مقدمة
إن حقيقة الدنيا مليئة بالمتاعب والمشاق والمغريات التي تجعل الإنسان في غفلة عن مبتدئه وخبره؛ مبتدئه من أين جاء، ومن خلقه وسوّاه، وأكرمه ونعّمه، وأعطاه وكلّفه. وخبره يوم الرجوع إليه سبحانه، حيث الحساب والجزاء، الخسران أو النجاة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فكيف الخروج من هذه الغفلة؟ وما المعين على السير نحو الخبر المحتوم؟ وكيف فتح الله الغني لعباده أبوابا من نفحاته وبركاته ورحماته أن هلموا إليّ، لا يضركم ما أسرفتم على أنفسكم؛ فهل نملك من الإرادة والقوة والعزم ما نستجيب به لهذه الخيرات وهذه البركات والنفحات، التي يجلو بها المولى عزّ وجلّ عن قلوبنا أدرانها وأقفالها، وعن نفوسنا خمولها وتقاعسها، وعن عقولنا حجبها لترى حقائق الوجود والمآل بتدبر المستسلم لله، المنيب له، الآيب بعد حوبة.
كرم الله على عباده
ومن رحمة الله بعباده حيث وسعت رحمته كل شيء، أرسل رسله، وأنزل معهم الكتب والشرائع لتستقيم حياة الناس على سنن الله، حياة بعيدة عن العسر والضيق والضنك، فرخص بالرخص ما فيه العنت والمشقة، وحبّب بالترغيب ما فيه الخير والسّعة، وفتح باب التوبة والأوبة لمن شرد عن الطريق وقصّر، بدافع النسيان أو الجحود أو الكبرياء، وقبِل الجميع برحمته وعفوه وكرمه قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (الزمر: 53). ومن رحمته سبحانه وتعالى ستره على عباده المؤمنين في الدنيا والآخرة وصبره على معاصيهم، فيبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تعلم النفس الأمارة بالسوء أن لها ربا بصيرا عليما، فترجع إليه صاغرة مستغفرة، ليهبها بكرمه سكينة التائبين وطمأنينة العابدين.
لله في دهره نفحات
ورغم غفلة الإنسان وانشغاله بدوافع الكسب والشهوات، فإن الله سبحانه وتعالى يريد منه أن يرجع إليه، ويذكُر نعمه عليه، بل يريد أن يُسعده بقربه وذكره وشكره، حتى يكون ذلك من أسباب فلاحه في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (النساء: 27)، ومع أن الله هو الغني ونحن الفقراء إليه، فقد قضت إرادته سبحانه أن تجعل للإنسان الذي يغفل ويبتعد وينشغل عن ربه لأسباب نبّهت شرائعه عليها وحذرت منها، إلا أن تجعل له أوقاتا ومحطات تعرّفه نعمه سبحانه عليه، وتذكّره بخبره الذي غفل عنه، فأوضحت الطريق، وجعلت لها صوى ومنارات ليهتدي بها في ظلمات الحياة وبحرها اللجيّ، وجعلت للمنهي عنه بدائل، ومنحت على طبق من ذهب فرصا للرجوع والأوبة والتوبة والتذكرة، التي قد تصعب على كثير من الناس في خضم الصراع المرير مع مدلهمات الحياة ومشاقها، إنها نفحات الله العظيمة الكريمة، عطاء من رب عظيم كريم، الذي يعلم ضعف خلقه فيرحم ضعفه، ويعلم غفلته فيذكّره، ويعلم تقصيره فيعطيه العطاء الأوفى على العمل القليل، حتى يعلمَ كرم الله عليه، فيقبل بقلب المحب المشتاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها فلا تشقون بعدها أبدا” 1.
هي محطات يُشحن فيها قلب المؤمن بالإيمان بعد الغفلة ليعود منسوب التقوى نهرا فيّاضا تستقي منه الروح كما الجوارح، فتسعى جاهدة للعودة والأوبة والتوبة، وكيف لا تفعل والله سبحانه وتعالى يفتح بهذه النفحات بابا لعطاءاته ورحماته التي لا عدّ لها ولا حصر، فهو سبحانه الشكور الذي يغدق على عباده بالجزاء العظيم الوفير على العمل القليل، حيث من معاني اسم الله الشكور: “الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد، ويعفو عن الكثير من الزلل، ولا يضيع أجر من أحسن عملا، بل يضاعفه بغير عد ولا حساب” 2، وقال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ: “غفر لهم الكثير من السيئات وشكر لهم اليسير من الحسنات” 3، فالشكور سبحانه وتعالى يقبل عباده رغم التقصير والغفلة شرط التوبة والأوبة، لينعم عليهم برحمته التي وسعت كل شيء.
للخيرات مواسم وأماكن فلنغتنمها
خلق الله سبحانه وتعالى الخلق وفضّل بعضه على بعض لحكمة يعلمها سبحانه، قد نعلم منها ما يعيننا على السير إليه، وقد نجهل الكثير منها ليكون تسليمنا فيها لإرادته وحكمه لبّ الأمر وروح سلوكنا وسيرنا إليه.
اختص الله سبحانه وتعالى بعلمه وحكمته، بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بمزيد من الفضل والشرف، وأخبرنا سبحانه وتعالى بها في كتابه العزيز، وبيّنت السنّة الشريفة أهميّتها وكيفية الغُنم منها، حتى تكون محطات وقود الروح لتزكيتها، ورياضة للجوارح لتعوّدها، فهي نفحات الله في دهره التي ينبغي أن يغنم منها المؤمن لزاده؛ فيجتهد في الطاعات، ويبذل في العطاء، وقد ينفرد زمان دون مكان ومكان دون زمان بهذه النفحات، ويكون الفضل أعظم عند اجتماع فضل الزمان والمكان حيث العطاء والمنّة بلا عدّ ولا حصر، وإن كانت هي كذلك دائما من رب كريم شكور، فينبغي أن تكون المسابقة والمسارعة والمنافسة عنوان السير والسلوك إلى الله في هذه المحطات، والخاسر من يجعل هذه المحطات كباقي دهره، لا يستعد لها ولا يأخذها مأخذ الغنم والفوز، ولا يعظمها بتعظيم الله لها، فيفوّت على نفسه تجارة رابحة ربح من يتعامل مع كريم يعطي بلا حساب، ليملأ آنية قلبه وروحه بأنوارها، وآنية صحيفته بحسناتها، حتى يلقى الله على أحسن حال يرضاه، ويغنم بالعمل القليل الكثير الذي يفوق عمل العمر كله مهما عاش.
نقف على بعض هذه النفحات للعبرة والتذكرة، سواء في المكان أو الزمان حتى نعلم أن الله سبحانه وتعالى فتح أبوابا للخير لن تغلق أبدا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وحتى نضع في الحسبان هذه النفحات، التي كلما حلت علينا سعينا لاغتنامها والمسارعة إلى الخيرات منها، لأنّ المسارعة في الخيرات من صفات الموحّدين الذين هم من خشية ربهم مشفقون، يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَٰئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (آل عمران: 114).