مازلت أتذكر تلك اللحظة الأولى، بداية التسعينيات من القرن الماضي، التي أمسكت فيها كتابا جديدا لرجل بلغني عنه أنه محاصر في بيته، ويعيش تحت الإقامة الإجبارية ظلما وعدوانا، وأن كتبه ممنوعة من المكتبات…! ولعل السبب في محنته وحجبه على الناس؛ هو معارضته القوية لنظام الاستبداد، ورفضه لقبول اللعبة وقسمة الكعكة، ثم إن موقفه السياسي هذا الثابت والواضح، والقوي من غير عنف، والمرن من غير ذل، جعل الآخر الذي لا يملك الإرادة الحرة يخشى الانفتاح على قراءة أدبيات هذا الرجل الفذ، حتى لا يعرض نفسه للأذى -حسب تقديره- ولما لا طاقة له به…!
في هذا السياق التاريخي من المنع والحصار والإشاعات الكاذبة المصلتة على الرجل، يصلني كتابه تحت عنوان “محنة العقل المسلم بين سيادة الوحي وسيطرة الهوى”، قرأته بكل جوارحي؛ بعقلي وقلبي ولحمي ودمي، لأنني وجدته يجيب عن أسئلة محيرة، باتت تخدش في عمق كل إنسان صادق وباحث عن الخلاص… وكم هي جميلة تلك الصفحات الأولى التي كتب فيها متحدثا عن الفلسفة ونظرتها للخلق والإنسان، مناقشا في ذلك النظرية الدروينية في النشوء والتطور والارتقاء، وغيرها من الفلسفات المادية التي ولدت في “ساحة الأغورا”، منتقدا إياها بأسلوب علمي رصين وسلس، ينم عن قدراته المعرفية الواسعة في الميدان، قاصدا فطرة الإنسان لينفض عنها غبار التراكمات، ودعوتها لفهم سؤال المعنى وحقيقة الوجود.
كنت من شدة إعجابي بهذا الكتاب، أستطيع حفظ بعض فقراته كاملة عن ظهر القلب، وأستثمرها أثناء المناقشة في الدرس الفلسفي الذي كان شيئا جديدا في مساري الدراسي، ومن حسن الحظ كان أستاذ مادة الفلسفة رجلا متدينا ومنفتحا على جميع الثقافات والأفكار، ومحترما لقدرات تلاميذه في التعبير والمناقشة، فلطالما شجعنا على خوض غمار الفكر والفلسفة، واستثمار ذلك في الحوار والمذاكرة من أجل الاستيعاب والغربلة، وهذا ما ساعدني كثيرا في التعرف على أدبيات الإمام كشخص عالم ومفكر وداعية متميز في خطابه الذي ينطلق من المنهاج النبوي كنظرية قرآنية تعتمد على تغيير الإنسان، والتدرج به صعدا وفق مبدأ “اقتحام العقبة” في شتى المجالات مسترشدا بقوله تعالى فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (سورة البلد 11/17). فعلى مستوى السلوك إلى الله، لابد لكل إنسان مؤمن أن يحدث نفسه بواجب اللحاق بصحبة من صحب، داخل السلسلة النورانية، ويحملها على محمل الجد، مخاطبا إياها “يا نفس قد سبقك الرجال” لمعرفة الله سبحانه وتعالى، “فمن مات ولم يعرف الله فلا نهاية لحسرته”، كما كان يقول رحمه الله. أما على مستوى طلب العلم والعمل فلا يقنع بدرجة دون بلوغ الكمال والإحسان في كل شيء.
استمر تعلقي الشديد بكتابات الإمام وأنا في ساحة الجامعة وقتئذ، حيث ميدان المقارعة الفكرية والانفتاح على باقي المدارس والمذاهب المتنوعة والمتضاربة والمتطرفة حتى. لكن بفضل الله تعالى استطعنا أن نعبر هذه المرحلة المهمة والحاسمة في بناء شخصية الإنسان، دون السقوط في المهاوي الفكرية الحادة، ولا التبني للفقه المنحبس الذي يغمط حق الإنسان في الإبداع والتجديد. وقد ختمت مسيرتي العلمية الجامعية بإعداد بحث التخرج تحت عنوان “التغيير الاجتماعي في التصور الإسلامي”؛ والذي ركزت فيه على كتب الإمام عبد السلام ياسين كمشروع فكري استطاع أن يترجم نظريته تجاه المجتمع إلى تربية رجال ونساء قادرين على تطبيق هذا المشروع، وحمله إلى العالم كقوة اقتراحية للمساهمة في بناء العمران الأخوي.
ومما بقي عالقا في ذهني وأنا مشغول آنذاك بجمع مادة البحث؛ قراءة وإعدادا وتقييما، هو ذلك التعليق المفاجئ للأستاذة المشرفة حفظها الله، بعد اطلاعها على فصول البحث ولائحة المصادر والمراجع المعتمدة، قالت بصيغة متحسرة؛ بعد تشجيعها وإبداء فرحها باكتمال الصيغة النهائية للبحث: “أرجو ألا يخذله تلاميذه من بعده…”! لم أفهم سياق هذا الرجاء إلا بعد رحيل الإمام رحمه الله. وحينئذ قلت لنفسي؛ “مادام قد ترك خلفه المنهاج النبوي واضح المعالم خطابا وممارسة وتطلعا للمستقبل، فإنه يشكل البوصلة لقيادة الأمة عبر الأجيال، فلا ضير إذن”. والذي يزكي فكرتنا هذه إلحاحه على الدعاء في وصيته الأخيرة: “أوصي أن يدعوَ أحبابي إخواني ربنا عز وجل أن يمسك وحدة الصحبة والجماعة كما يمسك السماوات والأرض أن تزولا”، وهذا يظهر مدى حرص الرجل وجديته في استمرار دعوته إلى الله، التي أبلى فيها بلاء حسنا، على خطى الصحبة والجماعة مادامت السماوات والأرض.
رحم الله الإمام وجعل علمه ومدرسته من بعده صدقة جارية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.