أولا: مفاهيم وأفهام
ينصرف كثير من أهل الميدان إلى اعتبار الفن تنسما فإخراجا ل”الجمال” في حلة معينة، وإلى كون “الثقافة” نمط تفكير وحركة وعيش في يوميات البشر؛ فهما تمظهر لتميز بني الإنسان عن سائر المخلوقات. لكن نظرهم إلى الجمال باعتباره صلب حركة الفن وروحه كساه كثير من الغموض فاستحال ملتبسا على متلمسيه داخل ركام القبح.
أما الثقافة في أدبياتهم الموجهة فهي أغمض من الغموض، وفي تمظهراتها اليوم هي ستار لخلفيات ووسوسة وشيطنات.
فهم: ينبغي للفن أن يسمو على الأرضية وضحالة الذوق ويعانق الجمال والحسن الحقيقيين، ويلزم “الثقافة” أن تعبر حقا وصدقا عن آدمية الإنسان وسمو مقامه وعن كرامته وحريته.
في رأيي، الفن هو تنسم للجمال الحق، و”الثقافة” هي الرمزي مما أنتجه الإنسان في حركيته ويومياته.
ثانيا: فن وجمال، “ثقافة” ومجال
الجمال هو نسمات ونفحات قدسية سامية يتحسسها ويتنسمها ذو الذوق السليم، والفن هو خادم الجمال وقالب إخراجه، وغالبا ما يضيق دون هذا الإخراج في الحلة المبتغاة. الفن لغة خاصة رسالتها الجمال وألوانه وأشكاله قنوات وسبل قد تفي بالغرض وقد لا تفي. الفن إبداع بني الإنسان وبديل إن عجزت قواميس الألسن عن حمل رسالة الجمال. الفن هو مما أنتجه الناس في حركيتهم ويومياتهم، وهنا يتقاطع مع “الثقافة” أو تستوعبه على علة اصطلاح أريدت لها.
ارتبطت الثقافة، عند واضعي هذا المصطلح، بمجال العيش والاجتماع لدى الأقوام بمختلف ألوانها وألسنها؛ هذا الاختلاف والتنوع نجم عنه تفرد كل قوم أو مجتمع بنمط عيش واجتماع معين، تجلت بعض صوره أو جلها في لباسهم وغنائهم وأهازيجهم. والأهزوجة والغناء مطلقا هو محاولة تعبير عن مكنونات ذاتية إحساسية ناء بها اللسان وقدر عليها القاموس.
ثالثا: أصل ووصل
البشرية اليوم في واحدة من أواخر حلقات وجودها على هذه الأرض ومعظمها لم يهتد بعد إلى أن للكون خالقا، جل وعلا، قادرا حكيما بديع الصنع، لم يخلقهم عبثا ولا سبهللا، وإنما خلقهم للآخرة ونعيمها ودرجاتها، وإنما هذه الدنيئة قنطرة عبور ودار اختبار وعمل. والفن و”الثقافة” من أكبر شواغل الناس عن هذا المعنى الخالد، لذلك وظفهما قبيحو الفعل المتحكمون في دماء البشر وأموالهم وأعراضهم. ولو شاء ربك ما فعلوه.
ما أحوج الإنسانية اليوم إلى وصل بهذا الأصل الأزلي، والفن و”الثقافة” أسرع فيها من الخطب والمواعظ. الفن و”الثقافة” لغة يفهمها الإنسان أكثر من اللغة المألوفة. فلنرم تخلية لهما من الأدواء فتحلية ب: قالوا ربنا الله ثم استقاموا [فصلت، 30].
وإلى لقاء آخر بحول الله.