إنما المؤمنون إخوة
الأخوة منحة إلهية ونعمة قدسية يقذفها الله عز وجل في قلوب المخلصين من عباده والأصفياء من أوليائه، والأتقياء من خلقه لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم. لذا كانت الأخوة في الله صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى. إذ لا أخوة بدون إيمان ولا إيمان بدون أخوة. كما أنه لا صداقة بلا تقوى ولا تقوى بلا صداقة. قال الله عز وجل في سورة الحجرات: إنما المؤمنون إخوة. وقال سبحانه الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وفي زمن تشرذمت فيه الروابط بأنواعها، وغلبت المصالح الفردية المادية، وندرت عملة الإيثار والبذل واللقاء المعنوي، أضحت الأخوة ملاذا تسكن إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب لتقود بعضها البعض لسبل الخير وتتنسم جميعا عبق الإيمان وتذوق حقيقة الولاية في الله عز وجل.قال الشافعي رحمه الله:
سلامٌ على الدنيا إِذا لم يكنْ بها
صديقٌ صدوقٌ صادق الوعدِ منصفا
تكون الأخوة دفءا في الأهوال، وعونا على الشدائد، وحبل نجاة يربط الدنيا بالآخرة، تكون عالَما آخر وجدانيا، عالم تتعانق فيه الأرواح وتنسجم العواطف لبناء صرح وحدة معنوية تكون طاقة جبارة للعمل والحركة، وكم هي التجمعات البشرية الصغيرة العدد التي حققت الإنجازات العظيمة بفضل هذه اللحمة الإيمانية ولنا القدوة والمثال في المجتمع الصغير الذي قاده النبي علية السلام عندما غيروا الأنفس والتاريخ في فترة زمنية قياسية.فلا غرابة إذن أن نجد أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم لما أن استقر في المدينة المنورة بعد بناء المسجد فربط العباد بالحالق أن آخى بين جماعة المسلمين الأولى ليربط القلوب بعضها ببعض، فيرتبط الفكر والسلوك وتتحدد الوجهة والغاية. بهذه الأخوة نجتمع مؤمنين ومؤمنات إنما المؤمنون إخوة، حتى نتلقى الأمر الرباني الجمع المجموع في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا.
إن مَنَّ الله عليك بخلة إيمانية، وساقك إلى محضن تقوى لتكون في صف المؤمنين، وفي رفقة من زمرة الصالحين، وتربط بخير الناس رابطة أخوية عميقة، فاعلم أنها منحة ربانية ومكرمة إلهية اصطفاك لها اللطيف الودود. وإلا إنها عطاء رباني لا محدود، وفيض نوراني أسبغه عليك الباري عز وجل فاعلم أنك المحروم المعرض ألق سمعك لحبيب الحق يقول “المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل” 1 . نفر من الصادقين التائبين الذاكرين، تُذكر بذكرهم وترحم بهم وتغفر خطاياك بتوبتهم واستغفارهم. بهم يعظم شأنك في الملكوت الأعلى وتنالك البركة في الدنيا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: “يا علي استكثر من المعارف من المؤمنين، فكم من معرفة في الدنيا بركة في الآخرة” 2 . وكيف لا تكون بركة وهي التي يتصل حبلها، وتتوثق آصرتها، في وقت تنقطع فيه كل العلائق والأنساب ويفر المرء من أمه وأخيه وصاحبته وفصيلته، في يوم تذل في النفوس والأبدان قال عز وجل: الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
لهذا يجعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأخوة أثمن منحة ربانية للعبد من بعد نعمة الإسلام: ما أعطي عبد بعد الإسلام خيرا من أخ صالح، فإذا رأى أحدكم ودا من أخيه فليتمسك به)، أكبر بها من نعمة وأعظم.
الأخوة أمر واستجابة، اتباع راشد، وفعل متين في الأنفس والآفاق، رابطة بحقوق وتجليات وعوارض ونواقض، وهذه بعض من معالم الأخوة:
الأخوة محبة
الرابطة القلبية المتينة التي تذوب كل الأحقاد والمشاعر الصدئة، قرينة الإيمان، مفتاح الجنان: “والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم” 3 .
ولئن كانت المحبة واجبة لكل المؤمنين والمؤمنات فهي للدائرة المحيطة بك أوجب وأكبر، ممن تربطك بهم علاقة الجهاد لنشر الدعوة والتعاون على البر والتقوى، ورعاية وتحصيل حقوق المستضعفين.محبة بشروط وتجليات توحد القصد والجهد والحركة فيتضاعف العطاء، محبة تكون هي السلاح في وقت الصعاب، تزيح كل غم وتقرب البعيد وتفل كل حديد.
أخاك أخاك إن من لا أخ له
كساع إلى الهيجا بغير سلاح
الأخوة تناصح
من مقتضيات المحبة النصيحة والتناصح، والدين نصيحة، ولا خير فيمن لا يقولها ولا من يسمعها، ولا تستقيم أخوة لا تقوم للأخوة قائمة، ولا يرفع للمحبة علم، إن لم تقم العلاقة بين الأخوين على التناصح، يتناصحان، وينصحان لنفسيهما ولله وكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، هي رسالة المرسلين، وقربة العابدين، بل هي قوام الدين)، وما تخلفت الأمة وتراجعت القهقرى إلا لما دخلت مؤامرة الصمت، وسكتت عن النصيحة فسرت في أوصال الأمة أمراض الوهن والضعف واستأثرت بالأمر ثلة زعمت العصمة لها. التناصح شرط وجود وصحة وثبوت ودوام لا تصح أخوة إلا به، ولا تستقيم العلاقة إن قامت على أساس غيره. قال ابن أبي أصيبعة: الأخ الصالح خير من نفسك، لأن النفس أمارة بالسوء، والأخ الصالح لا يأمر إلا بالخير).
يكون الأخ الصالح مرآة لأخيه يرى فيه الأخ صفحة أعماله، يعينه على الخير ويحبسه عن كل سوء وشر، يكون خرما للأخوة إن سكتا عن إبداء النصح.مع المحبة يكون مكان للشورى واختلاف في وجهات النظر، لا يفرق ذلك الإخوة بل يكون إثراء للعلاقة الأخوية، كل ذاك يوضع في سياقه، وقبله وبعده محبة تغلف تفاوتا في الفهم والتقدير فلا تفسد للود قضية.والقلوب إن تنافرت وتقطعت شغافها، فمن الصعب إرجاع الصفاء الأولي لها:
إن القلوب إذا تنافر ودها
كالزجاجة كسرها لا يجبر
الأخوة بذل
البذل برهان صدق المحبة، ودليل متانة عقد الأخوة وترجمة سلوكية لحقيقتها. تكون الأخوة شعارا فقط، وجسدا بلا روح واسما بلا معنى، إن لم يتبعها بذل وعطاء إيثار:
وليس أخـي من ودني بلسانه
ولكنْ أخي من ودّني في النوائبِ
ومَن مالُهُ مالي إذا كنتُ معدَمًا
ومالي له إن عضّ دهـرٌ بغاربِ
لا معنى لأخوة لا تولِّد محبة، وتثمر بذلا وجهادا، بذل للنفس في الأنفس، ويد في يد تبنى العلا وتنسج في الأرض متطلعة إلى السماء، همة وهمٌّ يرفع القلوب والإرادات. ومن صفت أخوته هانت أمامها كل الأشياء، يقول مرب مشفق ناصح:
وَعَظْتُكَ نَثْرًا وَعَظْتُكَ شِعْراً
وَعَظْتُكَ بِالصُّبْحِ وَالْغَلَسِ
دَعَوْتُكَ تَصْحَبُ جَمْعَ الْخِيَارِ
وَتَذْكُرُ رَبَّكَ فِي أُنُسِ
وَتَطْلُبُ وَجْهَ الإِلَهِ بِصِدْقٍ
وَتَبْذُلُ نَفْسَكَ فِي الأنْفُسِ
ألا من مجيب دعوة الله، ألا من سامع أمر رسوله، أما من ملب دعوة محب ناصح، ضع يدك في يد إخوانك، واقتسم معهم حلاوة الإيمان، وفز بنصيبك من البذل والتضحيات، تنل القربى وأرفع الدرجات، متقابلا مع إخوتك في سرر جنان رب الأرض والسموات. هلم نتآخى.