كتاب “صناعة الحرية، في التجربة السجنية للأستاذ عبد السلام ياسين” للدكتور أحمد الفراك أعتبره أول محاولة للتصدي والاشتغال بجانب يكاد يكون غير مدروس من حياة الأستاذ العالم والمربي والمصلح عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى. فالشكر واجب بداية لصاحب الكتاب على اهتمامه بهذا الموضوع، لأنه لاشك سيسهم في تعرف القراء والمثقفين والسياسيين والدعاة والمؤرخين وعموم الشعب والأمة على مرحلة حاسمة من سيرة هذا الرجل الفذ.
الكتاب يتطرق لمختلف محن السجن والاعتقال والاختطاف والإقامة الجبرية والمتابعات البوليسية عبر مراحل متقطعة من حياة الأستاذ ياسين رحمه الله، لن تفي هذه المداخلة المقتضبة الحديث عن كل ذلك، ولكني سأجمل الكلام عن ذلك تحت هذا العنوان: المحنة والصمود والكسب.
يبين الكتاب الأسباب المختلفة لما تعرض له الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله من سجن واعتقال، ولعل أبرز هذه الأسباب إن لم يكن السبب الرئيس هو جهره بكلمة الحق في وجه الحاكم ونظامه وانتقاده لاستبداده وظلمه للناس وتحريفه لكلم الدين عن مواضعه، ثم لرفضه الانحناء أما هذا الجبروت والانخراط ضمن جوقة المباركين والمستسلمين.
ستتوالى المحن على الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، قاسى خلالها معاناة الإبعاد عن قرابته وأصحابه وتلاميذه، والمعاناة الصحية بكل من سجن لعلو الرهيب ومشفى الأمراض الصدرية، والاعتقال مع المجانين ظنا من السجان أنه أسلمه للموت البطيء، ليتخلص من صوت مزعج ومعارض لا يستكين أو يلين. لكن إرادة الله كانت هي الغالبة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون فكتب له الثبات والصمود والنجاة.
من المعلوم من خلال سيرة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه، والذي ذكر في الكتاب، أن الجلادين لم يفلحوا في إخضاعه أو إرغامه على الاستسلام، فلم يرهبه القمع ولم يخوّفه الجور ولم يثنه التلفيق والبغي عن الصدع بالحق في كل وقت وتحت أي ظروف ومهما كانت التضحيات. وهكذا يسر الله له الصمود في دياجير البطش وثبته على مواقفه المشرفة ومبادئه الراسخة، لم يغير ولم يبدل في زمان التلون والخداع، والتراقص على جثث الثوابت والقيم والأخلاق… كان في سيرته رحمه الله ذلك الشاهد بالقسط الذي لم يركع إلا لله سبحانه وأبى الذل الذي يصر البعض على سقياه وأَنِفت نفسه تجرع مرارة الهوان وانحناء الجباه…
ومن الجدير بالذكر هنا أن المحن التي تعرض لها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله قد طالت بعد تأسيس جماعة العدل والإحسان -ولو بحدة أقل- العديد من منتسبيها أو المتعاطفين معها، وقد شملت على الخصوص في فترة الحصار أعضاء مجلس الإرشاد بعد أن تبين للمخزن فشل خيار فصل الرأس عن الجسد باعتقال مرشد الجماعة وحصاره، لأن الجماعة استمرت في نضالها ودعوتها ورسالتها برغم المضايقات المخزنية.
أخلص الآن إلى الحديث عن الكسب وهو مكاسب بحمد الله تعالى:
- في حوار شامل أجراه الأخوان الكريمان عضوا مجلس إرشاد جماعة العدل والإحسان ذ. عبد الكريم العلمي وذ. منير الركراكي، قال الأستاذ عبد السلام ياسين معلقا على مرحله حرمانه من الحرية “كانت فترة هدوء وتأمل وتفكير في الظاهر وفترة ذكر عميق وفترة خلوة. كانت هي من أسعد فترات خلوتي، لا أقول أسعد فترات حياتي فكانت السنوات الثلاث والنصف مناسبة لملازمة الأذكار ولمراجعة ما كان فقد من القرآن لكريم… كانت فترة ذكر في كلمة واحدة”. وقد صاغ رحمه الله كلامه شعرا قطوفا دانية، فقال:
زنزَانَتِي كُنتِ المـُخَيَّمْ.. ونَزِيلُكِ الضيْفُ المُكَرَّمْ
فيكِ الضِّياءُ لِمَا تَعَتْـ.. ـتَمَ والعَزاءُ لِمَنْ تَهَمَّمْ
مَا كُنْتُ أدْرِي أنَّ دَر.. بَكِ لِلْعُلا والمَجْدِ سُلَّمْ
مَنْ كان يَعْلَمُ أنَّ «زيـ.. ـداً» قَدْ تَحَدَّاهُمْ وصَمَّمْ؟
مَنْ أخْبَرَ الرُّقَّادَ أنّ.. بِدَارِهم ناراً تَضَرَّم
زَنزَانتي آوَيْتِ أوْ.. رادِي إذا ما الليل أظْلَمْ
يا ربِّ صلِّ على النَّبي.. طَهَ معلِّمِنَا المُعَظَّمْ
- ومما ورد في الكتاب قول صاحبه “ومع ذلك التضييق الشامل والمنع المتوالي وُفّق الرجل في صناعة حريته، في التفكير وفي التعبير وفي التجمع، صنع الفكرة صنع الحركة وصنع المشروع”.
- عدم الانجرار إلى الوقوع في آفات السرية والعنف والاستقواء بالخارج.
- تعميق الفكر والنظر في المشاريع والمواقف التي اعتقل من أجلها، وبذل مهجته ووقته في الكتابة الرصينة والتأليف في مختلف قضايا الإنسان والأمة والاطلاع الواسع على ما يكتبه الآخرون باختلاف عقائدهم وقناعاتهم في لغاته الأصلية أو المترجمة.
- دعوة الناس وخاصة الشباب وتربيتهم على عدل ووسطية الإسلام.
- أتاحت له فترات السجن وضع باكورة التصور المنهاجي المتكامل لخطة العمل في التربية والدعوة والتنظيم والتدافع، وألف حوله الرجال الذين يتشربونه ويتمثلونه ويبلغونه.
- إعطاء نموذج العالم العامل القائم الناصح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، الذي لا يسكت على الباطل أو يبرّره.
- تبوأ الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مرتبة الإمامة والقدوة -في حياته وبعد موته- من حيث صبره ويقينه وزهده وثباته وربانيته ودفاعه عن الحق.
- اكتساب الإمام رحمه الله من وراء كل تلك المحن روحانية جهاد الكلمة والحجة والتعليم والصدع بالحق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل)، وقال عز من قائل: ولله العزة ولرسوله وللمومنين ولكن المنافقين لا يعلمون.