نظرات في الصحبة والجماعة

Cover Image for نظرات في الصحبة والجماعة
نشر بتاريخ

لم تكن “الصحبة والجماعة” يوما قضيةً نظرية مجردة، ولا موضوعةً فكرية بحتة، ولم يَسَعِ العقلاءَ يوما أن يُلبِسُوها لَبوس الرأي المطروحِ على منضدةِ التعبيرِ الحر؛ إنما هي خَصلةٌ من خصال السلوك المنهاجي النبوي؛ بل هي أمُّ الخصال. الصحبة والجماعة شأنٌ قلبي إحساني قبل أن تكون شأنًا عقليا. والحديثُ في هذا الشأنِ، هو في الأساسِ بسطٌ لمعانٍ قلبيةٍ إحسانية. والأصلُ في هذا العلمِ أن يَصدُر عن قلبٍ حي منوَّر وارث.

عندَ الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه: ﴿المنهاجُ فهمٌ وعلمٌ وطريق﴾ 1، لتجديدِ الخلافةِ الثانية على منهاجِ النبوة. وعندَه أيضا، الصحبةُ والجماعةُ هي أولُ خطوةٍ من خطواتِ هذا التجديد النبوي؛ وهي كذلك أولُ معلَم من معالمِ السلوكِ على المنهاج النبوي. قال رحمة الله عليه: ﴿الخطوةُ الأولى على طريقِ المنهاجِ المؤدِّي إلى الله عز وجل بالنسبةِ للمؤمِن، وإلى الخلافةِ بالنسبةِ للأمةِ وإلى سيادةِ الحضارةِ الإسلاميةِ بالنسبةِ للعالمِ هي الصحبةُ والجماعَة﴾ 2.

الصحبة والجماعة شأنها شأنٌ عظيم؛ والحديثُ فيها مسْلكٌ وعْر، لأنه حديثٌ في أصلٍ من الأصول. على دقة فهمِ هذا الأصل وتنزيلهِ، تتوقفُ سلامةُ المنهاج النبوي التامَّة. إنها سلامةٌ من الدخول في متاهاتٍ مربكةٍ ومنزلقاتٍ قاتلةٍ، يوشك أن يقعَ فيها كلُّ مستهتر ومتسرع.

من المغامرة أن يدعي مدعٍ أو أن يزعم زاعمٌ أنه أهلٌ للكتابة في هذا الشأن؛ لأن القضايا الكبرى وأمهاتِ الخصال، لا يكتب فيها تقعيدا وتجديدا وتسديدا، إلا الأكابر في التقوى والعلم والغناء والحظ من الله؛ والأكابر في كل زمان قلةٌ، أما الجامعون منهم لأطراف المنهاج النبوي فهمْ أقلُّ بكثير. قال سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ﴿لَا يَزَالُ النَّاسُ صَالِحِينَ مَا أَخَذُوا العِلْمَ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَمِنْ أَكَابِرِهِمْ﴾ 3.

ومن رأى من نفسه أهليةَ بيانِ هذا الشأن العظيم وتبيينِه، فلينظرْ هل ترفرفُ على شأنِه كلِّه أعلامُ اليقظةِ التامَّة؛ يقظةٌ قلبية لها بمعرفة الله عز وجل وبطريق السلوك إليه حظٌّ وقدْر مشتَرك، ويقظةٌ عقلية لها بالمنهاج النبوي معرفةٌ وإدراكٌ، ثم يقظةٌ جهادية لها في ميدان الدعوة إلى الله عز وجل سابقةٌ وغناءٌ.

أما عن هذه المقالة فهي لا تعدُو قدرَها ولا تتجاوزُه؛ إنها محاولةٌ لترتيبِ بعضٍ من بناتِ أفكارِ الإمام المجدد رحمة الله عليه وإعادةِ عرضِها. هي نظراتٌ من صيدِ الخاطرِ، أطلقتِ العنانَ لترتيباتِ العقل وأسلستْ له القيادَ؛ عساها تكون مفتاحا من مفاتيح الفهم؛ وعَسَىٰ رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ 4.

1- حركية المنهاج النبوي

لا تستقيم نظرة العقل الذي لا يفقه المنهاج النبوي إلا عندما يضعه بإزاء ثنائية “الثابت والمتغير” فقط؛ نعم، قد يدرك هذا العقل كلياتِ المشروع وجزئياتِه، وقد يُحكِم أصولَه وفروعَه، لكنه سيكون آنئذ قد استوعبَها معزولة، ولم يدركها على النحو المطلوب؛ أي متراصَّةً كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضها بعضا، ومرتَّبةً كحلقات السلسلة يفْضي بعضها إلى بعض. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿المنهاجُ عبارةٌ عن السنَّة، والسنةُ عملٌ تابعٌ لعِلم، عملٌ تاريخِي مرتبٌ في الزمَان﴾ 5.

عندما يصرُّ هذا العقل على أن المنهاج النبوي المسطور والمنظور إما ثابت أو متغير، فإنه بذلك يحشرُ كل كنوز هذا المشروع التجديدي الواسع والفريد في أفق ضيق؛ وحسبُك بالمنطلق إن كان ضيقا، أن تترتب عنه خلاصاتٌ قاصرةٌ عن الفهم والإدراك.

المنهاج النبوي يُجدِّدُ ويَتجدَّدُ، ويُحرِّكُ ويَتحرَّكُ، ويُغيِّرُ ويَتغيَّرُ؛ غير أن التجددَ والحركةَ هي من خصائصه الذاتية الغالبة، بينما من مقاصده الموضوعية الغالبة أنه يسعى للتغيير؛ ولذلك تعتبرُ مساحةُ المتحرِّك فيه أكبر من مساحة المتغيِّر. وهذا بالضبط، هو ما رمى إليه الإمام المجدد رحمة الله عليه في العناوين الفرعية التي اختارها لكتابيه الأولين؛ حيث عنونَ الكتاب الأول بعنوان “الإسلام بين الدعوة والدولة: المنهاج النبوي لتغيير الإنسان”، واختار للكتاب الثاني عنوان “الإسلام غدا: حركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة”.

قال أهل اللغة: تغيَّر مُطاوع غيَّر: أي أصبح على غير ما كان عليه؛ وتحرَّك مُطاوع حرَّكَ: أي انْتقل من مكانٍ إِلى مكانٍ آخر؛ وتَجَدَّدَ مُطاوع جَدَّدَ: أي صار جديدًا مثل ما كان عليه أول الأمر.

الأفق العالي في المنهاج النبوي هو أن يتجدد أمر الخلافة الثانية على سنن وهدْي الخلافة الأولى. ولذلك يتحركُ المنهاج النبوي مقتحما عقبةَ البناء في مختلف مراحلها؛ انطلاقا من بناء الفرد، مرورا ببناء الجماعة، ثم سعيا لتوحيد الأمة، وصولا إلى بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة. وهو أثناء سيره وسلوكه وحركته، يغير الإنسان والمجتمع والواقع خدمة لهذه الغاية.

أ- سلم النقض والبناء

عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: ﴿لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ﴾ 6.

النقضُ حركةٌ هادمة ومفتتة، بينما البناءُ حركةٌ مشيدة وجامعة. كان الانكسارُ التاريخي أولَ معول من معاول الهدم في الأمة الإسلامية، وكان بدايةَ الكسر والنقض لركائز الإسلام؛ وكانت البشارةُ النبوية بعودة الخلافة الثانية على منهاج النبوة، ثم النهوضُ لطلبها، أولَ أداة من أدوات بناء مستقبل الإسلام. وفي ركاب النقض يسيرُ العجز، بينما تسير القدرةُ في ركاب البناء.

يتحركُ المنهاج النبوي على قاعدة هذا التجديد الخلافي الذي اجتهد في بيان مراحلِ النقض، بالقدر الذي اجتهد في بسط مراحلِ البناء؛ منهاجٌ يعطي لكل مرحلةٍ من مراحل الزحف، حقَّها في التنظير والتقعيد والتنزيل والتنفيذ. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿لكلِّ مرحلةٍ من مراحلِ الزحفِ إلى الحُكم، ومنْ مراحلِ البناءِ تربيةً وتنظيمًا ودولَة، ينبغي أنْ يفهمَ جندُ الله مهمَّتهم المستقْبلية، فيتهيَّؤوا لها، ويتحرَّكوا في يومهِم بما لا يعرقلُ حركةَ غدِهم﴾ 7.

ب- بين الثابت والمتحرك

المنهاج النبوي فقهٌ متحركٌ؛ فهو يحرك الكليات كما يحرك الجزئيات، ويحرك الأصول كما يحرك الفروع. يحركها في اتجاه صاعد مقتحم للعقبة؛ أي من أسفل العقبة وهو هذا الواقع المفتون، إلى أعلى العقبة وهي بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿فقهُ المنهاجِ -وهو ثمرةُ اجتهادٍ لهذا المكانِ وهذا الزمَان- يُطلبُ إليه أنْ يتناولَ كلياتِ التربية، وكلياتِ الجهاد، بما في ذلك تنْظيم حزبِ الله بما يضمنُ إحياءَ رجالٍ ونساء، وإحياءَ أمة، وتحريكَ الكلِّ على المنهاجِ النبوي -على الطريقِ الصاعدِ عبر العقبةِ- المؤدِّي للخلافةِ الإسلاميةِ بالنسبةِ للأمةِ ولرضَى اللهِ في الميمنةِ بالنسبةِ لكلِّ مؤمنٍ ومؤمنة﴾ 8.

والمنهاج النبوي فهمٌ متحركٌ؛ فهو يراعي الوتيرة المتسارعة التي يتغير بها الواقع، ويبحث عن الشكل الملائم دون أن ينحرف عن القصد ودون أن يتيه عن الأصل. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿يكونُ المنهاجُ هو التطبيقَ العمليَّ للشريعة، وإنزالَها على أحداثِ التاريخ في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي الاقتصادي السياسي المتغيرِ المتطوِّر، الذي تمثل السيرةُ النبويةُ نموذجا فذًّا له، لكنْ نموذجًا حيًّا قابلا للتجددِ في روحه وإن تنوع الشكل. وبهذا الفهمِ الواسعِ المتحركِ للسنةِ يمكنُنا أن نتجاوزَ ضيقَ منْ يفهمُ السنةَ تكرارا حرفيا تعبديا للشكل، تكرارًا يضيعُ معه ومن جرائِه روحُ السنة وأهدافُها﴾ 9.

والمنهاج النبوي تصورٌ متحركٌ؛ فهو يحدد لكل مرحلة زمنية من عمر الدعوة مقتضياتها التربوية والفكرية والسياسية والتنظيمية. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿إن ذكرَ الغايةِ -وهي وجه الله تعالى- والتذكيرَ بأن الأمرَ سيْر، وسلُوك، ومراحلُ زمنيةٌ مداها عمرُ الفردِ واستمرارُ الرسالةِ إلى يومِ القيامة، يعْطينا تصورًا متحركًا للإسْلام﴾ 10.

حركيةُ المنهاج النبوي، فقها وفهما وتصورا، ودورانه مع القرآن والسنة النبوية، يدفع إلى الحديث عن حركية المفاهيم من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة؛ يستصحب المنهاج النبوي المفاهيم التي أطرت مرحلة البعثة التجديدية، ويتوسعُ مضمونُها ويكتمل تدريجيا بتوسعِ البناء واكتمالِه في المراحل اللاحقة؛ وهذا يقتضي بالضرورة أن تكون لكل مرحلة عقد مفاهيمها الخاصة بها بناء على المرحلة التي قبلها، لا قفزا عليها ولا قطيعة معها.

المنهاج النبوي هو آلة البناء الرئيسية، وصلاحُ أدواته في البناء يختلف من مرحلة إلى أخرى؛ فهي إن كانت صالحة لمرحلة تأسيسية بشروطها ومقتضياتها، فإنها تظل قاصرة عن استيعاب المرحلة التي تأتي بعدها، إن لم تتحرك المفاهيم وتتوسع بتوسع البناء وامتداده. بمعنى أن الأصل ثابت راسخ، لكنه ليس ساكنا؛ بل هو متحرك ومستوعِب. إنه في ثبات أصله وحركته، مثل الشجرة الطيبة التي ضرب الله تعالى بها المثل فقال: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ 11.

2- السلوك المنهاجي النبوي

من آثار حركة النقض والانكسار في عرى الإسلام، تشتت معنى السلوك إلى الله عز وجل ومبناه. كان سلوك الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم زمن النبوة المحمدية والخلافة الراشدة المهدية، قائما على قدمي الخلاص الفردي والخلاص الجماعي؛ وهو سلوكٌ أثنى عليه الله عز وجل، ونعته بالاستواء والاستقامة فقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚوَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ 12.

مع الانحدار العام في عهود الملك العاض، صار السلوكُ الغالبُ هو سلوك السادة الصوفية رحمهم الله، والذي كان سلوكا فرديا قائما على همِّ الخلاص الفردي؛ بينما غلبَ على عصر الملك الجبري سلوكُ أبناء الصحوة الإسلامية، والذي طغى عليه الاهتمام بالخلاص الجماعي.

كان السلوكُ الإحساني الفردي هو المعتمَد عند السادة الصوفية؛ حيث يتحرك السالك صعودا في مقامات القرب من الله عز وجل، مترقيا في مدارج السالكين؛ ولا يكاد يحط رحالَه في منزلة من منازل السائرين، حتى ينهض لطلب المنزلة التي تعلوها. فكل مقام هو أكبر وأعلى وأوسع من المقام الذي قبله؛ ومن أجل بلوغه، يبذل السالك الجهد، ويستفرغ الوسع، ويسأل الله تعالى التوفيق والسداد. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿إن الصورةَ الصوفيةَ للسلوكِ صيغةٌ مصغَّرة، صغَّرها الهروبُ من الساحةِ العامة، للإحسانِ الكاملِ الذي عاشَه الصحابةُ رضي الله عنهم﴾ 13.

عند طيف واسع من أبناء الصحوة الإسلامية، فإن السلوك الإيماني الجماعي هو الطريق الأنجع؛ حيث تتحرك الجماعة في كل المجالات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية. تطلب الوسائل التي تمكنها من تحقيق الأهداف الإسلامية والمقاصد الإيمانية، من أجل التمكين للمشروع الإسلامي. تتحرك سياسيا في دواليب الدولة وأجهزتها، وتتحرك فكريا في مؤتمرات النخب العلمية والفكرية، وتتحرك ثقافيا في ندوات النخب المثقفة وملتقياتهم، وتتحرك اجتماعيا بين طبقات الأمة المهمشة والفقيرة والمحرومة؛ وكلما زادت الشعبية مثلا أو احتلت المواقع السياسية أو كونت نخبة، كلما اتسعت حركتها وتقوت مطالبها.

كان همُّ السادة الصوفية الكبيرُ أن تحصل لهم الولادةُ القلبية، وأن يتحقق لهم الميلادُ الروحي؛ بينما كان اهتمامُ أبناء الصحوة الإسلامية منصبا على صحوةِ العقل المسلم، ويقظةِ الوعي الإسلامي، وتعبئةِ السواعد من أجل النهضة الإسلامية المرتقبة.

لا يستقيمُ السلوك المنهاجي النبوي الذي سيجدد الخلافةَ الثانية على منهاج النبوة، إلا إن كان وارثا لسلوك الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم؛ في استوائه، واستقامته، وبنائه للخلافة الأولى. وراثة لها اتصال مباشر بزمن النبوة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿نرجو من كرمِ من له الفضلُ والمنةُ والرحمةُ سبحانه أن يتَّصل مددُ السالكين فيما يستقبلُنا من زمانٍ بحضرةِ النبوةِ فيكونَ السلوكُ جهاديًا عفويا جامعًا مانعا رائعًا كما كانَ في عهد الصحابةِ وهمْ في حضنِ خيرِ البرية صلى الله عليه وسلم﴾ 14.

السلوك المنهاجي سلوكٌ جامع. يتحرك فيه الفرد وتتحرك الجماعة، اقتحاما للعقبة على خطين متلازمين متعاضدين؛ خط الخلاص الفردي، طلبا للغاية الإحسانية، وسلوكا من أجل الترقي في مراتب الدين، من إسلام لإيمان لإحسان؛ وخط الخلاص الجماعي، سعيا نحو الغاية الاستخلافية، وسلوكا على درب بناء الفرد والجماعة والخلافة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿نسألُه عزت قدرته أن يُلهم من بَعْدَنَا من أحبابه العارفينَ به وسيلةَ الجمع، وأن يعطيَهم القدرةَ على سلوك الطريقِ إليه بهذه الأجيالِ على منهاجِ النبوة دعوةً ودولةً﴾ 15.

والسلوك المنهاجي سلوكٌ جهادي. يتحرك فيه الفرد في مضمار الجهاد الأكبر؛ جهاد النفس وسط الجماعة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿الجهادُ الأكبرُ جهادُ النفسِ وسطَ الجماعةِ ومعَها لهدفِ بنائِها والصبرِ معها والتواصِي بالحق والمرحمة﴾ 16. وتتحرك فيه الجماعة في ميدان الجهاد الأوسع؛ جهاد التعبئة والبناء وسط الأمة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿هل من مرجعٍ إلى السنةِ المحمَّدية الجامعةِ بين الجهادِ الأكبرِ جهادِ النفس، وبين الجهادِ الأوسعِ جهادِ نُصرة الله في الأرض؟﴾ 17.

ثم إن السلوك المنهاجي سلوكٌ عفوي. لا يعني هذا أنه سلوك منفلت من كل قيد أو شرط، أو أنه متحرر من كل ضابط؛ كما لا يعني أن حماه مستباح لكل قاعد عاجز. بل هو سلوك فيه مجاهدة وجهاد، وصبر واقتحام. غير أنه لا يشترط الانعزال عن الناس في الخلوات، ولا يفرض الانزواء عنهم؛ كما أنه لا يكتمل إلا بمخالطة الناس والصبر على آذاهم. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿سلوك الأولياء رضي الله عنهم فيه أحوال وغلبات وفناء وبقاء كما فيه عزلة وانزواء وهروب من الساحة العامة. نَسْأَل الله عز وجل للأجيال الموعودة بالخلافة الثانية سلوكا جهاديا على غرار سلوك الصحابة رضي الله عنهم، نالوا ما ناله الأولياء من كمال دون أن يغلبهم حالٌ أو يشطح لهم مقال، أو يغيبوا في فناء، أو يسكروا بِوَجْدٍ﴾ 18.

3- الوراثة المنهاجية النبوية

ميراثُ النبوة، هو نسيجٌ فريد من الأنوار والأسرار والعلوم والأخلاق؛ ووراثةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الميراث وراثةً كاملةً، أمانةٌ ينوءُ بحملها رجلٌ واحد؛ لذلك اصطفى الله عز وجل جيلا فريدا ونموذجا خالدا، يرث هذا الإرث العظيم. هذا شأن ميراث النبي الأعظم والرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه؛ وهو شأن ميراث أكابر الأمة والكاملين منهم؛ لا يستطيع فردٌ واحد حملَ ثقل الأمانة التي كلفهم الله عز وجل بها والحفاظَ عليها.

مع انتقاض عرى الإسلام، انتقضت عروة الوراثة النبوية وتشتتت؛ وهي التي كانت مجتمعة في جماعة الصحابة رضي الله عنهم. اتخذت هذه الوراثة شكلين مغرقين في التمزق والتفتت؛ وراثة فردية، نتجت عن انتقاض عروة “الجماعة”، وبموجبها أصبح الوارث فردا واحدا. ووراثة تخصصية، نتجت عن انتقاص عروة “الفقه الجامع”، وأفضت إلى نشأة الوارث في علم من العلوم أو في فن من الفنون. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿ورث أهل العلم من علوم النبوة، وورث أهل التقوى من فيض النبوة، لكلٍّ مشْرب وَوِرْدٌ وصَدرٌ﴾ 19.

الوراثةُ في المنهاج النبوي تتحركُ اطرادا على خط النظر والعمل المنهاجيين؛ أي أنها تتحركُ اطرادا مع حركية المنهاج النبوي، صعودًا مقتحما على سلم البناء، وتحركا عازما من مرحلة سابقة إلى مرحلة لاحقة. يعبر الإمام المجدد رحمة الله عليه عن أصلِ الوراثة الثابتِ بالنور النبوي، فيقول: ﴿الطاقة التي تحول الناس… إنما تكمن في شخص الداعي إلى الله بإذنه الذي أنزل معه نور. وهذه الطاقة هذا النور، هذا المغناطيس الروحي للداعي إلى الله الأكبر عليه صلوات الله وسلامه كانت المحرك الأول للإسلام، وهي نفسها التي تعيد إلى الإسلام حيويته كلما برز إلى الناس رجل صادق يدعو إلى الله وهو على بصيرة من أمره ورضى من ربه، وهذه الطاقة هي مناط الوراثة﴾ 20.

أ- الفرد الوارث

الثابت في الوراثة، وأصلها الذي لا يطرأ عليه تبديل ولا تغيير، هو هذا النورُ النبوي الذي يسري في أوصالِ الأمة منذ البعثة النبوية الكريمة؛ ونصيب كل فرد من هذا النور، يكون على قدر اتباعه لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُواْ إِلى الله عَلى بَصِيرَةٍ أَنا وَمَنْ اتَّبَعَني 21. والمتحرك فيها هو ما يشير إليه الإمام المجدد رحمة الله عليه بقوله: ﴿نقطة البدء في حركة الإسلام الأولى هي لقاء الإنسان بنور الهداية في شخص حامل الهداية﴾ 22.

حركيةُ الوراثة في السلوك المنهاجي النبوي، يفضي إلى ضرورة الانتباه إلى أن هناك نقطة بداية، ونقطة نهاية، ثم مسارا للحركة؛ ونقطة البدء هي دلالة على مرحلة التأسيس والميلاد والانبعاث. وفي هذه الحقبة يكون المؤسس والمجدد هو الوارث. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿انبعاث الأمة رهن ببروز المجدد رجل الدعوة الصادق﴾ 23.

ب- الجماعة الوارثة

بالتقدم خطواتٍ على درب البناء، وبالانتقال من مرحلة التأسيس إلى مرحلة أوسع، تنتقل الوراثة النبوية المنهاجية من الفرد الوارث إلى الجماعة الوارثة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿في مراحل القومة يحمل الدعوة جند الله، ولا تنتهي مهمتهم الدعوية بقيام الدولة القطرية، إنما تبتدئ مرحلة أوسع. جند الله هم الأمة في وسط الأمة المأمور في القرآن بتكوينها. هم “جماعة المسلمين”. عليهم يدور واجب الأمر والنهي والجمع، جمع شمل الأمة، فقبل قيام الدولة الإسلامية وبعده، هم الورثة المسؤولون عن الرسالة النبوية وحفظها وتبليغها﴾ 24. وإذا كان الرجل الحي الوارث هو العمود الفقري وهو المفتاح لمرحلة الميلاد، فإن الجماعة الحية الوارثة هي المفتاح لمرحلة أوسع في الانتشار والامتداد.

والجماعة الحية الوارثة لها نواة ومنهاج. أما نواتها فهم رجال أحياء وارثون. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿ترك فينا الحبيب صلى الله عليه وسلم كلمة الله الحية، وترك فينا رجالا مؤمنين أحياء﴾ 25. ثم إن لها منهاجا نبويا وارثا، به يصلح آخر الأمة كما قال الإمام مالك رحمه الله: ﴿إنه لا يصلُح آخر هذه الأمة إلا بما صلُح به أوَّلها﴾.

لقد كتب الله تعالى البقاء والاستمرار لبعض الرسالات والأديان السماوية دون غيرها. خلد الله عز وجل ذكر اليهود والنصارى في قرآن يتلى إلى يوم القيامة، وخلد معهم ذكر الحواريين والأحبار..

رغم تحريفهم للكلم عن مواضعه، حكى الله تعالى عن حفظ الأحبار للتوراة. قال محمد الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ: ﴿الأحبار جمع حَبْر، وهو العالم في الملّة الإسرائيليّة… وعطف “الربّانيّون والأحبار” على “النّبيئون” لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين. والاستحفاظ: الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم﴾ 26.

وبالمثل، أتى سبحانه وتعالى على ذكر الحواريين من أصحاب النبي عيسى عليه السلام، وتلاميذه المخلصين، وأنصاره الذين قاموا يبشرون بدعوته من بعده. قال محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى: فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىٓ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ: ﴿قال بعض أهل العلم: الحواريون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم. وعن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة﴾ 27.

وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، فقد أثنى الله عليهم ورضي عنهم فقال: وَٱلسَّٰبِقُونَ ٱلْأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَٰجِرِينَ وَٱلْأَنصَارِ وَٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُم بِإِحْسَٰنٍۢ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّٰتٍۢ تَجْرِى تَحْتَهَا ٱلْأَنْهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ. كانوا رضي الله عنهم خير الأجيال، وكان قرنهم خير القرون وأفضلها؛ وهم من حافظ على الميراث النبوي حتى ورثه عنهم القرن الذي يليهم. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ 28.

سرتْ مادة الإيمان متسلسلةً من قلب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى قلوبِ الصحابة رضوان الله عليهم، ومنهم إلى قلوب التابعين الذين اتبعوهم بإحسان. قال الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿لقوة تعلقه صلى الله عليه وسلم بربه عز وجل سرت من قلبه الطاهر مادة الإيمان إلى من صحبه، ثم امتدت الصحبة وراثة فكانت رحمة بين الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، تسري من قلب لقلب، ومن جيل لجيل، بالصحبة والمحبة والتلمذة﴾ 29.

ج- الأمة الوارثة

عندما ينتهي البناءُ في القطر من خلال زحف الجماعةِ الوارثة نحو إقامةِ دولة القرآن، يتحرك المنهاج النبوي بخطى ثابتة نحو قمة العقبة؛ وهي مرحلة أكثر اتساعا من سابقاتها. مرحلةٌ يكون السعيُ الدؤوب فيها متجها نحو توحيد الأقطار الإسلامية، من أجل إقامة الأمة الوارثة في مقام الخلافة على منهاج النبوة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿مهمات جند الله بدءا من أسفل العقبة، وهو واقعنا كأمة متخلفة مقهورة، وانتهاء إلى قمة العقبة بإقامة الأمة الوارثة في مقام الخلافة عن الله ورسوله، هي بالترتيب الذي لا يمنع التداخل والتزامن متى كانا حكمة: تأليف جماعة المسلمين القطرية، ثم إقامة الدولة الإسلامية القطرية، ثم توحيد الأقطار الإسلامية، ثم الخلافة الوارثة﴾ 30.

بهذا التحركِ الصاعد في سلم الوراثةِ المنهاجية النبوية من الفرد الى الجماعة إلى الخلافة، يكون المنهاج النبوي على قدم البشارة النبوية. بشارةٌ أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الخلافة الثانية على منهاج النبوة هي الوارثة للخلافة الأولى. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا اللهُ إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونَ مُلْكًا عَاضًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيًّا، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا. ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ 31.

4- الصحبة في الجماعة

إذا كانت حركة النقض قد فعلت فعلها في كيان الأمة المادي والمعنوي، وبسببها تقلص السلوك المنهاجي وانكمش، وبسببها تشتتت الوراثة النبوية وتفتتت؛ فإن أثرها على الصحبة والجماعة كذلك أثر بليغ. نعم، كان غزل الصحبة والجماعة زمن العهد النبوي والخلافة الراشدة غزلا قويا محكم الإبرام؛ وكانت الصحبة والجماعة هي اللحمة التي تجمع نسيج الأمة المحمدية وسداه، فنقضته هذه الحركة الهدامة وجعلته أنكاثا. والغَزل في اللغة: فتل نتف من الصوف أو الشعر لتُجعل خيوطاً محكمة بحيث تلتفّ النتف المفتولة باليد فتصير خيطاً غليظاً طويلاً بقدر الحاجة ليكون سَدًى أو لُحْمَة للنسج.

البناء في المنهاج النبوي حركة قاصدة لإعادة إبرام ما انتقض؛ وما دامت الصحبة والجماعة هي الخطوة الأولى في السلوك على المنهاج النبوي، فلابد وأن تكون هي أول ما يعاد بناؤه. وإعادة البناء تقتضي النظر الفاحص في البناء الأول، والتدقيق في أصوله ثم الاتباع الكامل لمنهاجه.

مرحلة النبوة هي مرحلة الميلاد بالنسبة لأمة الإسلام؛ وهي مرحلة التأسيس لهذا الصرح الممتد في الزمان إلى قيام الساعة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم هو المكلف من ربه عز وجل برعاية هذا البناء العظيم. اصطفاه الله عز وجل وأودع فيه مادة البناء كاملة غير منقوصة؛ أودع فيه ما لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى من الأسرار والأنوار والعلوم والأخلاق الكاملة التامة، والتي تتناسب مع شهادة الله عز وجل بكمال هذا الدين وتمامه ورضاه عنه حيث قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا 32.

كان جزءا هاما من هذا البناء الكامل والتام والمرضي عنه بناؤُه صلى الله عليه وسلم لجماعة الصحابة؛ وهم كانوا رضوان الله عليهم حملة رسالته، وورثة دعوته، وجيل الخلافة الأولى على منهاج النبوة. كانت صحبتهم لهذا الكمال النبوي، صحبة استمداد وتشرب وارتواء؛ كانوا يستمدون منه هو أساسا، لأنه كان مجمع الخيرات ومنبع الفيوضات.

كان السلوك زمن النبوة قائما على أساس الصحبة والجماعة؛ جماعة من المجاهدين السالكين إلى الله عز وجل، ترفل في نعيم الصحبة المباشرة والمركزة على شخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو المتبوع الأعظم. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿ما كان الصحابة صحابة وما كانوا رحماء بينهم إلا بفيض محبة المتبوع الأعظم صلى الله عليه وسلم… بالمحبة والصحبة بدأ بناء الجماعة المسلمة القوية، محبة مركزة على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم﴾ 33.

لم يلتحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، حتى ترك رجالا أحياء في جماعة حية؛ كانوا رضي الله عنهم سادة الأولياء، وأئمة العارفين بالله عز وجل. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿أعلى السلوك وأكملُه وأقربُه وأحبّهُ وأطيبه سلوك كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين نشأوا ورشدوا في حجر خير البرية صلى الله عليه وسلم، إمام الأنبياء، وأب الأولياء. كبار الصحابة هم سادة الأولياء وأئمتهم﴾ 34.

كان كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم الكمال في كل شيء؛ وما كان للكامل المكمل صلى الله عليه وسلم إلا أن يربي كُمَّلاً. كانوا أعمدة السلوك النبوي المنهاجي وركائزه؛ كانوا دعاة إلى الله على بصيرة؛ كانوا مربين مسلكين دالين على الله عز وجل؛ كيف لا يكونون كذلك، وبأنوار صحبتهم استضاءت حياة جيل من التابعين عز نظيره. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿الذين صحبوا المعصوم صلى الله عليه وسلم أصناف من الناس منهم الكهل والشاب ومنهم شريف قومه والغريب المهان. ويتفقون جميعا في محبتهم للشخص الكريم وتصديقهم له وهجرة الأهل وبذل النفس والمال في سبيله. وكان لهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لقب «صاحب رسول الله» شارة تزين شيخوختهم فتحيط بهم في عين الناس هالة تعظيم ومحبة، فأصبحوا مصحوبين متبوعين، وكان القرن التالي أفضل القرون لأنه صحب من صحبوا رسول الرحمة﴾ 35.

لو لم يكن الصحابة رضي الله عنهم أهلا للتربية الإحسانية والدلالة على الله عز وجل؛ ولو لم يكونوا نجوما في سماء الاستقامة، يهتدى بها في ظلمات الجهل بالله، لما أوصي النبي صلى الله عليه وسلم أمته قاطبة بالاقتداء بهم والاهتداء بهديهم. عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: ﴿اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد﴾ 36.

لذلك أصبح السلوك زمن الخلافة النبوية قائما على أساس الصحبة في الجماعة. كان الصحابة رضوان الله عليهم رجالا أحياء، تستمد قلوبهم من بعضها البعض؛ وكانوا جماعة حية، يشع منها نور الإحسان الذي يربي الطالب الصادق، ويزج به في حضرة الأحياء الواصلين إلى الله؛ كما كان يفوح منها عبير الجهاد الذي يحرض الجندي المجاهد، ويدفعه ليصير في عداد الشهداء الأحياء، الذين هم عند ربهم يرزقون. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿عندما تكون الصحبة صالحة، رجلا صالحا وجماعة صالحة، ويقبل الكل على ذكر الكلمة الطيبة النورانية حتى يخرجوا عن الغفلة، ينشأ جو إيماني مشع، ينشأ في الجماعة فيض إلهي، رحمة، نور تستمد منه القلوب بعضها ببعض﴾ 37.

مع الانكسار الشنيع لعروة الحكم، ومن علياء الصحبة في الجماعة بدأ الانحدار؛ ومع النقض الأشنع لكيان الأمة المعنوي، بدأ بنيان الصحبة والجماعة في التفكك والتصدع. فبعد أن كانت الصحبة منغرسة في جماعة الصحابة القائمين بأمر الله عز وجل، وبعد أن كانت صحبة متيسرة لكل طالب لوجه الله عز وجل صادق في كينونته مع الجماعة، انزوت الصحبة عن الجماعة، وصارت شأنا خاصا جدا؛ يبحث عنه الطالبون بشق الأنفس، ويصرفون في سبيله زهرة أعمارهم، ولا يكادون يعثرون عليه إلا عند آحاد أفراد، ورثوا هذا النور وحافظوا عليه. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿كان كل الصحابة يبتغون إلى ربهم الوسيلة ويستهدونه ويتأسون برسوله صلى الله عليه وسلم الماثل بين ظَهْرانَيهم. فيما بعد، وفي عتَمة البدع وظُلَلِ الفتنة التي مرت على الأمة مرورَ قطع الليل المظلم، احتاج السالك إلى نظر خاص، واسترشاد خاص، وصحبة خاصة﴾ 38.

بعد أن انفرط عقد الصحبة والجماعة، تحول السلوك زمن الملك العاض إلى سلوك فردي وصحبة فردية، همها الانعزال عن الناس والهروب من الخلق؛ وهي لذلك لم تكن تحدث نفسها ببناء الجماعة ولا ترى سببا لذلك. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿انصرف الصوفية في عزلتهم إلى تربية الخاصة من المريدين يورثونهم تلك الأمانة التي تنزل في جذر قلوب الرجال﴾ 39.

بعد انتقاض كيان الأمة المادي وبانهيار وحدة المسلمين، انضاف إلى السلوك الفردي المتجذر في أعماق النفوس، سلوك الصحوة الإسلامية المطالبة باسترداد أمجاد “الخلافة العثمانية الضائعة”؛ إنه سلوك ينتصر لمقتضيات العمل الإسلامي الجماعي في بعده الدعوي والحركي والثقافي والسياسي، في غفلة تامة عن جوهر الأمر كله، ألا وهو ضرورة الصحبة الإحسانية الدالة على الله عز وجل؛ وفي ذهول كلي عن التربية الإحسانية التي تكتنف الفرد وتقطع به مفاوز النفس والهوى، وتقف به على مشارف المعرفة بالله عز وجل والوصول إليه.

المهمة التجديدية التي نذر لها الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه حياته، مهمة تروم إعادة بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة. إنها بعثة تجديدية تقتفي أثر النموذج الأول، وتبني على سنن منهاج النبوة الأول. كان من توفيق الله عز وجل أن أوقف الأستاذ عبد السلام ياسين على منهاج إعادة البناء، ونبهه إلى أن أكبر عائق أمام اكتمال هذا البناء وتمامه هو افتراق الصحبة عن الجماعة.

لوضع قطار التجديد النبوي الكامل على سكته الصحيحة، كانت أولى الخطوات وأهمها، هي تحقيق الوصال بين الصحبة والجماعة فهما وعلما وسلوكا؛ وكان الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه هو القنطرة الواصلة. قنطرة واصلة بين الخلافة النبوية الأولى والخلافة النبوية الثانية، وقنطرة واصلة بين السلوك المنهاجي الصحابي والسلوك المنهاجي الإخواني، وقنطرة واصلة بين الصحبة والجماعة. يقول الإمام المجدد رحمة الله عليه: ﴿الذي يبحث عنه علماء الدعوة أمثال الشيخ سعيد رمضان البوطي والشيخ سعيد حوى هو القنطرة الواصلة بين ذلك العهد الأول المتمايز وهذه النهضة العارمة الشديدة الاضطراب الفكري والغبش التربوي﴾ 40.

الاصطفاء الإلهي لمرحلة إعادة بناء الخلافة الثانية على منهاج النبوة، بدأ أول ما بدأ بتربية الأستاذ عبد السلام ياسين رحمة الله عليه تربية إحسانية في كنف صحبة ربانية إحسانية. وعندما أكرمه المولى سبحانه وتعالى بمعرفته والوصول إليه، وهو لب السلوك الإحساني وجوهره، وعندما صار أهلا للتربية والإرشاد والدلالة على الله عز وجل، شب رحمه الله عن طوق السلوك الصوفي، وبدأ مسيرة بناء الجماعة المجاهدة على منوال جماعة الصحب الكرام رضي الله تعالى عنهم.


[1] عبد السلام ياسين، كتاب “مقدمات في المنهاج”، ص 58.
[2] عبد السلام ياسين، كتاب “المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا”، ص 123.
[3] رواه الطبراني بإسناد صحيح.
[4] سورة القصص، الآية 22.
[5] كتاب “مقدمات في المنهاج”، ص 18.
[6] رواه الإمام أحمد والطبراني وصححه الحاكم.
[7] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، ص 23.
[8] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، ص 18.
[9] عبد السلام ياسين، كتاب “مقدمات لمستقبل الإسلام”، ص 24.
[10] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا” ص 120.
[11] سورة إبراهيم، الآية 24.
[12] سورة الفتح، الآية 29.
[13] عبد السلام ياسين، كتاب “الإحسان، الجزء 2″، ص 84.
[14] كتاب “الإحسان، الجزء 1” ص 183.
[15] كتاب “الإحسان، الجزء 1” ص 207.
[16] عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام غدا، حركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة”، ص 54.
[17] عبد السلام ياسين، كتاب “إمامة الأمة”، ص 115.
[18] كتاب “الإحسان، الجزء 2″، ص 203.
[19] كتاب “الإحسان، الجزء 1″، ص 71.
[20] عبد السلام ياسين، كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة، المنهاج النبوي لتغيير الإنسان”، ص 19.
[21] سورة يوسف، الآية 108.
[22] كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة، المنهاج النبوي لتغيير الإنسان”، ص 18.
[23] كتاب “الإسلام بين الدعوة والدولة، المنهاج النبوي لتغيير الإنسان”، ص 23.
[24] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، ص 455.
[25] كتاب “الإحسان، الجزء 1″، ص 282.
[26] كتاب “تفسير التحرير والتنوير”.
[27] كتاب “جامع البيان في تأويل القرآن”.
[28] رواه البخاري ومسلم.
[29] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، ص 126.
[30] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا”، ص 21.
[31] رواه الإمام أحمد بسند صحيح.
[32] سورة المائدة، الآية 3.
[33] كتاب “الإسلام غدا، حركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة”، ص 194.
[34] كتاب “الإحسان، الجزء 1″، ص 198.
[35] كتاب “الإسلام غدا، حركية المنهاج النبوي في زمن الفتنة”، ص 190.
[36] رواه الترمذي وابن عدي.
[37] كتاب “المنهاج النبوي، تربية وتنظيما وزحفا” ص 56.
[38] كتاب “الإحسان، الجزء 2″، ص 326.
[39] كتاب “الإحسان، الجزء 1″، ص 122.
[40] كتاب “الإحسان، الجزء 1″، ص 100.