أيام مضت وشهور انقضت ودار العام دورته وأقبلت الأيام المباركة تبشر بقدوم الشهر الأبرك العظيم شهر القرآن، وبين يدي هذا القدوم يطل علينا شهر شعبان وما أدراك ما شعبان!!
هو مقدمة رمضان والبوابة التي تدخلنا على الشهر الأبرك، هو موسم من مواسم الخيرات والبركات، وميدان للمسابقة والمنافسة، هو فرصة من الفرص الذهبية التي تتاح لعشاق الجنة، والذين يتوقون إلى الاقتداء بسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام والسير على خطاه، ومن يشتاقون للتعرض للنفحات الإلهية والرحمات الربانية.
شعبان شهر أحبه الحبيب صلى الله عليه وسلم وخصه دون غيره بكثرة العبادة وعلى رأسها الصيام، فعن سيدتنا عائشة رضي الله عنها قالت: “كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصُومُ حتَّى نَقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقُولَ: لا يَصُومُ، فَما رَأَيْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إلَّا رَمَضَانَ، وما رَأَيْتُهُ أكْثَرَ صِيَامًا منه في شَعْبَانَ” (صحيح البخاري، 1969).
والحكمة من تخصيص شعبان بكثرة الصيام ذكرها المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه في حديث أسامة بن زيد؛ قال: “قلتُ يا رسولَ اللهِ لم أرَك تصومُ من شهرٍ من الشُّهورِ ما تصومُ شعبانَ قال ذاك شهرٌ يغفَلُ النَّاسُ عنه بين رجبَ ورمضانَ وهو شهرٌ تُرفعُ فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين وأُحِبُّ أن يُرفعَ عملي وأنا صائمٌ“ (الترغيب والترهيب، 2/130).
فالحكمة الأولى إذن من صيام شعبان هي أنه شهر يغفل عنه الناس، فتجد البعض يجتهد في شهر رجب لأنه من الأشهر الحرم، والبعض الآخر لا يقبل على العبادة إلا في شهر رمضان، وهكذا يغفلون عن شعبان، فخصه الحبيب عليه الصلاة والسلام بكثرة الصيام والعبادة، وهذا دليل على استحباب عمارة الأوقات التي يغفل عنها الناس ولا يفطنون لها، وما أحلى العبادة وسط الغفلة.
أما الحكمة الثانية فتتجلى في كون شعبان هو الشهر التي ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فهو إذن الموسم الختامي السنوي لصحائفنا، وهو اللحظة الحاسمة في رفع حصاد أعمالنا، فيرفع المولى سبحانه الصالح منها، مصداقا لقوله عز وجل: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ (فاطر، 10)، ولأن الصيام من الصبر والمولى سبحانه يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (الزمر، 10).
كما أن الصيام في شعبان له فضل كبير على الصيام فيما سواه، وذلك لأن أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان؛ قبله وبعده، فصيام شعبان يلتحق بصيام رمضان لقربه منه، فيكون إذن بمنزلة السنن والرواتب القبلية للفريضة، وهو بذلك تكملة لأي نقص قد يعتري صيامنا في الشهر الفضيل.
ولما كان شعبان مقدمة لرمضان فهو بمثابة تدريب عملي وتمرين تربوي ودورة تأهيلية يستعد من خلالها المسلمون لاستقبال شهر الفرقان، فيذوقوا لذة القرب من المولى جل في علاه، ويستطعموا حلاوة الإيمان، حتى إذا أشرق هلال رمضان أقبلوا عليه بهمة عالية ونفس مشتاقة وانكبوا على الطاعة وعكفوا على العبادة بقوة ونشاط.
شعبان هو شهر السقي بعدما تم الزرع في رجب حتى يكرمنا المولى جل جلاله بحصاد الخير كله في رمضان. فنسأله سبحانه أن يبارك لنا في شعبان ويبلغنا رمضان وهو راض عنا.
لنشمر إذن ونجدد النية ونعظمها ونستعد فها قد أقبل شعبان.