نكبة 1948.. التطهير العرقي للفلسطينيين

Cover Image for نكبة 1948.. التطهير العرقي للفلسطينيين
نشر بتاريخ

قلما حدث في التاريخ – وعلى الأقل في التاريخ الحديث – أن تقوم أقلية غاشمة من المحاربين الغرباء أصلاً بطرد أكثرية المواطنين من بلادهم وموطنهم الأصلي، وإزاحتهم بالقوة الغاشمة.

ومع ذلك فقد حدث هذا في فلسطين سنة 1948م حينما نفى أكثر من مليون فلسطيني تقريباً أو بعبارة أخرى أجبروا على الخروج من منازلهم ومدنهم وقراهم، حيث سلبت أراضيهم وأملاكهم ومقتنياتهم وأصبحوا لاجئين بلا وطن ولا آية وسيلة من وسائل العيش.

القسم الأكبر منهم رحلوا “هجروا” إلى الأردن، وإلى قطاع غزة، والضفة الغربية، والباقي إلى سوريا ولبنان … فما أسباب نزوح هذا العدد الكبير؟

العرب هربوا من البلاد، وكانت البلاد فارغة من أصحابها الأصليين، لم يكن من الممكن لصهيونيي فترة ما قبل قيام الدولة “أن يتصوروا حدوث شيء كهذا”). هذا التعليق على نزوح “لجوء” ما يزيد على مليون فلسطيني أثناء حرب 1948 م قدمه سنة 1952 “دافيد بن غوريون”، رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي أثناء تلك الحرب. هذا التفسير لما حدث سنة 1948م كان منذ البداية، ولا يزال هو التفسير الذي تتبناه السلطات الإسرائيلية والحركة الصهيونية في الدعاية الرسمية وفي المحافل الدولية.

ادعى الإسرائيليون والصهيونيون دائماً أن ما حدث سنة 1948 م هو أن الزعماء العرب طلبوا من الفلسطينيين مغادرة قراهم ومدنهم مؤقتاً، ريثما تقوم الجيوش العربية بالقضاء على الدولة اليهودية الوليدة. فاستجاب عدد كبير من الفلسطينيين لهذا الطلب، وخرجوا بمحض إراداتهم، ظانين أنهم سيعودون إلى بيوتهم بعد فترة وجيزة – ولكن الجيوش العربية فشلت في مهمتها، فطالت فترة الانتظار حتى أصبح الفلسطينيون لاجئين.

هذا التفسير لما حدث في حرب 1948م متأصل في الدعاية الإسرائيلية والصهيونية، مع أن عددا من الدراسات التي ظهرت في أوائل الستينات، مثل دراسات وليد الخالدي (1959 – 1961)، وارسكين تشلدرز (1961)، تمكنت من ضحده بسهولة، على الأقل بين الأوساط الأكاديمية – لكن تفنيد الادعاءات الإسرائيلية شيء، ومعرفة الأسباب الحقيقية لنزوح وهجرة الفلسطينيين بهذه الأعداد الضخمة شيء آخر – أن معرفة حقيقة ما حدث يتطلب التعرف على الخطط والاستراتيجيات والتكتيكات التي كانت تستعملها المنظمات “والعصابات” العسكرية اليهودية والجيش الإسرائيلي فيما بعد، والنوايا التي كان يضمرها واضعو هذه الخطط والاستراتيجيات. وكان من المستحيل التحقيق في مثل هذه الأمور دون الاطلاع على الوثائق السرية للمنظمات اليهودية والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والبريطانية والأمريكية، هذه الوثائق لم تصبح في متناول الجمهور إلا بعد مرور ثلاثين عاماً على تلك الأحداث، أي في أوائل الثمانينات. وقد أدى فتح الأرشيفات السرية أمام الباحثين إلى بروز ما يعرف الآن بالتاريخ التصحيحي “Revisionist History” أو “التاريخ الجديد”. ومن بين المؤرخين التصحيحين توم سيجف، وسيمحا فلايان، وآفي شلايم، وأيلان بابي، ويوسي أميتاي، وشبتاي طفت، وأوري ملشتاين، “أرنولد توينبي” أعظم مؤرخ في عصرنا الحاضر، فما كان العالم ليعرف أبداً لماذا فر عرب فلسطين من بيوتهم ووطنهم لولا استقامته وشجاعته، وعدد قليل من النبلاء، من أمثاله الأستاذ “ميلربرووز” والاستاذ ويليام ايرنست هوكنغ، والصحافية الشهيرة دوروتي تومبسون، والفرد ليلينتال، وموشي ماتوهين وقليل سواهم، وأشهرهم المؤرخ الإسرائيلي “بني موريس” والذي جلب اهتمام الدارسين والباحثين من خلال ثلاث مقالات هامة نشرها سنة 1986 م، قبل نشر كتابه سنة 1987.

(The Birth of the Palestinian Refugee problem 1948 – 1949)

هنا محاولة للإجابة على السؤال المطروح آنفاً والذي قد يستغرب البعض من إعادة طرحه، مبيناً أن المهم الآن، إيجاد حل لمشكلة اللاجئين، وليس البحث عن الأسباب التي دفعت الفلسطينيين إلى النزوح أو اللجوء عام 1948م عن ديارهم. والحقيقة أن السؤال لازال قائماً ومطروحاً إلى يومنا هذا والجواب عليه- على الأقل لغير الفلسطينيين- مازال مبهماً وضبابياً من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن معظم الدراسات والباحثين المتخصصين في شؤون أو مجال اللجوء واللاجئين يجمعون على أهمية معرفة الأسباب التي تدفع اللاجئ إلى الفرار، الهروب أو “اللجوء” من بلده ودورها في توجهات اللاجئ نحو إيجاد الحلول المتوقعة المحتملة لقضيته. يبدو هذا جلي في موقف كلاً الأطراف: العربي، الإسرائيلي، حيث تم ربط مسألة إيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين بأسباب اللجوء، ويدعى كلاهما أن الطرف الآخر هو السبب وعليه تقع المسؤولية ودفع ثمن الحل للمشكلة.

ولتفسير هذه الأسباب، لا يمكن إغفال دور المجتمع الدولي فهو المسؤول عن أهم جوانبها وأبعادها، وهو المسؤول – من قبل – عن التمهيد والتوطئة لخلقها من خلال إذكاء، وتشجيع ودعم الأطماع الصهيونية في فلسطين، بما صدر عن القوى الاستعمارية الكبرى وفي مقدمتها بريطانيا من دعوة متلاحقة بشأن إنشاء “وطن قومي” لليهود في فلسطين، وتقع المسؤولية على الهيئات الدولية الممثلة لهذا المجتمع: عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم المتحدة، بزعامة أمريكا بريطانيا وفرنسا في تواطئهم على ارتكاب الجريمة، وإضفاء الشرعية على الاستيطان، واغتصاب الأرض، وتشريد الشعب.

إجمالاً، يمكن حصر وإرجاع أسباب اللجوء عموماً إلى سببين أساسيين:

1- العدوان الخارجي، والاحتلال أو حروب الاستقلال والتحرر التي خاضتها الشعوب في الغالب ضد الاستعمار، والأمثلة على ذلك كثيرة “كجنوب أفريقيا، الجزائر… الخ) ويخرج اللاجئون من بلداتهم في هذه الحالات وهم عازمون ومصممون على العودة، لا بل ويناضلون من أجلها.

2- لجوء ناتج عن صراعات ونزاعات أو حروب داخلية لأسباب عرقية / طائفية أو عقائدية والكوارث، مجاعات فقر…الخ، مما يدفع بالأفراد للفرار والهروب من الوطن، أحياناً في هذه الحالة لا يتم التفكير في العودة كاللاجئين من أوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية قبل عام 1951م.

وفي الحالة الفلسطينية واللجوء الفلسطيني فقد اضطروا وأرغموا على ذلك نتيجة للسببين معاً؛ من ناحية ومن ناحية أخرى، فالأدلة الوثائقية* من الكثرة بحيث تدحض بصورة قطعية مزاعم قادة الصهاينة للأسباب الخاصة وراء التهجير القسري للفلسطينيين وعلى سبيل المثال لا الحصر، قد لخص الوسيط الدولي الكونت برنادوت أسباب خروج الفلسطينيين اللاجئين في تقرير له كالتالي: “نتج رحيل اللاجئين الفلسطينيين عن الذعر والهلع الذي سببه القتال، والهجوم على مجتمعاتهم، وبسبب الإشاعات صادقة أم كاذبة عن أعمال إرهابية من قتل وطرد”) 1 يتجلى هذا في عدة أسباب معقدة أدت إلى الاقتلاع الجماعي للفلسطينيين من أراضيهم، وترتبط عملية التهجير والاقتلاع الجماعي بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، ففي أثناء حرب 1948 م، أقتلع الفلسطينيين بالآلاف على أيدي الميليشيات الصهيونية، وبعد تأسيس الدولة اليهودية اقتلع الآلاف على أيدي القوات الإسرائيلية وذلك من خلال مجموعة من السياسات التي تنتهك أبسط مبادئ القانون الدولي. وهذه السياسات تشمل هجمات عسكرية مباشرة على المدنيين (الأماكن المأهولة بالمدنيين)، ارتكاب المجازر، النهب والسلب، تدمير الممتلكات (تدمير قرى بأكملها) والتهجير القسري للسكان. وواصلت سياستها في التهجير والاقتلاع حتى بعد توقيع اتفاقية الهدنة في عام 1949، ويحدد المؤرخ هنري كتن الأسباب في ثلاثة منها:

1- طرد وتهجير اليهود للفلسطينيين بالإرهاب والعنف.

2- انعدام الأمن والأمان في البلاد.

3- فقدان وانهيار الجهاز الحكومي الذي يطبق القانون ويحافظ على النظام خلال الأحداث.

فمنذ البداية، نجد محاولة الاستعمار البريطاني تنفيذ وعد بلفور المشئوم الصادر عام 1917م الداعي إلى إقامة وإنشاء “وطن قومي” لليهود في فلسطين 2 والذي بموجبه التزمت الحكومة البريطانية وأخذت على عاتقها المساعدة في تأمين كافة الشروط اللازمة لإحلال اليهود مكان السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، وكان أخطر ما قامت به، فتح الأبواب على مصراعيها أمام الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وغض الطرف عن الجهود الحقيقية التي كانت تقوم بها المنظمات الصهيونية، لإنشاء جيش يهودي مدجج بالأسلحة هدفه العمل بكل وسيلة لطرد وتشريد الفلسطينيين عن أراضيهم وتمكين المستوطنين اليهود من السيطرة عليها، فما أن صدر صك الانتداب البريطاني عن عصبة الأمم في 24/7/1922م ووضع فلسطين تحت الانتداب حتى أصرت بريطانيا على أن تنّتدب على فلسطين، وفعلت لذلك الكثير لكي تفي بما قطعته على نفسها من التزامات للمنظمة الصهيونية العالمية علماً بأن صك الانتداب لم يأخذ بعين الاعتبار رغبة الشعب في اختيار الدولة المنتدبة عليه، وهذا منصوص عليه في ميثاق عصبة الأمم فيما يتعلق بقواعد الانتداب.

الدور الاستعماري في اتخاذ قرار التقسيم (قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقـم “181”) لعام 1947م الذي عملت الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا على استصداره هذا القرار الذي دفع حوالي 30 ألف فلسطيني للهرب من وطنهم خوفاً من وقوعهم تحت حكم الحركات الصهيونية، بعد أن وقعت بلداتهم وقراهم ضمن حصة اليهود في خطة التقسيم 3 القاضية بإقامة دولتين واحدة عربية فلسطينية والأخرى يهودية على 56% من مساحة فلسطين، وقد قبلت القيادة الصهيونية برئاسة بن غوريون في حينه القرار، فيما رفضه العرب والفلسطينيين، وفي نفس الوقت صوتت الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس التاريخ على قرار ينهي الانتداب البريطاني على فلسطين اعتباراً من آيار 1948م، وفي أعقاب ذلك شرعت المنظمات الصهيونية في احتلال مواقع الانتداب البريطاني وفرضت قرار التقسيم على أرض الواقع وقد أعدت الحركة الصهيونية نفسها لمثل هذه اللحظة مسبقاً وكانت مخططاتها جاهزة. تثبت الدراسات أن اللجوء الفلسطيني عام 1948م، جاء بشكل رسمي نتيجة لعدوان يهودي صهيوني مخطط ومرسوم بعناية تامة، ونوايا مبيته نفذتها العصابات والمنظمات العسكرية اليهودية ومنها: عصابات الهاغاناه، الأرغون، شتيرن، وليحى، وقوات البالماخ وإتسل، تلك المنظمات المسلحة اللاشرعية، التي أنشأتها ومولتها الوكالة اليهودية في فلسطين، والجيش الإسرائيلي فيما بعد.

تراوحت المزاعم الصهيونية في هذا المجال بين إدعاء دعوة الزعماء والقادة العرب للفلسطينيين بالخروج من هذه الديار، وبين خروجهم الاختياري.

الوقع أن الفلسطينيين أخرجوا من ديارهم، عنوه، وليس بموجب اختيارهم، وما إدعاء الصهاينة إلا بهدف إسقاط حق الشعب الفلسطيني في العودة، ما دام قد ترك بلاده مختاراً، دون أي ضغط.

أن تحويل فلسطين من بلد عربي إلى بلد يهودي، وطرد الشعب الفلسطيني من دياره ووطنه وإحلال اليهود محله كان الهدف الأول للحركة الصهيونية وهي “حركة سياسية عدوانية”. وقد سهل “وعد بلفور” الوصول للهدف، انتظر الصهيونيون من بريطانيا العظمي، أن تتم مهمتها وتقدم فلسطين لهم على طبق من فضة خالية من أهلها الأصليين وحين لم يتم ذلك، قرر الصهيونيون الوصول إليه بأنفسهم، وقد نفذوه بأبشع الوسائل والطرق الوحشية، تؤكد ذلك مجمل الممارسات الصهيونية عشية الإعلان عن قيام إسرائيل وما صاحب ذلك من تمييز عنصري وقهر واضطهاد للسكان الفلسطينيين عبر تدمير قراهم والاعتداء على بلداتهم وتجمعاتهم السكنية بوسائل عدة : نفسية ومادية، جمع القادة الصهاينة بينها ببراعة ودهاء، اتسمت بالإرهاب والفظاعة وارتكاب المجازر والمذابح، أدت في النهاية إلى إخلاء وطرد الفلسطينيين وترحيلهم عن قراهم ومنها:

الإرهاب اليهودي

طرد السكان الفلسطينيين من بيوتهم ووطنهم بالمذابح المحسوبة، فقد انقاد الشعب اليهودي للصهيونية المجرمة وشارك منفعلاً في أبشع مذابح اقترفت في هذا العصر، والذي قصد منها كسر الروح المعنوية للفلسطينيين ودفعهم إلى الفرار “اللجوء”، علماً بأن التسجيل الكامل للكيفية والنوعية التي طرد بها الفلسطينيين يتطلب مجلداً ضخماً، وليست مذبحة دير ياسين في 9/4/1948م إلا واحدة من سلسلة مذابح نظمتها العصابات الحاقدة، ومع أنها المجزرة التي اشتهرت أكثر من غيرها، حيث جرى توثيقها على نطاق واسع وبدقة كبيرة، وقد بلغ عدد ضحاياها عدة مئات حوال254 من شيوخ ونساء وأطفال 4 ، إلا أنها لم تكن المجزرة الوحيدة، أو أكبر المجازر التي ارتكبت فقد كانت مجزرتا الدوايمة قضاء الخليل، ومذبحة اللد أكبر وأبشع وقد نظمت العصابات الصهيونية العديد من المذابح والمجازر للشعب الفلسطيني الآمن في وطنه حوالي 25 مجزرة منها: مذبحة سعسع في 16/4، ومذبحة سلمة في 1/3، وبيار عدس في 6/3، ثم مذبحة القسطل في 4/4، ومذبحة طبريا بتاريخ 17/4، ومذبحة سريس في نفس التاريخ، وحيفا في 20/4، والقدس في 25/4، ويافا في 26/4، ومجزرة عكا في 27/4، ومذبحة صفد في 7/5، وبيسان في 9/5، ولا نغفل مذبحة ناصر الدين، وما ارتكبوه في مذبحة قبية 1953م، وكفر قاسم، ونحالين والسموع ومذبحة الطنطورة..الخ. راح فيها آلاف المواطنين الأبرياء معظمهم من الشيوخ، والنساء والأطفال على أثر هذه المذابح الحاقدة الهمجية غدا الفلسطيني أمام خيار مر: الموت أو الهرب واللجوء.

* فقدان وانهيار الأمن

يؤكد هذا جنرال إنجليزي بأن قضية اللاجئين وأسبابها ترتبت على “أعمال اليهود الوحشية”، ويكذب الإدعاءات الإسرائيلية بأن الفلسطينيين خرجوا على إرادتهم ومن تلقاء أنفسهم، وليس عنوه، ويقول بأن “العربي الذي يغادر أرضه، راضياً، كان من الواجب عليه أن يبيع بيته، إذا كان يملك بيتاً، أو يحمل أمتعته، وأن يستعد لهذا الرحيل، على الأقل ولكن أن يغادر بلده، دون أن يحمل شيئاً، ودون أن يعرف مصير عائلته، وأن يقتل أبنه على يديه، حتى لا يفكر في العودة. إن عربياً خرج من فلسطين مع هذه الطريقة، لم يغادر راضياً، إنما اليهود أجبروه على الخروج، تحت وطأة الخوف والإرهاب، على أثر المجازر والمذابح الرهيبة التي نفذوها في طول وعرض البلاد 5 .

* فقدان الجهاز الحكومي

من الأسباب التي ساهمت في خروج المواطنين سنة 1948م، كان انهيار الأمن والأنظمة الإدارية أثناء انتهاء الانتداب، فبعد انتشار العنف والرعب بسبب الإرهاب والمجازر التالية لصدور قرار التقسيم، ظلت الحكومة البريطانية عاجزة عن صيانة القانون والنظام في فلسطين، ولم تكن مستعدة لتوريط قواتها في سبيل هذا الهدف، والدليل على انعدام أية سلطة للحكومة في تلك الأيام العصيبة، قد أثبته الواقع حينما حدثت المذابح العديدة، فلم تكن هناك سلطة تعترض أو تحاول منع المذابح أو تساعد في إسعاف الجرحى، أو حتى في إنقاذ أو دفن الضحايا.

لم يغادر أو يترك الفلسطينيون ديارهم ووطنهم طواعية بل بسبب الإرهاب والعنف المدبر والمذابح المحسوبة، فقد حققت مذبحة دير ياسين وغيرها من المجازر هدفها، ويصف ذلك فوهرر الأرغون، “مناحيم بيغن” تلك المنظمة المسؤولة عن فظاعات دير ياسين، بدأ العرب يفرون خائفين، مذعورين كان عددهم 800 ألف يعيشون في إقليم دولة إسرائيل الحالية، بقي زهاء 170 ألف عربي فلسطيني لا يزالون فيها) 6 . ويصف د.”ستيفن تيرز” الأعمال الوحشية الفظيعة ويقول “الصهيونيون اقترفوا ما هو أشد وقعاً وإرهاباً، بأساليب منظمة كانوا قد تعلموها بمهارة فريدة على أيدي النازيين، فالجرائم التي اقترفوها النازيين ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية قلدها اليهود الصهاينة ببراعة ضد الفلسطينيين عام 1948م: وهذا بغية إفزاع الفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل، وكانت إذاعاتهم تردد دائماً “تذكروا دير ياسين” فلا عجب أن هربت عائلات كثيرة، من مناطق مختلفة، والفزع ينتقل بالعدوى) 7 .

وقد رصد أكاديمي فلسطيني بارز 8 ، بذل جهداً مضني في البحث والتنقيب، وصرف وقتاً طويلاً في دراسة مسألة اللاجئين الفلسطينيين، وقد تبين بعد البحث والتنقيب سقوط 213 قرية أو بلدة، وإخراج زهاء 413.000 عربي فلسطيني من ديارهم، قبل انسحاب القوات البريطانية، فيما هجرت 60% من القرى والبلدات في المرحلة التالية، أدت إلى ترحيل 65% من اللاجئين، كذلك طرد الجيش الإسرائيلي أهالي 122 قرية، طرداً مباشراً، وتم إخراج أهالي 250 قرية عبر هجمات عسكرية، وأهالي 50 قرية تحت ضغط هجوم قادم، و 12 قرية بتأثير “أسلوب الهمس” القاضي بتخويف الأهالي من المذابح المتوقعة، و 38 قرية بسبب الخوف من هجوم إسرائيلي مسلح، مقابل 5 قرى فقط، بأوامر مباشرة من مخاتيرها، وقام الجيش الإسرائيلي بتدمير 221 قرية تدميراً شاملاً وحوالي 134 قرية تدميراً جزئياً، و 52 قرية تدميراً جزئياً أو بسيطاً فيما لم يتمكن هذا الجيش من الوصول إلى 11 قرية نجت من تدميره لكن مجموع القرى التي دمرت تدميراً تماماً أكثر بكثير من هذا العدد وقد سجل “اسرائيل شاحاك” رئيس هيئة حقوق الإنسان / قائمة في سنة 1975م، بأسماء وعدد القرى العربية وهي التي دمرتها إسرائيل ومسحتها عن وجه البسيطة منذ سنة 48 فوصل الرقم إلى 385 قرية (36). وقد ارتبط منحي النزوح، صعوداً وهبوطاً بالأعمال العسكرية الصهيونية، حيث لم يحدث مطلقاً نزوح أثناء توقف هذه الأعمال.)

* الحرب النفسية

أساليب الحرب النفسية والدعايات الكاذبة التي اتبعها اليهود لإكراه العرب على ترك بلادهم، التحذيرات التي كانت توجهها الإذاعات اليهودية السرية إلى العرب الفلسطينيين من تفشي الأمراض الوبائية: الكوليرا، التيتنوس “الجدري” وان الأمراض الخطيرة قد انتشرت بينهم من جيش الإنقاذ. وحاولت كذلك تقويض ثقة السكان بأنفسهم وقياداتهم بغرض تحطم المعنويات وإذكاء الفتنة، مثل الحديث عن حجم وعدد الخسائر في الأرواح بين العرب والخلافات السياسية بينهم وضعفهم وقلت كفاءتهم، ولجاءوا أيضاً إلى استعمال مكبرات الصوت وراحوا يبثون تسجيلاً لأصوات صرخات، أنين ونحيب النسوة العرب ورنين أجراس عربات الإطفاء يقطعها صوت جنائزي مناشداً باللغة العربية: أنقذوا أرواحكم أيها المؤمنون، أهربوا لتنجوا..) وإذاعة تسجيلات لانفجارات شديدة عبر مكبرات الصوت، كما عمدت القوات الصهيونية إلى تفجير تجمعات الأسواق التجارية والأزقة، واستخدمت القنابل، “البراميل” وهي عبارة عن براميل محشوة بخليط من المتفجرات وزيوت الوقود، وعند اصطدامها بالجدران كانت تحدث صواعق من اللهب ودوي انفجارات شديدة، كما لجأوا إلى إذاعة إنذارات للعرب الفلسطينيين بضرورة الرحيل ومغادرة قراهم ومدنهم في فترات محدودة وإلا تعرضوا للقتل وقد جاء في أحد النداءات في مدينة القدس إذا لم تتركوا بيوتكم، فإن مصيركم سيكون مثل دير ياسين انج بنفسك) وفي طبريا وزعت منشورات تحذر العرب من التعاون مع المجاهدين ومعارضة مشروع التقسيم ففي أحد البيانات التي وزعتها عصابات الهاغاناه جاء: على الناس، الذين لا يريدون الحرب أن يرحلوا جميعاً، ومعهم نساؤهم وأطفالهم ليكونوا آمنين، إنها سوف تكون حرباً قاسية، ودون رحمة ولا ضرورة لتخاطروا بأنفسكم). وقد تكرر ما حصل في حيفا، ويافا، والقدس وطبريا وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية فقد وزعت ملصقات على الجدران حملت معظمها، عبارة ارحل من أجل سلامتك.

كانت “الإشاعات وأسلوب الهمس” أوجه أخرى لطرد وتهجير الفلسطينيين وإحدى تفريعات الإرهاب الصهيوني، ويوضح ذلك “إيغال آلون” في “سيقر هبلماخ” كما يلي: الهدف كان تطهير الجليل الأعلى قبل انتهاء الانتداب البريطاني ودخول الجيوش العربية،.. وكانت المعارك الطويلة قد أضعفت قوات البالماخ وكبدتها خسائر فادحة، لذلك استخدم جملة من الإشاعات يقول قمت بجمع المخاتير اليهود الذين لهم اتصالات مع العرب في القرى المختلفة، وطلبت منهم أن يهمسوا في آذان بعض العرب بأن تعزيزات كبيرة من الجنود قد وصلت إلى الجليل وأنهم سيحرقون القرى جميعها في سهل الحولة، وكان عليهم “المخاتير اليهود” الإيحاء إلى العرب بوصفهم أصدقائهم، بأنه من الأفضل لهم الهرب والنجاة في الوقت المناسب، وهكذا انتشرت الإشاعة في سائر أنحاء الدولة، فحدث نزوح جماعي وكان عدد الذين فروا لا يحصى) 9 .

ومن الأساليب أيضاً، أسلوب “الدعاية السوداء”، استخدام هذا الأسلوب “موشية ديان” الذي خلف ايغال آلون في قيادة القطاع الجنوبي، وخاصة عندما أراد الصهاينة إجلاء عرب المجدل ودفعهم باتجاه قطاع غزة، فاستخدام نفس الأساليب والوسائل الضاغطة التي استخدمت مراراً من قبل، هي الطرد البحت عبر بث الرعب في نفوس المواطنين الله وحدة يعلم ماذا سيحل بك إذا بقيت هنا) 10 . وإعلانات عن عمليات طرد وشيكة واستخدام مختلف أنواع التقييدات سواء: (الحشر في أمكنة ضيقة مع حراس، وأسلاك)، العزل الجسدي تقييدات العمل والحركة إضافة إلى بعض الإغراءات، أهمها عرض وحيد لاستبدال الأموال وبمعدلات سخية.

* أسلوب هدم وتدمير البيوت وتخريب الممتلكات

تنفيذا للخطط والمقترحات والأفكار الصهيونية الرامية للاستيلاء على الأرض نظيفة من سكانها تجلت صور الإرهاب الصهيوني في “الخطة-د” وهي خطة عسكرية على هيئة حرف “د” أو حدوة حصان، حيث تحاصر البلدة أو المنطقة من ثلاث جهات وتبقي منطقة خالية من القوات الصهيونية، مما يتيح للمحاصرين الإفلات، صممت أول مرة سنة 1942م، واعتمدت رسمياً في العاشر من آذار سنة 1948، اقتضت استراتيجية هجومية ضد الفلسطينيين وحلفائهم العرب، تتلخص في الاستيلاء على النقاط والطرق الرئيسية في البلاد. وكان توسيع رقعة الدولة اليهودية إلى أبعد من حدود التقسيم، وطرد العديد من الفلسطينيين من بين الأهداف الرئيسية لتلك الخطة، كما نصت على ضرورة احتلال قرى ومدن عربية والاحتفاظ بها أو مسحها عن وجه البسيطة) 11 .

نفذت فعلياً في نيسان 1948م، حيث شنت الهاغاناه ضربات هجومية منسقة ومكثفة ضد المدنيين في المدن الرئيسية، وشن غارات ليلية، والقيام بعمليات تفجير عشوائية، وتدمير المنازل والقرى، قتل المزارعين في الحقول وغير ذلك من أساليب العنف والإرهاب العشوائية كالحرق والنسف وكان نتيجة لذلك نزوح عشرات الآلاف الفلسطينيين عن ديارهم وأضحوا بذلك لاجئين، هكذا تضافرت جميع أشكال الإرهاب الصهيوني من المذابح إلى العمليات العسكرية والحرب النفسية بأشكالها، والتهجير على دفع الآلاف من الفلسطينيين إلى ترك ديارهم والنزوح منها، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:

1- ساهمت العمليات العسكرية من قبل عصابات الهاجاناه على القرى والمدن العربية بشكل مباشر أو على مواقع مجاورة بحوالي 55% من النزوح.

2- العمليات العسكرية للقوات اليهودية المنشقة (مثل أرغون وليحيي وأتسل) يقدر تأثيرها بحوالي 15% من النزوح أي أن العمليات العسكرية مجتمعة ساهمت في طرد ولجوء حوالي 70% من الفلسطينيين.

3- الأوامر من المؤسسات العربية الرسمية وغير الرسمية 5%.

4- حملات الهمس والدعاية السوداء (الحرب النفسية) 1%.

5- أوامر مباشرة بالرحيل من قبل القوات الإسرائيلية 1%.

6- الخوف من انتقام اليهود خاصة بعد هجوم العرب على مواقع يهودية 1%.

7- ظهور قوات عربية غير نظامية من خارج القرى 1%.

8- الخوف من هجوم الجيوش العربية النظامية 1%.

9- القرى العربية المعزولة وسط مناطق يهودية 1%.

10- لجوء لاعتبارات محلية مختلفة وخوف عام من المستقبل المجهول 19%. 12

نتائج اللجوء

هكذا تشكلت القضية الفلسطينية بكل مكوناتها الإنسانية والأخلاقية والسياسية فبعد تاريخ 15 أيار 1948م أو ما أطلق عليه اصطلاحا النكبة، تغير وجه الأرض المفترض أن يكون في نظر الفلسطينيين، فالأرض لم تعد الأرض والحياة لم تعد الحياة وحتى الوجوه المعتادة تفرقت في بقاع الأرض، لقد حملت النكبة معها تبعات مأساوية على عدة أصعدة اجترعها الفلسطينيون على مدى سنين طويلة مرت ومازالت، وإذا كنا في معرض تحديد تبعات النكبة فهي أكثر وأعمق من أن تعد أو تحصى. ولكن يمكن إجمال هذه التبعات على الأصعدة التالية:

1- على صعيد الأرض

اغتصب الكيان الصهيوني نحو 78%من ارض فلسطين التاريخية بعد أن كان قرار الأمم المتحدة الخاص بتقسيم فلسطين لدولتين يهودية و عربية اقر قيام الدولة الإسرائيلية على مساحة 56% من الأرض الفلسطينية. هذا التوسع نجم عن قيام الكيان الغاصب بالاستيلاء على بقية الأراضي الفلسطينية بقوة السلاح.

أما الأرض المتبقية وهى 22%من مساحة فلسطين التاريخية قسمت إلى قسمين هما : الضفة الغربية غزة قد وضعت تحت الحكم الأردني وقطاع غزة وضع تحت الإدارة المصرية.

إن قيام الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية نجم عنه محو أكثر من 500 قرية عن وجه الأرض وترحيل أهلها عنها، هذه القرى في معظمها تركها أهلها إما بسبب الطرد المباشر أو غير المباشر على يد القوات اليهودية.

2- على صعيد السكان

تم طرد الفلسطينيين من أرضهم، واقتلاعهم من منازلهم، و ابتعادهم عن مصادر رزقهم ليحول بذلك حوالي مليون فلسطيني الى لاجئين مشتتين في العالم ليحل محلهم أناس جلبوا من شتات العالم ليستوطنوا ارض فلسطين. لقد جمع الفلسطينيون بعد تهجيرهم في مخيمات اللجوء في دول الجوار الفلسطيني ليعشوا حياة الذل بعد الكرامة و انتظار ما يجود العالم به لهم بدلا من أن يعملوا في مصادر رزقهم التي تركوها في بلدهم من أجل حياة كريمة لهم.

3- على الصعيد السياسي

حرم الفلسطينيون بعد النكبة من وجود إطار سياسي واحد لهم فقد سرقت الأرض و شرد السكان و توزع القرار السياسي الى أن استطاع الفلسطينيون في عام 1964 من تأسيس كيان سياسي يجمعهم ويكون الإطار الموحد لنضالهم من اجل العودة و تحقيق حقوقهم الشرعية العادلة.

وفيما يلي بيانات توضح توزيع الفلسطينيين في الشتات:

عدد الفلسطينيين في العالم 9.7 مليون نسمة موزعين على النحو التالي:

• 3.7 مليون نسمة في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة)

• نحو مليون نسمة في إسرائيل

• 2.8 مليون نسمة في الأردن

• 436 ألف نسمة في سوريا

• 415 ألف نسمة في لبنان

• 62 ألف نسمة في مصر

• 595 ألف نسمة في الدول العربية الأخرى

• 236 ألف نسمة في الولايات المتحدة الأمريكية

• 301 ألف نسمة في الدول الأجنبية الأخرى

في الأراضي الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة):

• عدد السكان 3.7 مليون نسمة

• في الضفة الغربية 2.3 مليون نسمة بنسبة 63.3%

• في قطاع غزة 1.4 مليون نسمة بنسبة 36.7%

• اللاجئون 42.6% من السكان

• 46% من الأفراد هم دون سن الخامسة عشر من العمر

• 3.1% من الأفراد هم أكثر من 65 سنة من العمر

الفلسطينيون في أرض فلسطين التاريخية مقارنة بعدد اليهود:

• عدد السكان الفلسطينيين في ارض فلسطين التاريخية 4.6 مليون نسمة حتى نهاية عام 2002.

• في منتصف عام 2005 سيبلغ عدد السكان الفلسطينيين 5.1 مليون نسمة مقابل 5.3 ملين نسمة من اليهود.

• في نهاية عام 2006 سيتساوى عدد السكان الفلسطينيين واليهود.

• في منتصف عام 2010 سيبلغ عدد السكان الفلسطينيين 6.2 مليون نسمة مقابل 5.7 مليون من اليهود.

• في منتصف عام 2020 سيبلغ عدد السكان الفلسطينيين 8.2 مليون مقابل 6.4 مليون من اليهود وبذلك ستبلغ نسبة اليهود 44% فقط من السكان 13 .

عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات.


[1] نور الدين مصالحة، طرد الفلسطنين ومفهوم الترانسفير والفكر والتخطيط الصهيوني 1982ـ1948، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.\
[2] ناجح جرار، اللاجئين الفلسطينيين… أين.\
[3] نور الدين مصالحة، طرد الفلسطنيين ومفهوم الترانسفير والفكر والتخطيط الصهيوني 1982ـ1948، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.\
[4] دير ياسين، رمز فلسفة الصهيونية ـ السيطرة بالسطو و التحكم بالإرهاب. القاهرة، وزارة الإرشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات.\
[5] جندي مع العرب / مذكرات غلوب باشا. ترجمة حسن الصمدي، بيروت، دار الناشرين الجامعين.\
[6] مناحيم بيغن، “الثورة” حكاية الارغون.\
[7] شريف كناعنة، الشتات الفلسطينى،هجرة ام تهجير. مركز الاجئين والشتات الفلسطيني (شمل).\
[8] د. سليمان أبو ستة، حق العودة للشعب الفلسطيني على ضوء تطورات التسوية السلمية. محاضرة نظمتها “المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل”، القاهرة 8/1/1996.\
[9] شريف كناعنة، الشتات الفلسطينى،هجرة ام تهجير. مركز الاجئين و الشتات الفلسطيني (شمل).\
[10] نور الدين مصالحة، طرد الفلسطنين ومفهوم الترانسفير و الفكر و التخطيط الصهيوني 1982ـ1948، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.\
[11] بينى موريس، طرد الفلسطنين وولادة مشكلة الاجئين، وثيقة إسرائيلية.دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، ط 1،1993.\
[12] شريف كناعنة، الشتات الفلسطينى،هجرة ام تهجير. مركز الاجئين و الشتات الفلسطيني (شمل).\
[13] المصدر: تقرير عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني بتاريخ 31/12/2003.\