نفحات الله معنى ومبنى في سلوك المؤمن

Cover Image for نفحات الله معنى ومبنى في سلوك المؤمن
نشر بتاريخ

بقلم: نزهة الفيلالي

مقدمة

إن حقيقة الدنيا مليئة بالمتاعب والمشاق والمغريات التي تجعل الإنسان في غفلة عن مبتدئه وخبره، مبتدئه من أين جاء، ومن خلقه وسوّاه، وأكرمه ونعّمه، وأعطاه وكلّفه؛ وخبره يوم الرجوع إليه سبحانه، حيث الحساب والجزاء، الخسران أو النجاة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فكيف الخروج من هذه الغفلة؟ وما المعين على السير نحو الخبر المحتوم؟ وكيف فتح الله الغني لعباده أبوابا من نفحاته وبركاته ورحماته أن هلموا إليّ، لا يضركم ما أسرفتم على أنفسكم؛ فهل نملك من الإرادة والقوة والعزم ما نستجيب به لهذه الخيرات وهذه البركات والنفحات، التي يجلو بها المولى عزّ وجلّ عن قلوبنا أدرانها وأقفالها، وعن نفوسنا خمولها وتقاعسها، وعن عقولنا حجبها لترى حقائق الوجود والمآل بتدبر المستسلم لله، المنيب له، الآيب بعد حوبة.

كرم الله على عباده

ومن رحمة الله بعباده حيث وسعت رحمته كل شيء، أن أرسل رسله، وأنزل معهم الكتب والشرائع لتستقيم حياة الناس على سنن الله، حياة بعيدة عن العسر والضيق والضنك، فرخص بالرخص ما فيه العنت والمشقة، وحبّب بالترغيب ما فيه الخير والسّعة، وفتح باب التوبة والأوبة لمن شرد عن الطريق وقصّر، بدافع النسيان أو الجحود أو الكبرياء وقبِل الجميع برحمته وعفوه وكرمه قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)” (الزمر: 53)، ومن رحمته سبحانه وتعالى ستره لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة وصبره على معاصيهم، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تعلم النفس الأمارة بالسوء أن لها ربا بصيرا عليما، فترجع إليه صاغرة مستغفرة، ليهبها بكرمه سكينة التائبين وطمأنينة العابدين.

لله في دهره نفحات

ورغم غفلة الإنسان وانشغاله بدوافع الكسب والشهوات، فإن الله سبحانه وتعالى يريد منه أن يرجع إليه، ويذكُر نعمه عليه، بل يريد أن يُسعده بقربه وذكره وشكره، حتى يكون ذلك من أسباب فلاحه في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النساء: 27)، ومع أن الله هو الغني ونحن الفقراء إليه، فقد قضت إرادته سبحانه أن تجعل للإنسان الذي يغفل ويبتعد وينشغل عن ربه لأسباب نبّهت شرائعه عليها وحذرت منها، إلا أن تجعل له أوقاتا ومحطات تعرّفه نعمه سبحانه عليه، وتذكّره بخبره الذي غفل عنه، فأوضحت الطريق، وجعلت لها صوى ومنارات ليهتدي بها في ظلمات الحياة وبحرها اللجيّ، وجعلت للمنهي عنه بدائل، ومنحت على طبق من ذهب فرصا للرجوع والأوبة والتوبة والتذكرة، التي قد تصعب على كثير من الناس في خضم الصراع المرير مع مدلهمات الحياة ومشاقها، إنها نفحات الله العظيمة الكريمة، عطاء من رب عظيم كريم، الذي يعلم ضعف خلقه فيرحم ضعفه، ويعلم غفلته فيذكّره، ويعلم تقصيره فيعطيه العطاء الأوفى على العمل القليل، حتى يعلمَ كرم الله عليه، فيقبل بقلب المحب المشتاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا” 1.

هي محطات يُشحن فيها قلب المؤمن بالإيمان بعد الغفلة ليعود منسوب التقوى نهرا فيّاضا تستقي منه الروح كما الجوارح، فتسعى جاهدة للعودة والأوبة والتوبة، وكيف لا تفعل والله سبحانه وتعالى يفتح بهذه النفحات بابا لعطاءاته ورحماته التي لا عدّ لها ولا حصر، فهو سبحانه الشكور الذي يغدق على عباده بالجزاء العظيم الوفير على العمل القليل، حيث من معاني اسم الله الشكور: “الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد، ويعفو عن الكثير من الزلل، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، بل يضاعفه بغير عد ولا حساب”، 2، وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إنّ ربّنا لغفور شكور “غفر لهم الكثير من السيئات وشكر لهم اليسير من الحسنات” 3، فالشكور سبحانه وتعالى يقبل عباده رغم التقصير والغفلة شرط التوبة والأوبة، لينعم عليهم برحمته التي وسعت كل شيء.

للخيرات مواسم وأماكن فلنغتنمها

خلق الله سبحانه وتعالى الخلق وفضّل بعضه على بعض لحكمة يعلمها سبحانه، قد نعلم منها ما يعيننا على السير إليه، وقد نجهل الكثير منها ليكون تسليمنا فيها لإرادته وحكمه لبّ الأمر وروح سلوكنا وسيرنا إليه.

اختص الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته، بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بمزيد من الفضل والشرف، وأخبرنا سبحانه وتعالى بها في كتابه العزيز، وبيّنت السنّة الشريفة أهميّتها وكيفية الغُنم منها، حتى تكون محطات وقود الروح لتزكيتها، ورياضة للجوارح لتعوّدها، فهي نفحات الله في دهره التي ينبغي أن يغنم منها المؤمن لزاده فيجتهد في الطاعات، ويبذل في العطاء، وقد ينفرد زمان دون مكان ومكان دون زمان بهذه النفحات، ويكون الفضل أعظم عند اجتماع فضل الزمان والمكان حيث العطاء والمنّة بلا عدّ ولا حصر، وإن كانت هي كذلك دائما من رب كريم شكور، فينبغي أن تكون المسابقة والمسارعة والمنافسة عنوان السير والسلوك إلى الله في هذه المحطات، والخاسر من يجعل هذه المحطات كباقي دهره، لا يستعد لها ولا يأخذها مأخذ الغنم والفوز، ولا يعظمها بتعظيم الله لها، فيفوّت على نفسه تجارة رابحة ربح من يتعامل مع كريم يعطي بلا حساب، ليملأ آنية قلبه وروحه بأنوارها، وآنية صحيفته بحسناتها، حتى يلقى الله على أحسن حال يرضاه، ويغنم بالعمل القليل الكثير الذي يفوق عمل العمر كله مهما عاش.

نقف على بعض هذه النفحات للعبرة والتذكرة، سواء في المكان أو الزمان حتى نعلم أن الله سبحانه وتعالى فتح أبوابا للخير لن تغلق أبدا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى نضع في الحسبان هذه النفحات، التي كلما حلت علينا سعينا لاغتنامها والمسارعة إلى الخيرات منها، لأنّ المسارعة في الخيرات من صفات الموحّدين الذين هم من خشية ربهم مشفقون، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)” (آل عمران: 114).

نفحات الأماكن المختصة        

ومن أماكن الفضل والخير والنفحات العظيمة التي إن وجد فيها المؤمن سعى للغنم بكل متاح من عبادة وبذل وخدمة وكل عمل يرضاه الله سبحانه وتعالى البيت الحرام، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، حيث فضلت العبادات في هذه المساجد على غيرها من الأماكن بدرجات عظيمة، بل إن شد الرحال للعبادة لم تشرّع إلا إلى هذه البيوت، فهي من أحبّ الأماكن إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.  

فالبيت الحرام هو أول بيت وضع لعبادة الله واستمدّ مكانته من قول الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ۝ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 97)، وهو قبلة المسلمين، ودار أمن وأمان، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وخصّها الشارع بأحكام كثيرة كما هو مفصل في كتب الفقه لم يخصّ غيرها بها، وحرّم دخول المشركين إليها لعظمتها وتعظيمها، وفيه زمزم الذي هو لما شُرب له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زمزم طعام طعم وشفاء سقم” 4، وجعلها أرضا يحج إليها المسلمون تقربا وزلفى لله تعالى، وهو بهذا وغيره كثير يعتبر أفضل بقاع الأرض على الإطلاق التي وجب تعظيمها والتأدب داخلها وبأرضها، فكما يغنم العبد المؤمن من العبادة فيها أضعافا مضاعفة، فليحذر السيّئة والمعصية فيها لأن الله كما خصها برحماته وكراماته، فقد خصّها أيضا بغضبه لانتهاك حرمتها.

أما عن المسجد النبوي فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه، وفيه الروضة المباركة التي هي روضة من رياض الجنة، والتي يستحب الإكثار من الصلاة فيها، وبها مثوى خير البرية عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقد كان من تعظيم بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم المدينة كلها لهذا السبب، فلا ينتعلون فيها، ويمشون حفاة حياء من أن ينتعلوا فوق تراب مشى عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وثبت عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا لا يسلّمون على أحد إذا دخلوا المدينة حتى يسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، حسن أدب معه وتعظيما له، لأن حياته كمماته صلى الله عليه وسلم، وهذا التعظيم لشخصه الكريم ولمدينته المنورة التي عاش فيها ومشى فوق ترابها وأكل من ثمارها، من شأنه أن يرفع العبد درجات عند الله، وأن يبلغ المقامات العلى عنده، لأن أعمال القلوب قد تساوي الجبال من أعمال الجوارح فتحمل العبد على أجنحة الشوق والتعظيم والمحبة، فالمرء مع من أحب كما أخبرنا الحبيب بذلك، وإن لم يبلغ به عمله، لكنه إن أخلص في المحبّة وصدق فيها واجتهد وُسعه لبلوغ مقام من أحب، أكرمه الله بكرم المعيّة والصحبة.

وثالث هذه المساجد المسجد الأقصى، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الاسراء: 1)، وهو ثاني مسجد بني على الأرض لعبادة الله، كما في البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: “قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى…”، وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام سأل ربّه وهو يبنى بيت المقدس أن يخرج من صلى فيه من خطيئته كيوم ولدته أمّه، والمسجد الأقصى هو في فلسطين وهي أرض مباركة ومهاجر الأنبياء ومثوى كثير منهم.      

لكل هذه المميّزات كانت هذه المساجد لها الفضل والشرف ونفحات مكانها عظيمة بعظم ما جرى فوقها ومن سكنها وعاش بها وعبد الله فيها، وبركاتها لا ينكرها إلا جاحد، فالعبادة بكل أنواعها وأطيافها لها أثر وروح لا تجدها في غيرها فتستقي ما يقرّبك وتشهد ما ينفعك وتفك عنك عقد الشيطان والغفلة بالتعظيم والتوقير لما عظمه الله وأحبه رسوله صلى الله عليه وسلم.

كما نجد من الأماكن التي وردت فيها بشارات عظيمة هي أماكن الرباط على ثغور المسلمين حماية لديارهم ودينهم وعرضهم، واستعدادا للجهاد في سبيل الله عند وصول الأعداء إلى الحمى، لذلك أعدّ الله للمرابطين في سبيله أجرا عظيما، حيث بلّغنا إيّاه المصطفى صلى الله عليه وسلّم فقال: “كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه يُنمّى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر” 5 فوجود المؤمن في ثغور الرباط بنيّة الجهاد نفحة مكان تعطيه ما لا يدركه ولو عاش العمر كله في طاعة وعبادة، ومن علم هذا الخير سابق كل العوائق والمثبطات لنيل المبتغى والقرب من الديان والأمن يوم الفزع، فإن كانت الثغور بمعنى مكاني يتحدد بحدود بلاد المسلمين لحمايتها من العدو، فقد تعدّدت الثغور اليوم بتعدد كيفيات دخول العدو إلى حمى المسلمين، ولم يبق دخول الحمى مقتصرا على أماكن نعترض فيها العدو، حيث أصبح دخول العدو متعدد الواجهات والكيفيات وكل من وقف على ثغر من هذه الثغور نرجو من الكريم أن ينال ما يناله من وقف على ثغر الحدود، فالثغور تغيرت أشكالها وعناوينها نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ثغر الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والأسرة والدين وغيرها، حيث أصبحت هذه الثغور أكثر فاعلية عند العدو وأبلغ تسديدا في الرمي وأيسر على الاقتحام، والوقوف على هذه الثغور ردّا على المكذّبين والملحدين والمرجفين حجّة بحجّة، وبتحصين الشباب تربية وفهما وعلما، وبقول كلمة الحق في وجوه الظالمين المعتدين الذين يفتحون الأبواب مشرّعة في وجه العدو، وبنقل الصور والحقائق على أرض الواقع هي  كلها ثغور ينبغي أن يتصدّى لها المؤمن بكل قوّة غير مستهين بجدواها وفاعليتها، وما نموذج غزّة عنّا ببعيد، فكم من الصحفيين استشهدوا وهم على ثغر نقل الحقائق والمعاناة لأهلنا في غزّة، وكم من أصحاب الكلمة الحرّة اعتقلوا في بلدان الظلم والاستبداد، وأدّوا الثمن باهظا من شبابهم وصحتهم وقد يصل الأمر بهم حتى الاستشهاد في سجون الظالمين،  فمعالم الحروب تغيّرت في زماننا، وآليات الاستحواذ والاستعمار تطوّرت أشكالها، وعلى المؤمن أن يكون في مستوى الحدث ومستوى التطور حتى يستطيع أن يكسب موقع قدم على أرض القوّة والقرار، هي ثغور نرجو من الله أن يكون لها نفس أجور الثغور الفعلية المكانية، فالله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وظننا به لا يخيب إن شاء الله.  

نفحات الزمان المعتبرة

أما عن نفحات الزمان فقد جعل منها المولى عزّ وجلّ ما هو متكرر في اليوم والليلة، حتى يلقى ذوو الهمم العالية بُغيتهم من الأنس والقرب من لله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، ولا تبقى لوائع الشوق تحرق قلوبهم انتظارا لنفحات قد تبتعد فتراتها، فنجد جوف الليل والثلث الأخير منه بغية العابد ونزهة المشتاق للقاء الله، الذي ينزل في هذا الوقت إلى السماء الدنيا بعظمته جلّ وعلا ليقول: “من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له” 6، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الذين يتعبدون الله في هذا الوقت بقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)(الفرقان: 64)، فاستحقوا العطاء العظيم والجزاء الأوفى لمفارقتهم لذة الراحة والنوم وقيامهم لملاقاة الله والجلوس بين يديه، فهو جنّة تدخلها النفوس المؤمنة قبل جنّة الآخرة لتتزكى، إذ قيام الليل والخلوة مع الله تورّث الصدق والإخلاص والتدبر والتفكر، قال الله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) (المزمل: 16)، وقد سأل معاذ رضي الله عنه: “يا نبيّ الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار” فكان مما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وصلاة الرجل في جوف الليل”، ثمّ قرأ: تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(السجدة: 16‑17).

يوم الجمعة هو أيضا نفحة من نفحات الله في دهره، وهو أفضل يوم طلعت عليه الشمس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة” 7، ولقدر هذا اليوم عند الله خصه سبحانه بخصائص ينبغي للمؤمن أن يغنم منها، فكما ورد في حديث رواه مسلم: “… الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن مالم تغش الكبائر”، وفي حديث آخر رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: “ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر” 8، كما جعل الله في يوم الجمعة ساعة لا يرد فيها الدعاء. فلهذه المزايا والفضائل يُطلب لكل مؤمن الاجتهاد في هذا اليوم وتعظيمه وإقامة سننه التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من اغتسال وتطيُّب وذكر وصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة لسورة الكهف التي تضيء له من النور ما بين الجمعتين، وتبكير في الذهاب إلى المسجد لشهود صلاة الجمعة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “إن الله تعالى يبرز لأهل جنّته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيحدث لهم من الكرامة ما لم يروا مثله، ويكونون في الدنوّ منه كمُسارَعتهم إلى الجُمعِ” 9، فبعد غنم المؤمن من كل ليلية في ثلثها الأخير، يفتح الله بابا لنفحاته كل أسبوع بيوم الجمعة وأسراره العظيمة.

إذا لم يكن للمؤمن إرادة وهمّة للغنم من نفحات الله الربانية اليومية والأسبوعية، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في السنة نفحات عظيمة المعنى والمبنى حيث إنه سبحانه كتبها على الأمّة جماعة، حتّى يتقوّى الضعيف، ويتذكّر الغافل، ويقترب البعيد، مستعينا بالجوّ العام الذي يعمّ المجتمع، حيث مظاهر هذه النفحات ظاهرة للعيان، قريبة من القلب والوجدان، لا يحتاج العبد لكثير من الجهد للدخول فيها والغنم منها، ومن هذه النفحات شهر من أعظم الشهور، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر أفاض الله فيه على عباده من الخيرات والنفحات مالا يعد ولا يحصى.

رمضان مدرسة خلقيّة، وإصلاح وتزكية، يمتنع فيه المرء عن بعض المباحات فضلا عن المحرّمات، طاعة وامتثالا لأمر الله، وتحقيقا لتقواه، وقد خصّ الله سبحانه وتعالى الصيام بفضل عظيم حيث نسبه لنفسه دون سائر العبادات، فهو سرّ بين العبد وربّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عزّ وجل: “كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنّه لي وأنا أجزي به” فهو سبحانه الكريم والعطيّة بقدر معطيها، فيكون أجر الصيام عظيما كثيرا بلا حساب.

رمضان شهر الخير والبركة والإنابة والدعاء والغفران، من صام نهاره إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليله إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، فيه تصفّد الشياطين وتفتّح أبواب الجنان، وتتنزّل الملائكة، ففي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ، وغلّقت أبواب النّار فلم يُفتح منها باب، وفُتّحت أبواب الجنّة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النّار وذلك كل ليلة.” كل هذا الفضل من الله في هذا الشهر العظيم حتى يُقبل العباد بقلب المنيب التائب العابد، فيهيّئ سبحانه لعباده كل أسباب العودة والتوبة، ويقرّبهم من الخير فيصفّد الشياطين ويفتح أبواب الجنان، بل وأعظم من هذا جعل سبحانه وتعالى في هذا الشهر ليلة خيرا من ألف شهر، وهي ليلة القدر المباركة، فمن فاته الغنم من ليالي رمضان الأولى، فتح له الرحمن كل أبواب الخير في هذه الليلة العظيمة، حتى يغنم دعاءً وعبادة وتقرّبا. وهذه الليلة شريفة القدر، عميمة الفضل، متنوّعة البركات، فيها أنزل القرآن العظيم، وهي خير من ألف شهر وهو ما يعادل ثلاثة وثلاثين سنة من عمر الإنسان، تتنزل فيها الملائكة لعظم قدرها ومع تنزلهم بركة ورحمة ونفحات ربانية، تعم الأرض ومن فيها سلاما حتى مطلع الفجر، فالعاقل من يقابل هذه الليلة بالتوبة والإنابة والذكر، حتى يغنم ما قد لا يدركه في العمر كله من نفحات تطوي المسافات، وتكشف الحجب، فيرى من فضل الله عليه ما لم يكن واضحا للعيان، وتجد روحه أنسها بعودتها إلى موطنها الأصلي مع الملك الديّان، فتحطّ الرحال على بابه مستجدية غفرانه ورحمته، فيكون الوصال والقرب على قدر الغنم من نفحات وبركات وأنوار هذه الليلة.

ولإن كان رمضان شهر الخيرات والقربات من صيام وقيام وصدقة وصلة للأرحام وبرّ وإحسان وإطعام وكل أنواع الخير والبرّ، فإنّ ما يميّز شهر الصيام هو القرآن، حيث للقرآن مزيّة وخصوصية في هذا الشهر العظيم، “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للنّاس وبيّنات من الهدى والفرقان” (البقرة: 185)، فكلما أكثر المؤمن من قراءته وتدبره وحفظه كانت بركاته وأنواره ونفحاته بادية في كل شيء من حياته، فعمّت وقته ورزقه وأهله وعمله وتوفيقه، وهو يأتي شفيعا لصاحبه يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن، وفي حقّ هذا الشهر العظيم وفضله، قال ابن رجب رحمه الله: واعلم أنّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بن الجهادين، ووفّى بحقوقهما، وصبر عليهما وُفيّ أجره بغير حساب”.

هي نفحات رّبانية وعطاءات إلاهيّة يمنحها الله تبارك وتعالى في هذا الشهر العظيم، صياما وقياما وقراءة للقرآن، وكل أوجه العبادة والخير من خدمة للناس وصدقة وبر وصلة للأرحام وجهاد في سبيله، والمسارعة إلى فعل الخيرات، طيلة شهر كامل عساها تنقلك من زمن العادة إلى زمن العبادة، فتذوق حلاوة الإيمان التي ترفعك في سلم دينك وتقربك من ذرى الإحسان مطلب الأولياء المقرّبين، والصيام كما وصفه الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه تنوير المومنات: “حق الصيام هو كف الجسم عن الماديات الممنوعة شرعا، وكذا الجوارح واللسان عن المعاصي، وشغلها بالعبادة لتضفي على القلب روحانية تنسيه أثقال الأرض ليتعلق بالسماء.” 10.

ومن هذه النفحات الزمانية أيضا، نجد أيام العشر من ذي الحجة التي أقسم الله بها في كتابه العزيز، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم: “والفجر وليال عشر” (الفجر: 1‑2)، وقال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة، وقال عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ(الحج: 28)، قال ابن عباس: أيام العشر، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ( البقرة: 200) وهي أيام الحج، والحج جهاد من أشرف الجهاد، كله للذكر وبالذكر كما قال الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه الإحسان.(الإحسان 1: 222) وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء”، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” 11، وكان السلف الصالح يجتهدون في هذه الأيام لفضلها وأنوارها وبركاتها التي أكّد عليها كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن حجر رحمه الله: “والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره”.

وفي أيام العشر من ذي الحجة يومان يشهد لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأفضلية والخيرية عند الله، وهما يوم عرفة ويوم النحر، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النّار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟” 12، وهو يوم مغفرة الذنوب وصيامه يكفر سنتين، كما أنه من أشرف أوقات الدعاء عند المؤمن لتوجه جمّ غفير من الناس في نفس الوقت لله واقفين على بابه، تلهج ألسنتهم بالذكر والتحميد والتهليل والدعاء، فمعية المؤمن معهم قلبا أرجى له عند الله أن يكون مستجاب الدعاء وممن شملته رحمته ومحبته وعتقه.

أما عن يوم النحر فهو أيضا من أعظم الأيام عند الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثمّ يوم القر” 13، ويوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر لأنّ الناس يستقرون بمِنى، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنّه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا.” 14، وقال الله عزّ وجل في كتابه العزيز: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ(سورة الحج، الآية 37)، هي آية توضّح بجلاء أنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن لحوم الأضحية ودمائها، ولكن القصد من النحر هو تقوى الله والإخلاص في العبادة له وحده، فيكون النحر لوجهه الكريم وطلبا لرضاه سبحانه، فكانت البشارة في آخر الآية للمحسنين بعبادة الله إخلاصا واحتسابا ونيّة، ليكرمهم الله بقبول هديتهم حتى تقع دماؤها من الله بمكان قبل أن تقع على الأرض، ومن كان له القبول من الله نظر الله إليه ومن نظر الله إليه أعطاه حتى يرضيه، فهل بعد هذا من شرف.

الخاتمة

إنّ محبّة الله لعباده اقتضت أن تجعل لهم أبوابا مفتوحة دائما بدوام ملكه سبحانه، وأن يعطيهم المنحة تلو الأخرى حتى يلقونه على أحسن حال يرضاه لهم، وأن يملأ صحائفهم بكرمه على القليل من العمل منهم، وأن يكون من بين أحبّ الناس إليه التوابون المتطهّرون، كل هذا من فضله وكرمه، الذي خلق الخلق ليُحبه ويُسعده ويُكرمه في الدنيا والآخرة إلا من أبى، فجعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وجعل كيد الشيطان ضعيفا لا يستقوي إلا بالغفلة عن الله، وأدخل في ذمته من فوّض أمره إليه وتوكّل عليه، وأدّى الفرائض وأقام السنن، وجعل من الدعاء حرفته فهو مخّ العبادة، فاغتنم أوقات الاستجابة والنفحات الطيبة العظيمة والكبيرة: كوقت السحر وعند الأذان، وبعد الصلاة، وحال السجود، وكثير من الأوقات التي تصحب المؤمن في يومه وليلته، واغتنم أيضا من الأوقات التي شرّفها الله وعظّمها وأرادها نفحات لأوليائه المقرّبين ومن أراد سلوك دربهم، كيوم الجمعة وشهر رمضان وفيه ليلة القدر والعشر من أيام ذي الحجة، بل هناك من الأوقات التي لم يستثنها الله من هذا الفضل والخير لدعاء المؤمن، كساعة الزحف ولقاء العدو والرباط على الثغور، لنختم فنقول لقد أرادك الله له على جميع أحيانك، وإذا كنت كذلك أعطاك حتى يرضيك، وفتح لك أبواب جنانه في الدنيا قبل الآخرة، فتأنس وتفرح ولا تحزن أبدا، فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء حتى نفسه، اللهم اجعلنا من أوليائك وأصفيائك ومن صنعتهم على عينك بوقوفهم على بابك وتبرّئهم من حولهم وقوتهم إلى حولك وقوتك، سبحانك لا إلاه إلا أنت ربنا ورب الخلق أجمعين.


[1] أخرجه الحكيم في النوادر والطبراني في الأوسط وذكره الغزالي في الإحياء
[2] الحق الواضح المبين للسعدي، ص70
[3] تيسير العلي القدير المجلد 3 ص 430
[4] رواه البزار والطبراني في الصغير
[5] أخرجه أبو داود والترمذي وصححه الألباني برقم 3823
[6] أخرجه البخاري رقم 1913 ومسلم رقم 758
[7] رواه مسلم في صحيحه
[8] رواه أحمد والترمذي
[9] العلو للذهبي رقم 80
[10] تنوير المومنات 1: 295
[11] رواه الطبراني في المعجم الكبير
[12] رواه مسلم
[13] رواه أبو داود
[14] أخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي