أمام ما نعيشه من انفجار معرفي، وما نستقبله عبر وسائل التواصل الاجتماعي من مواعظ، صرنا وكأننا أصبنا بتخمة المواعظ، معتقدين أن قراءتها أو سماعها ستصنع منا “رهبان الليل فرسان النهار”! ما أكثر الواعظين وما أقل المتعظين! لتوسيع دائرة المتعظين، علينا الاقتصاد في إسماع فطرتنا ما يذكرها بالله واليوم الآخر بالقدر الذي تنتفع به، وتنهض للعمل بإخلاص النية مع التماس الصواب.
وعظ لطيف بليغ
كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يتخولنا بالموعظة اللطيفة البليغة مخافة السآمة علينا، رغم قوة تأثير حاله عن مقاله!
قد تجمعك الأقدار به داخل أو خارج اللقاءات والاجتماعات، فيكرمك بمختاراته وبما يهذب الأخلاق والأذواق ويحيي فيك أشواق من سبقنا بالإيمان والإحسان.
وقد يذكرك بآية، حديث، إشارة، كلمة، مثال، حكمة، شذرات من شعره..
قد يجمعك به وقت قصير، بعد ترحيب يرفرف بك إلى أعالي الرجاء!
يا سعادتي أأستحق كل هذا؟ بعد كل الغدرات والغفلات؟
فيذوب السؤال في ثنايا الجواب!
وللجواب ذوق يصرفك من فضول فهمه والإحاطة به، إلى رحمة الله.
نعم، إنها رحمة الله تعالى!
بل رحمات تباشر قلوبا متقلبة وعقولا تائهة، لتسكن تحت جناح رحمة من أطعمها من جوع يتمها الروحي، وآمنها من خوف ضياعها الوجودي..
يقبل عليك الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بوجهه الباسم.. مذكرا بالأمل، والبشرى، وباب التوبة المفتوح على مصراعيه، والعمل الصالح لخدمة أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخدمة الإنسان.. ويقبل عليك مذكرا لك بالإكثار من قول لا إله إلا الله.
خواطر غريبة تزورني، هامسة تارة ومتسلطة أخرى تقول: تحايلت عليك حية نفسك يا جويهل مرات ومرات، والتمست أعذارا تلو أعذار! وما زلت تسلس لها القياد، وكأنها خلك الوفي!
ما زالت أمامك فرصة لتجديد توبتك!
لا، لا، لا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اغتنم حال مقت نفسك أمام هذا القلب الرحيم.. إنها فرصة العمر..
قد لا تَصْدُقُ نفسك نفسها في غير هذا الموطن الجلل.. كم جالست كثيرا من الناس، مشاربهم مختلفة بما فيهم علماء ووعاظ، لِم لَم تشعر بما تشعر به الآن في حضرته من تقصير في حق الله ورسوله وأمته؟ تب إلى الله..
وكأن نور قلبه مشع كاشف ظلام كل شخصية مزيفة تدعي التقوى والصلاح والعلم والجهاد..
رسالة نورانية لتصحيح الوجهة، من منطلق سليم، لمن أحب أن يكون مع الذين يأتون الله بقلب سليم.
اختزلها مولاي عبد القادر الجيلاني رحمه الله في “جملة قصيرة” عند تشخيص حال تلميذه صاحب هوية معلولة طامعة في هوية “القوم” الإحسانية اليقينية بلا استعداد للاقتحام: “أنت قفص بلا طائر”.
ما الفائدة ممن اتخذ جوارحه قبرا لقلبه؟
ما أعظمها من هدية الشفاء! لكل مريض بحب الدنيا، بعد تصديق طبيبه وتشخيصه وتناول دوائه والاسترشاد بتعاليمه، سيكون حظه من الشفاء أوفر بإذن السميع العليم.
وعظ إشاري نافذ
كان الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يهدينا من حين لآخر وعظا إشاريا بهمسة أو نظرة أو حركة بسيطة تفعل فعلها في نفس مستقبلها، فتكون ترياقه المداوي لعلل سلوكه.
أذكر على سبيل المثال، مرة، نظر إلي وقام بحركة بسبابته (يسميها “مسبحة” لأن الله شرفها بتحريكها أثناء تشهدنا في الصلاة!) نقر نقرات ثلاث بمسبحته اليمنى راحة يده “الكف” اليسرى، فتذكرت مباشرة ما علي من بحث بل “حفر” في خبايا النفس من أمراض ونوايا معلولة.. وكذا القبر وما بعد القبر.. ومعاني أخرى..
من أطايب كلام مختاراته رحمه الله التي يذكرنا بها “بالدار العامرة” بسلا ونحن في زحمة خدمة المومنين والمومنات: “الأرض الأرض يا عريب” 1.
لمثل هذه الرسائل وأخواتها يتعظ من يحذر سموم فيروس الكبر والعجب وحب الرئاسة رغم أن جوارحه مستوفزة في الخدمة!
سبحان الله! لوعظه مفعول سريع في القلب، ينفذ إلى عمق سامعه محدثا هزة مزلزلة لأنانيته، وكأنها تتلقى وخزة إبرة بعد انتفاشها كريش الطاووس، وانتشائها بما حققته من مكاسب في تعلقها بالدنيا وأهلها غافلة عن الاستعداد للقاء ربها.
ويمر الأسبوع والشهر وأكثر.. وتزورني تلك الكلمة لتقض مضجعي، أو تمر بخيالي مرات متعددة بالنهار.. وكأنها جرعة دواء يسري في عروقي ليخفف عني أعباء منغصات الحياة ويفتح لي أبواب الخير في معية الصالحين من أهله وأحبابه والحمد لله رب العالمين.
وعظه المباشر وغير المباشر دعوة لاقتحام عقبات النفس قبل وأثناء وبعد كل اقتحام للعقبات الخارجية المعيقة لانتشار دعوة العدل والشورى والإحسان لكل إنسان.
وعظه رحمه الله مسترشد ومستنير بنور القرآن، يستهض الهمم لتطلب الله بالفرار إلى الله عز وجل، يقيم الحجة علينا ويجدد عزائمنا، وفهمنا لقول الحق سبحانه لنا: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات، 50].
“صلّ يا ربنا وسلّم على من هو لي بالنَّجاة خيرُ ضمينِ” 2.
[2] مسك ختام القطف 163 من” قطوف” الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه.