نفحات الله معنى ومبنى في سلوك المؤمن (3)

Cover Image for نفحات الله معنى ومبنى في سلوك المؤمن (3)
نشر بتاريخ

نفحات الزمان المعتبرة

أما عن نفحات الزمان فقد جعل منها المولى عزّ وجلّ ما هو متكرر في اليوم والليلة، حتى يلقى ذوو الهمم العالية بُغيتهم من الأنس والقرب من الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين، ولا تبقى لوائع الشوق تحرق قلوبهم انتظارا لنفحات قد تبتعد فتراتها، فنجد جوف الليل والثلث الأخير منه بغية العابد ونزهة المشتاق للقاء الله، الذي ينزل في هذا الوقت إلى السماء الدنيا بعظمته جلّ وعلا ليقول: “من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له” 1، وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على المؤمنين الذين يتعبدون الله في هذا الوقت بقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (الفرقان: 64)، فاستحقوا العطاء العظيم والجزاء الأوفى لمفارقتهم لذة الراحة والنوم وقيامهم لملاقاة الله والجلوس بين يديه، فهو جنّة تدخلها النفوس المؤمنة قبل جنّة الآخرة لتتزكى، إذ قيام الليل والخلوة مع الله تورّث الصدق والإخلاص والتدبر والتفكر، قال الله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (المزمل: 16)، وقد سأل معاذ رضي الله عنه: “يا نبيّ الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار” فكان مما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وصلاة الرجل في جوف الليل”، ثمّ قرأ: تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*  فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (السجدة: 16‑17).

يوم الجمعة هو أيضا نفحة من نفحات الله في دهره، وهو أفضل يوم طلعت عليه الشمس لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا يوم الجمعة” 2، ولقدر هذا اليوم عند الله خصه سبحانه بخصائص ينبغي للمؤمن أن يغنم منها، فكما ورد في حديث رواه مسلم: “… الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن مالم تغش الكبائر”، وفي حديث آخر رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عله وسلم: “ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، إلا وقاه الله فتنة القبر” 3، كما جعل الله في يوم الجمعة ساعة لا يرد فيها الدعاء. فلهذه المزايا والفضائل يُطلب لكل مؤمن الاجتهاد في هذا اليوم وتعظيمه وإقامة سننه التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من اغتسال وتطيُّب وذكر وصلاة عليه صلى الله عليه وسلم وقراءة لسورة الكهف التي تضيء له من النور ما بين الجمعتين، وتبكير في الذهاب إلى المسجد لشهود صلاة الجمعة، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: “إن الله تعالى يبرز لأهل جنّته في كل يوم جمعة في كثيب من كافور أبيض، فيحدث لهم من الكرامة ما لم يروا مثله، ويكونون في الدنوّ منه كمُسارَعتهم إلى الجُمعِ” 4، فبعد غنم المؤمن من كل ليلة في ثلثها الأخير، يفتح الله بابا لنفحاته كل أسبوع بيوم الجمعة وأسراره العظيمة.

إذا لم يكن للمؤمن إرادة وهمّة للغنم من نفحات الله الربانية اليومية والأسبوعية، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في السنة نفحات عظيمة المعنى والمبنى؛ حيث إنه سبحانه كتبها على الأمّة جماعة، حتّى يتقوّى الضعيف، ويتذكّر الغافل، ويقترب البعيد، مستعينا بالجوّ العام الذي يعمّ المجتمع، حيث مظاهر هذه النفحات ظاهرة للعيان، قريبة من القلب والوجدان، لا يحتاج العبد لكثير من الجهد للدخول فيها والغنم منها، ومن هذه النفحات شهر من أعظم الشهور؛ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر أفاض الله فيه على عباده من الخيرات والنفحات ما لا يعد ولا يحصى.

رمضان مدرسة خلقيّة، وإصلاح وتزكية، يمتنع فيه المرء عن بعض المباحات فضلا عن المحرّمات، طاعة وامتثالا لأمر الله، وتحقيقا لتقواه. وقد خصّ الله سبحانه وتعالى الصيام بفضل عظيم حيث نسبه لنفسه دون سائر العبادات، فهو سرّ بين العبد وربّه، عن أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عزّ وجل: “كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصوم، فإنّه لي وأنا أجزي به” فهو سبحانه الكريم والعطيّة بقدر معطيها، فيكون أجر الصيام عظيما كثيرا بلا حساب.

رمضان شهر الخير والبركة والإنابة والدعاء والغفران، من صام نهاره إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، ومن قام ليله إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه، فيه تصفّد الشياطين وتفتّح أبواب الجنان، وتتنزّل الملائكة، ففي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: “إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفّدت الشياطين ومردة الجنّ، وغلّقت أبواب النّار فلم يُفتح منها باب، وفُتّحت أبواب الجنّة فلم يُغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النّار وذلك كل ليلة”. كل هذا الفضل من الله في هذا الشهر العظيم حتى يُقبل العباد بقلب المنيب التائب العابد، فيهيّئ سبحانه لعباده كل أسباب العودة والتوبة، ويقرّبهم من الخير؛ فيصفّد الشياطين ويفتح أبواب الجنان. بل وأعظم من هذا جعل سبحانه وتعالى في هذا الشهر ليلة خيرا من ألف شهر، وهي ليلة القدر المباركة، فمن فاته الغنم من ليالي رمضان الأولى، فتح له الرحمن كل أبواب الخير في هذه الليلة العظيمة، حتى يغنم دعاءً وعبادة وتقرّبا. وهذه الليلة شريفة القدر، عميمة الفضل، متنوّعة البركات، فيها أنزل القرآن العظيم، وهي خير من ألف شهر وهو ما يعادل ثلاثة وثلاثين سنة من عمر الإنسان، تتنزل فيها الملائكة لعظم قدرها ومع تنزلهم بركة ورحمة ونفحات ربانية، تعم الأرض ومن فيها سلاما حتى مطلع الفجر، فالعاقل من يقابل هذه الليلة بالتوبة والإنابة والذكر، حتى يغنم ما قد لا يدركه في العمر كله من نفحات تطوي المسافات، وتكشف الحجب، فيرى من فضل الله عليه ما لم يكن واضحا للعيان، وتجد روحه أنسها بعودتها إلى موطنها الأصلي مع الملك الديّان، فتحطّ الرحال على بابه مستجدية غفرانه ورحمته، فيكون الوصال والقرب على قدر الغنم من نفحات وبركات وأنوار هذه الليلة.

ولئن كان رمضان شهر الخيرات والقربات من صيام وقيام وصدقة وصلة للأرحام وبرّ وإحسان وإطعام وكل أنواع الخير والبرّ، فإنّ ما يميّز شهر الصيام هو القرآن، حيث للقرآن مزيّة وخصوصية في هذا الشهر العظيم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ (البقرة: 185)، فكلما أكثر المؤمن من قراءته وتدبره وحفظه كانت بركاته وأنواره ونفحاته بادية في كل شيء من حياته، فعمّت وقته ورزقه وأهله وعمله وتوفيقه، وهو يأتي شفيعا لصاحبه يوم القيامة، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. وكان جبريل عليه السلام يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ليلة من ليالي رمضان فيدارسه القرآن. وفي حقّ هذا الشهر العظيم وفضله قال ابن رجب رحمه الله: “واعلم أنّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بن الجهادين، ووفّى بحقوقهما، وصبر عليهما وُفيّ أجره بغير حساب”.

هي نفحات رّبانية وعطاءات إلاهيّة يمنحها الله تبارك وتعالى في هذا الشهر العظيم، صياما وقياما وقراءة للقرآن، وكل أوجه العبادة والخير؛ من خدمة للناس وصدقة وبر وصلة للأرحام وجهاد في سبيله والمسارعة إلى فعل الخيرات طيلة شهر كامل، عساها تنقلك من زمن العادة إلى زمن العبادة، فتذوق حلاوة الإيمان التي ترفعك في سلم دينك وتقربك من ذرى الإحسان مطلب الأولياء المقرّبين. والصيام كما وصفه الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه تنوير المومنات: “حق الصيام هو كف الجسم عن الماديات الممنوعة شرعا، وكذا الجوارح واللسان عن المعاصي، وشغلها بالعبادة لتضفي على القلب روحانية تنسيه أثقال الأرض ليتعلق بالسماء” 5.

ومن هذه النفحات الزمانية أيضا، نجد أيام العشر من ذي الحجة التي أقسم الله بها في كتابه العزيز، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم: وَٱلۡفَجۡرِ وَلَيَالٍ عَشۡرٖ (الفجر: 1‑2)، وقال ابن كثير رحمه الله: المراد بها عشر ذي الحجة، وقال عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ (الحج: 28)، قال ابن عباس: أيام العشر، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ (البقرة: 200) وهي أيام الحج، والحج جهاد من أشرف الجهاد، كله للذكر وبالذكر كما قال الأستاذ عبد السلام ياسين في كتابه الإحسان. (الإحسان 1: 222). وفي الحديث الذي رواه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما العمل في أيام أفضل من هذه العشر، قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء”، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر. فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” 6. وكان السلف الصالح يجتهدون في هذه الأيام لفضلها وأنوارها وبركاتها التي أكّد عليها كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال ابن حجر رحمه الله: “والذي يظهر أنّ السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يأتي ذلك في غيره”.

وفي أيام العشر من ذي الحجة يومان يشهد لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأفضلية والخيرية عند الله، وهما يوم عرفة ويوم النحر، قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: “ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النّار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟” 7، وهو يوم مغفرة الذنوب وصيامه يكفر سنتين، كما أنه من أشرف أوقات الدعاء عند المؤمن لتوجه جمّ غفير من الناس في نفس الوقت لله واقفين على بابه، تلهج ألسنتهم بالذكر والتحميد والتهليل والدعاء، فمعية المؤمن معهم قلبا أرجى له عند الله أن يكون مستجاب الدعاء وممن شملته رحمته ومحبته وعتقه.

أما عن يوم النحر فهو أيضا من أعظم الأيام عند الله لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أعظم الأيام عند الله تعالى يوم النحر، ثمّ يوم القر” 8، ويوم القر هو اليوم الذي يلي يوم النحر لأنّ الناس يستقرون بمِنى، وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله من إهراق الدم، إنّه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وأنّ الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض، فطيبوا بها نفسا” 9، وقال الله عزّ وجل في كتابه العزيز: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ۗ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ(الحج: 37)، هي آية توضّح بجلاء أنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن لحوم الأضحية ودمائها، ولكن القصد من النحر هو تقوى الله والإخلاص في العبادة له وحده، فيكون النحر لوجهه الكريم وطلبا لرضاه سبحانه، فكانت البشارة في آخر الآية للمحسنين بعبادة الله إخلاصا واحتسابا ونيّة، ليكرمهم الله بقبول هديتهم حتى تقع دماؤها من الله بمكان قبل أن تقع على الأرض، ومن كان له القبول من الله نظر الله إليه، ومن نظر الله إليه أعطاه حتى يرضيه، فهل بعد هذا من شرف.

الخاتمة

إنّ محبّة الله لعباده اقتضت أن تجعل لهم أبوابا مفتوحة دائما بدوام ملكه سبحانه، وأن يعطيهم المنحة تلو الأخرى حتى يلقونه على أحسن حال يرضاه لهم، وأن يملأ صحائفهم بكرمه على القليل من العمل منهم، وأن يكون من بين أحبّ الناس إليه التوابون المتطهّرون، كل هذا من فضله وكرمه، الذي خلق الخلق ليُحبه ويُسعده ويُكرمه في الدنيا والآخرة إلا من أبى، فجعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها، وجعل كيد الشيطان ضعيفا لا يستقوي إلا بالغفلة عن الله، وأدخل في ذمته من فوّض أمره إليه وتوكّل عليه، وأدّى الفرائض وأقام السنن، وجعل من الدعاء حرفته فهو مخّ العبادة، فاغتنم أوقات الاستجابة والنفحات الطيبة العظيمة والكبيرة: كوقت السحر وعند الأذان، وبعد الصلاة، وحال السجود، وكثير من الأوقات التي تصحب المؤمن في يومه وليلته، واغتنم أيضا من الأوقات التي شرّفها الله وعظّمها وأرادها نفحات لأوليائه المقرّبين ومن أراد سلوك دربهم، كيوم الجمعة وشهر رمضان وفيه ليلة القدر والعشر من أيام ذي الحجة، بل هناك من الأوقات التي لم يستثنها الله من هذا الفضل والخير لدعاء المؤمن، كساعة الزحف ولقاء العدو والرباط على الثغور، لنختم فنقول: لقد أرادك الله له على جميع أحيانك، وإذا كنت كذلك أعطاك حتى يرضيك، وفتح لك أبواب جنانه في الدنيا قبل الآخرة، فتأنس وتفرح ولا تحزن أبدا، فمن وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء حتى نفسه، اللهم اجعلنا من أوليائك وأصفيائك ومن صنعتهم على عينك بوقوفهم على بابك وتبرّئهم من حولهم وقوتهم إلى حولك وقوتك، سبحانك لا إله إلا أنت ربنا ورب الخلق أجمعين.


[1] أخرجه البخاري رقم 1913، ومسلم رقم 758.
[2] رواه مسلم في صحيحه.
[3] رواه أحمد والترمذي.
[4] العلو للذهبي، رقم 80.
[5] تنوير المومنات 1: 295.
[6] رواه الطبراني في المعجم الكبير.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه أبو داود.
[9] أخرجه الترمذي في كتاب الأضاحي.