نفحات الأماكن المختصة
ومن أماكن الفضل والخير والنفحات العظيمة التي إن وجد فيها المؤمن سعى للغنم بكل متاح من عبادة وبذل وخدمة وكل عمل يرضاه الله سبحانه وتعالى: البيت الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، حيث فضلت العبادات في هذه المساجد على غيرها من الأماكن بدرجات عظيمة، بل إن شد الرحال للعبادة لم تشرّع إلا إلى هذه البيوت، فهي من أحبّ الأماكن إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فالبيت الحرام هو أول بيت وضع لعبادة الله واستمدّ مكانته من قول الله تعالى فيه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (آل عمران: 96-97)، وهو قبلة المسلمين، ودار أمن وأمان، والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وخصّها الشارع بأحكام كثيرة كما هو مفصل في كتب الفقه لم يخصّ غيرها بها، وحرّم دخول المشركين إليها لعظمتها وتعظيمها. وفيه زمزم الذي هو لما شُرب له كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “زمزم طعام طعم وشفاء سقم” 1، وجعلها أرضا يحج إليها المسلمون تقربا وزلفى لله تعالى، وهو بهذا -وغيره كثير- يعتبر أفضل بقاع الأرض على الإطلاق التي وجب تعظيمها والتأدب داخلها وبأرضها، فكما يغنم العبد المؤمن من العبادة فيها أضعافا مضاعفة، فليحذر السيّئة والمعصية فيها لأن الله كما خصها برحماته وكراماته، فقد خصّها أيضا بغضبه لانتهاك حرمتها.
أما عن المسجد النبوي فالصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه، وفيه الروضة المباركة التي هي روضة من رياض الجنة، والتي يستحب الإكثار من الصلاة فيها، وبها مثوى خير البرية عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وقد كان من تعظيم بعض السلف الصالح رضوان الله عليهم المدينة كلها لهذا السبب، فلا ينتعلون فيها، ويمشون حفاة حياء من أن ينتعلوا فوق تراب مشى عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وثبت عن كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا لا يسلّمون على أحد إذا دخلوا المدينة حتى يسلموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته، حسن أدب معه وتعظيما له، لأن حياته كمماته صلى الله عليه وسلم. وهذا التعظيم لشخصه الكريم ولمدينته المنورة التي عاش فيها ومشى فوق ترابها وأكل من ثمارها، من شأنه أن يرفع العبد درجات عند الله، وأن يبلغ المقامات العلى عنده، لأن أعمال القلوب قد تساوي الجبال من أعمال الجوارح فتحمل العبد على أجنحة الشوق والتعظيم والمحبة، فالمرء مع من أحب كما أخبرنا الحبيب بذلك، وإن لم يبلغ به عمله، لكنه إن أخلص في المحبّة وصدق فيها واجتهد وُسعه لبلوغ مقام من أحب، أكرمه الله بكرم المعيّة والصحبة.
وثالث هذه المساجد المسجد الأقصى، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (الإسراء: 1)، وهو ثاني مسجد بني على الأرض لعبادة الله، كما في البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: “قلت يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى…”، وجاء في مسند الإمام أحمد وغيره أن سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام سأل ربّه وهو يبنى بيت المقدس أن يخرج من صلى فيه من خطيئته كيوم ولدته أمّه، والمسجد الأقصى هو في فلسطين وهي أرض مباركة ومهاجر الأنبياء ومثوى كثير منهم.
لكل هذه المميّزات؛ كانت هذه المساجد لها الفضل والشرف ونفحات مكانها عظيم بعظم ما جرى فوقها ومن سكنها وعاش بها وعبد الله فيها، وبركاتها لا ينكرها إلا جاحد، فالعبادة بكل أنواعها وأطيافها لها أثر وروح لا تجدها في غيرها؛ فتستقي ما يقرّبك وتشهد ما ينفعك وتفك عنك عقد الشيطان والغفلة بالتعظيم والتوقير لما عظمه الله وأحبه رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما نجد من الأماكن التي وردت فيها بشارات عظيمة هي أماكن الرباط على ثغور المسلمين حماية لديارهم ودينهم وعرضهم، واستعدادا للجهاد في سبيل الله عند وصول الأعداء إلى الحمى، لذلك أعدّ الله للمرابطين في سبيله أجرا عظيما، حيث بلّغنا إيّاه المصطفى صلى الله عليه وسلّم فقال: “كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه يُنمّى له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر” 2. فوجود المؤمن في ثغور الرباط بنيّة الجهاد نفحة مكان تعطيه ما لا يدركه ولو عاش العمر كله في طاعة وعبادة، ومن علم هذا الخير سابق كل العوائق والمثبطات لنيل المبتغى والقرب من الديان والأمن يوم الفزع، فإن كانت الثغور بمعنى مكاني يتحدد بحدود بلاد المسلمين لحمايتها من العدو، فقد تعدّدت الثغور اليوم بتعدد كيفيات دخول العدو إلى حمى المسلمين، ولم يبق دخول الحمى مقتصرا على أماكن نعترض فيها العدو، حيث أصبح دخول العدو متعدد الواجهات والكيفيات وكل من وقف على ثغر من هذه الثغور نرجو من الكريم أن ينال ما يناله من وقف على ثغر الحدود، فالثغور تغيرت أشكالها وعناوينها؛ نذكر على سبيل المثال لا الحصر: ثغر الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والأسرة والدين وغيرها، حيث أصبحت هذه الثغور أكثر فاعلية عند العدو وأبلغ تسديدا في الرمي وأيسر على الاقتحام، والوقوف على هذه الثغور ردّا على المكذّبين والملحدين والمرجفين حجّة بحجّة، وبتحصين الشباب تربية وفهما وعلما، وبقول كلمة الحق في وجوه الظالمين المعتدين الذين يفتحون الأبواب مشرّعة في وجه العدو، وبنقل الصور والحقائق على أرض الواقع، هي كلها ثغور ينبغي أن يتصدّى لها المؤمن بكل قوّة غير مستهين بجدواها وفاعليتها، وما نموذج غزّة عنّا ببعيد، فكم من الصحفيين استشهدوا وهم على ثغر نقل الحقائق والمعاناة لأهلنا في غزّة، وكم من أصحاب الكلمة الحرّة اعتقلوا في بلدان الظلم والاستبداد، وأدّوا الثمن باهظا من شبابهم وصحتهم، وقد يصل الأمر بهم حتى الاستشهاد في سجون الظالمين. فمعالم الحروب تغيّرت في زماننا، وآليات الاستحواذ والاستعمار تطوّرت أشكالها، وعلى المؤمن أن يكون في مستوى الحدث ومستوى التطور حتى يستطيع أن يكسب موقع قدم على أرض القوّة والقرار، هي ثغور نرجو من الله أن يكون لها نفس أجور الثغور الفعلية المكانية، فالله سبحانه وتعالى هو أكرم الأكرمين وظننا به لا يخيب إن شاء الله.