاد عنه، ومشهد البيوت هنا مشابه لمشهد المشكاة المحافظة على النور، فضلا على أن ذاك المصباح المشرق بالنور في المشكاة مشابه لتلك القلوب المشرقة بالنور في بيوت الله.
تلك البيوت أذن الله أن ترفع فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهرة رفيعة، تتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء، فتتهيأ بالرفعة والارتفاع لأن يُذكر فيها اسم الله.
كيمياء النور
هذه البيوت لم تبلغ ذلك المبلغ من الفضل والشرف، ولم ترتفع إلى تلك الأنوار القدسية إلا لسريان الذكر في ربوعها والتسبيح في أرجائها قال تعالى: تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.. (النور، 36)، حتى أصبحت تلك البقاع والربوع جنة ورياضا، يقول ابن القيم رحمه الله: إن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة، وقد ذكر ابن أبي الدنيا وغيره من حديث جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أيها الناس ارتعوا في رياض الجنة، قلنا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر”.
وأمكنة النور محاطة بالملائكة زيادة في التوهج والإشراق، فكما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا: “إن لله ملائكة سيارة فضلا عن كتاب الناس، يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإن وجدوا قوما يذكرون الله تعالى تنادوا هلموا إلى حاجتكم”.
هذه المساكن الأرضية وهذه الدور لم ترفع إلا بذكر الله.. كذلك المساكن العلوية ودور الجنة لم تُبن إلا بذكر الله تعالى، يقول ابن القيم رحمه الله: إن دور الجنة تبنى بالذكر فإن أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: “من قال سبحان الله العظيم سبع مرات بني له بُرج في الجنة”.
وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث عبد الله بن عمر: “أكثروا من غراس الجنة، قالوا: يا رسول الله وما غراسها؟ قال: ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله”.
وقد روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقيت ليلة أسري بي الخليل عليه السلام، فقال: يا محمد أقرئ أمتك السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” فالذكر غراسها وبناؤها، لكنه ذكر حضور لا ذكر اللهو والغفلة!!
رجال يقتبسون النور
الذاكرون الله عز وجل والذاكرات في مجالس النور، تتناسق معها قلوبهم الوضيئة الطاهرة، المسبحة الواجفة، قلوب رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة (النور، 37)، هم الرجال، وعيب أن يقال لمن لم يتصف بمعاني وصفهم رجل.
ومن معاني وصفهم كثرتهم للذكر واستهتارهم به، فانطبع عليهم نورا في الدنيا ونورا في المعاد ونورا على الصراط، قال تعالى: أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها (الأنعام، 122)؛ الأول هو المؤمن، استنار بالإيمان وذكر الله ومحبته ومعرفته، والآخر هو الغافل عن الله، المعرض عن ذكره ومحبته، فالشأن كل الشأن في النور، والفلاح كل الفلاح فيه، والشقاء كل الشقاء في فواته، ولهذا كان يبالغ الرسول صلى الله عليه وسلم في سؤال ربه تبارك وتعالى أن يجعل كلَّه نورا، قال عليه السلام: “واجعلني نورا” [البخاري، الدعوات 5841]، سأل ربه تبارك وتعالى أن يجعل النور في ذراته الظاهرة والباطنة وأن يجعله محاطا من جميع جهاته وأن يجعل ذاته وحملتَه نورا، مقتبسا من النور الإلهي الذي أودعه سبحانه كذلك في قلوب العارفين المحبين الذاكرين، وهو النور الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به في الناس وأصله في قلوبهم، ثم تقوى مادته بالذكر فتتزايد حتى يظهر على جوفهم وجوارحهم وأبدانهم وثيابهم ودورهم يُبصره من هو من جنسهم، “وسائر الخلق مُنكر لهم، فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور، وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضَعفه في قلوبهم في الدنيا.
فمنهم من نوره كالشمس وآخر كالقمر وآخر كالنجوم وآخر كالسراج وآخر يُعطي نورا على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى، إذ كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطي على الجسر بمقدار ذلك… بل هو نفس نوره ظهر عيانا… ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل وكان نوره ظاهرا لا باطنا أعطي نورا ظاهرا مآله إلى الظلمة والأفول، وهكذا فالدنيا كلها مظلمة، إلا مجالسة أهل النور وصحبتهم.
قال سهل بن عبد الله التستري: “من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء” – أي علماء النور – فبصحبتهم الاستمداد والاقتباس والاغتراف من مشكاتهم النورانية حتى يغدو الناظر إليهم فقط متصف بنورهم، وذلك لأن النظر إلى الذات القدوة أفعل في النفس من السماع عنها وأبقى لآثار الخير في ناظرها، وقد كان لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الحظ الأوفر لمجالستهم له ومشاهدتهم إياه وقربهم منه، فكانوا خير أمة أخرجت للناس بعد سيد الناس عليه الصلاة والسلام… ورؤية الرجل الصالح القدوة إنما تذكر بالله لما يُرى عليه من النور والإشراق والأنس والطمأنينة والمحبة والسكينة في سمته وهيئته وخشعته، في نطقه وصمته وإطراقه وحركته وسكونه، فلا ينظر إليه ناظر إلا كان نظره إليه مذكرا له بالله، وكانت صورته موجهة له للإقبال على الله .. أولئك الذين إذا رؤوا ذكر الله.
يقول الحكيم الترمذي عند شرح قوله عليه الصلاة والسلام: “من ذكركم بالله رؤيته”: هم الذين عليهم من الله سمات ظاهرة، قد علاهم بماء القربة، ونور الجلال وهيبة الكبرياء، وأنس الوقار، فإذا نظر الناظر إليه ذكر الله تعالى لما يرى عليه من آثار الملكوت … والقلب معدن هذه الأشياء ومستقر النور، ويشرب الوجه من ماء القلب، فإذا كان على القلب نور سلطان الوعد والوعيد أدى إلى ذلك النور، فإذا بصرك عليه ذكّرك البر والتقوى، ووقع عليك منه مهابة الصلاح والعلم بأوامر الله تعالى.
فشأن القلب أنه يسقي عروق الوجه، ويُشربه من ماء الحياة الذي يرطب به ويتأدى إلى الوجه من القلب ما فيه لا غير ذلك… فكل نور من هذه الأنوار كان في قلب، شرب وجهه منه، قال الله تعالىولقاهم نضرة وسروراأي سرورا في القلب ونضرة في الوجه.
فإذا سر القلب برضا الله تعالى عن العبد، وبما يشرق فيه من نور، نضرت الوجوه بما ولج القلوب، وهو الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم على الذكر لله عن رؤيته وصيره علامة لأهل ولايته” [“نوادر الأصول”، ص 140].