يقول سبحانه وتعالى في سوره الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46).
سبحان الله العلي الكريم العزيز الوهاب؛ الذي أكرمنا منذ النشأة ولا يزال يغمرنا بنعمه وعطاياه في كل وقت وحين؛ حتى نستشعر فضله ونحيا حياة سعيدة دنيا وآخرة. فها هو شهر الرحمات والمغفرة والعتق من النيران قد تكرم علينا به الكريم الجواد، وتودد إلينا بفضله ورحمته لنصومه ونفوز برضوانه، حيث غلقت أبواب النار وفتحت أبواب الجنة كما جاء في الحديث؛ في صحيح سنن ابن ماجه يقول صلى الله عليه وسلم: “إذا كان أولُ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدةُ الجنِّ، وغُلِّقتْ أبوابُ النارِ فلم يُفتحْ منها بابٌ، وفُتِّحَتْ أبوابُ الجنةِ فلم يُغلقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ كلَّ ليلةٍ: يا باغيَ الخيرِ أقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقْصرْ، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كلَّ ليلةٍ” [1].
وتدل صيغة المبالغة التي جاءت بها كلمت “فتّحت” على أن كل باب يفتح على مصراعيه، ومصراع الباب الواحد من أبواب الجنة بقدر ما بين المشرق والمغرب، وهي تفتح عن آخرها استقبالا لأهل الله عز وجل؛ الصائمين القائمين الذاكرين؛ المتسارعين للطاعات. بل من مزيد فضله عز وجل على هذه الأمة، أن يغلق أبواب النيران في هذا الشهر العظيم إغلاقا تاما.
فما أحوجنا إلى الإحساس بهذا الفضل الذي أكرمنا به سبحانه وهو ينادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، فهو إذا تودد وحب، فهلا قابلنا هذا الحب بأن نصوم رمضان حبا لله وطمعا في محبته ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ السراج المنير.
وما أحوج بيوتنا لهذا النور تهتدي به وتعيش معه، بدل هذه الوسائل التواصلية التي احتجزتنا وأوقعتنا في سجن الظلمات والبعد عن الله. فهيا بنا نعيش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر المبارك، ونتقرب من حاله في شهر الرحمات ونستنير بنوره، حتى نستشعر لذه العبادة في الصيام والصلاة وقراءة القرآن وباقي الطاعات، فهو الملاذ والخلاص من ضيق النفس واكتئابها إلى سعة الرحمات والأنوار الإلهية، وهو وسيلتنا إلى ربنا وأماننا في الدنيا والآخرة.
لم يكن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان كحاله في غيره من الشهور، فقد كان برنامجه صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر المبارك مليئا بالطاعات والقربات، وذلك لعلمه صلى الله عليه وسلم بما لهذه الأيام والليالي من فضيلة خصها الله تبارك وتعالى وميزها بها عن سائر أيام العام، فكان صلى الله عليه وسلم يكثر من أنواع العبادات؛ ما بين الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف وتلاوة القرآن.
هديه صلى الله عليه وسلم مع القرآن
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ” [2]، وحول هذا الحديث يقول الحافظ ابن حجر: “مدارسة القرآن تجدد العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي، وهو أعم من الصدقة..” [3].
إن قراءة القرآن لها من الثواب والأجر ما لا يعد ولا يحد، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: “من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف” [4]، فالله تعالى المنعم بأفضاله يضاعف الأجر أضعافا مضاعفة، “يحصل بإذن الله تعالى لكل قارئ للقرآن الكريم، ما دام أنه يقرؤه بإخلاص وتجرد ورغبة ورهبة، ولكن يعظم الأجر ويزداد الثواب إذا قرأه القارئ بتدبر وخشوع وخشية وخضوع لينتقل بعد ذلك من هذه الدائرة إلى دائرة العمل والتطبيق” [5]، ويزداد فضل هذا الأجر مع نفحات الشهر الكريم، وتعظم مكانة الكتاب الكريم فيه، حيث كان جبريل عليه السلام يدارسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان بدوره “يقرؤه على أصحابه ويستقرؤهم ويحثهم على القراءة، ويعقد الراية لأكثرهم حفظا، ويحرضهم على عدم تفلته منهم” [6]، وكان يقول: “تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها” [7].
هديه صلى الله عليه وسلم في الصدقة والإنفاق
كان صلى الله عليه وسلم يزيد من الصدقات في رمضان على الفقراء والمساكين، حتى وصفه الصحابة رضوان الله عليهم وكأنه الريح المرسلة من كثرة نفقته ومسارعته بمواساة الفقراء والمساكين في هذا الشهر الفضيل، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فرسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة” [8]. سخيا جوادا عل الأقارب والفقراء والمحتاجين والأيتام وذوي الحاجات، “فكانت صدقته وإحسانه مما يملكه وبماله وبقوله، فيخرج ما عنده، ويأمر بالصدقة ويحض عليها، ويدعو إليها بحاله وقوله، فإذا رآه البخيل والشحيح دعاه حاله إلى البذل والعطاء” [9].
هديه صلى الله عليه وسلم في النصيحة والدعوة
شهر رمضان مناسبة عظيمة لتبليغ الناس دعوة الله تعالى بما يتيحه استعداد القلوب لتلقي الموعظة، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يغتنم نفحات هذا الشهر الكريم من خلال الإكثار من لقاء أصحابه، يدعوهم فيها إلى الله تعالى ويرغبهم في المسارعة للفوز بخيراته ومنحه، بنهج قويم اختار فيه الحكمة واللين والرفق والموعظة الحسنة، امتثالا لقوله تعالى: ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [10].
علم أصحابه وأمته من بعدهم أن شهر الصيام ليس للكسل والراحة كما يتوهم البعض، وإنما هو شهر الجهاد وجليل الأعمال، وقد سطر التاريخ في صفحاته أحداثا جساما وانتصارات مثلى في نهار وليل أيام رمضان والناس صيام، من مثيل غزوة بدر الكبرى، التي أحيت في نفوس المؤمنين القوة والعزة؛ نصروا الله فنصرهم، ولبوا نداءه فمكنهم وأعلى شأنهم.
خلاصة القول؛ إن شهر رمضان مدرسة يتعلم فيها المؤمن والمؤمنة دروس الصبر والاجتهاد والتقرب إلى المولى الكريم والتدرب على تعزيز العلاقات الاجتماعية والتكافل، يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: “شهر رمضان شهر البركات والخيرات والتوبة وتجديد الصلح مع الله وطلب غفرانه وإحسانه وعِتْق رِقابنا من النار. شهر يفطِم الجسمَ عن طبعه من شهوة الطعام، وحاجة الشراب، ولذة الجسد، لتعرف المسلمة الجوع والعطش ولتتعلم ضبط نفسها وإلجامَ هواها. ولتتحكم في أوصافها الحيوانية لتسمُوَ الروح وتتطهر، ولتتدرب المؤمنة على تغليب الأوصاف الملائكية مستقلة عن جاذبية الطين” [11].
نسأل الله تعالى بين أيدي هذه الوقفات المقتضبة من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر الرحمة، أن يوفقنا لاقتفاء أثره والاهتداء بهديه.
[1] أخرجه الترمذي، رقم 682، وابن ماجة رقم 1642.
[2] أخرجه البخاري، رقم 1902، ومسلم 50/2308.
[3] فتح الباري، ج: 1، ص: 31.
[4] أخرجه الترمذي رقم 2910، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
[5] فالح بن محمد بن فالح الصغير، مع النبي في رمضان، دار المسلم للنشر والتوزيع، ط1، 1424هـ-2002م، ص61.
[6] المصدر نفسه، ص 60.
[7] أخرجه البخاري 5033، ومسلم 791.
[8] أخرجه البخاري 1902، ومسلم 2308.
[9] ابن القيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، ضبط نصه شعيب الأرنؤوط وغبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ص1، 2009، ص180.
[10] سورة النحل، الآية 125.
[11] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، ط 2018/4، دار لبنان للطباعة والنشر – بيروت، ج 1، ص 295.