هكذا تفتّحت أزهارهم في صحبة الإمام والجماعة.. ثلاث قصص تحكي “طريق الاستقامة”

Cover Image for هكذا تفتّحت أزهارهم في صحبة الإمام والجماعة.. ثلاث قصص تحكي “طريق الاستقامة”
نشر بتاريخ

“يُنتَظَرُ من الشباب المسلم أن يُنقذ الأمة من مهواة الموت، وأن يُنقذ العالم من الاستكبار الجاهلي، وأن يقاتِل التخَنُّثَ، والترفَ، والظلمَ، وأن يسهر على إقامة دولة العدل والأخلاق، وأن يرابط مستعداً لنجدة المستغيث، وأن يُفْرِغَ كل طاقاته لحماية القومة الإسلامية، ودفع العاديات عنها. يُنتَظَرُ من الشباب المسلم أن يكونوا أسْدَ العرين، وحماة الدين، وعمادَ الأمة. وذلك لا يأتي إلا بتربية تزرع في القلب الإيمان والتقوى” 1.

كلام نفيس من خبير أجرى الله على يديه خيرا عميما للأمة، فلم يهمل أو يفرط في جانب من جوانب الدعوة والإنسانية أو فئة من فئاتها. تربية هي مناط الأمر كله، فما ينتظر من الشباب جسيم وعظيم ومتعدد، إذ هم الفئة النشيطة حالا ومستقبلا؛ بصلاحهم تصلح الأسر والمجتمعات، وهم حجر الزاوية في كل تغيير منتظر؛ فهم أهل الفتوة والقوة والحيوية، وبهم يناط الدفع نحو المستقبل الموعود للأمة الإسلامية.

تربية يقيض الله لها أسبابها ورجالها، يفد لأجل تحصيلها الشاب والشابة إلى محاضن العلم والإيمان، ويرتقي في مراتب الدين بصحبة الصالحين، يتشربون منهم حالا ومقالا. مشكاة نورانية بنور الله تعالى يضعها جيل في يد جيل في سلسلة تحفظ شرع الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتبلغها غضة طرية لمن بعدها، بها يستقيم حال الفرد على طريق الصلاح، ويكتب الله تعالى الخلود لدينه القويم.

كيف يتم غرس فسائل الصلاح في جيل الشباب خاصة في جماعة العدل والإحسان؟ وكيف يتم انتقال هذا النور من جيل إلى جيل؟ هذا ما نروم ملامسة بعض جوانبه من خلال تجارب شابة وأخرى وطدت رجلها في أرض الدعوة والتربية، ولجتها شابة وأمضت ما شاء الله تعالى تمتح ممن سبقها وتفيض على من لحقها.

من صحت بدايته أشرقت نهايته

تحكي للبوابة الشابة كوثر قلقازي، ذات الـ24 ربيعا، طريقها نحو الصلاح، فتقول: “لم أرث من والدي المال والجاه، ورثت طريقا على خطى الله ورسوله؛ الصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة، ورثت انتمائي لجماعة العدل والإحسان. ويا له من شرف”.. هي منة من الله تعالى عرفتها كوثر وتحاول الحفاظ عليها قدر المستطاع، فـ”أن يترعرع المرء في كنف والدين يدلانه على الحق لنعمة، وأن يترعرع بين والدين وجماعة تصف له طريق الصالحين، على خطى الصالحين، يشيرون إلى السبيل ويقولون ‘من هنا الطريق، من هنا البداية’ لأعظم”.

وتعود بنا حاملةُ الإجازة في علوم الاقتصاد والتدبير لطفولتها حيث نهلت من ماء الجماعة الزلال بسلاسة وسهولة: “وليدة الألفين أنا، انفتحت كزهر الربيع بين والدي وإخواني في جماعة العدل والإحسان، بين أقراني منهم أمرح وأكبر رويدا في أسر إيمانية تعلمنا القيم الإسلامية وتهيئنا منذ حين لخوض الحياة على المنهاج النبوي بإحسان. أكبر والجماعة صدري لا تفارق. حب صادق لا تشوبه شائبة ولا مصالح، ولا يتخلله حسد بل غبطة.

برعمة وزهرة فتلميذة ثم طالبة عدل وإحسان، أحمل هم هذه الأمة كما علمني سيدي عبد السلام ياسين رحمه الله، أحمل مشعل هذه الجماعة ولا أفارقه. بين كفتي عدل وإحسان أتأرجح، لا يستوي أحدهما دون الآخر. وبين زهد وعمل في سبيل الله، لا يستقيم المرء إلا بهما”.

العناية الإلهية عينها أحاطت الشاب عمر بن زيان، ذو 26 سنة، الذي طبعت ذاكرته تلك اللحظة الفارقة في حياته، يقول: “كنت طفل سبع سنوات لا أزال، عندما وقع بصري لأول مرة على تلك الصورة الأيقونية التي أخذت مكانها في صدر بهو بيتنا، كجزء لا يتجزأ منه. كانت صورة لشيخ وقور، توحي قسمات وجهه بالطمأنينة والسكينة، وتعلوه هالة نورانية. والناظر إليه لا ينفك من سؤال يلح عليه إلحاحا: من الرجل؟

وبدوري حرضني فضولي لسؤال أمي: من الرجل؟ تلقفت أمي سؤالي والابتسامة بادية على وجهها وكأنها كانت تعد الإجابة سلفا: “هذا الرجل يا ولدي فضله كبير على بيتنا، واسمه عبد السلام ياسين. اجلس إليّ أحكي لك حكايته”.

وكطفل كان يقتات على سماع الحكايات، جلست وكأن على رأسي الطير، أسمع حكاية الرجل الوقور. ويا لها من حكاية!

إنها حكاية رجل بلغت همته عنان السماء، قدحت في داخله شرارة التغيير، فخرج على قومه مناديا: ‘من هنا الطريق، من هنا البداية’. فهيّأ الله لهذا النداء رجالًا ونساءً شمروا عن سواعدهم لبناء الصرح المتين”.

هي صورة من صور شتى لانتماء الشباب لجماعة تحمل مشروعا تغييريا متكاملا، يضع الإنسان في صلب اهتماماته بكل مراحل حياته، إذ هو حامل التغيير وقائده، تقابلها صور أخرى.

السعدية الجغلالي، الباحثة في علم النفس، التي تبلغ من العمر 51 سنة، تخبرنا عن طريقة انتظامها في سلك الجماعة: “ترعرعت في أسرة محافظة، تلتزم بما يعرف من الدين بالضرورة، أصوم وأصلي، أعامل الناس بالحسنى ولا أقرب الفواحش. كانت جدتي توقظني لصلاة الصبح وتهديني بعد أداء الفريضة هدية، كنت وأنا بعد صبية أحرص على نيل الهدية حتى وجدت نفسي حريصة على أداء الفريضة في وقتها، وكانت تصحبني معها إلى المسجد كل يوم جمعة وفي ليالي رمضان الغالية لنصلي التراويح، حيث كانت تأخذ بتلابيبي تلك الأجواء الروحانية والصوت العذب للمقرئ.. هكذا كنت أفهم الدين وأحسب أنني أقضي ما علي تجاه ربي، إلى أن ولجت الجامعة في عمر 19 سنة، وجدت فيها عالما جديدا كلية، فصائل متعددة يصل بعضها حد الاعتداء على مخالفيه، ومجون مرعي على أعين الناس.. بدأت أحضر حلقات النقاش التي كانت تدور خارج المدرجات، وأيضا المهرجانات الثقافية والفنية، أثار انتباهي وإعجابي في الآن نفسه ثلة من الشباب والشابات بأخلاق راقية وأفكار جديدة ينقلونها عن كتابات شيخهم عبد السلام ياسين، كانوا يحافظون على صلواتهم ويقومون في وجه الإدارة إذا ما أغلق المسجد، يساعدون الوافد الجديد ويخدمون كل من لجأ إليهم ويقودون النضالات دفاعا عن حقوق الطلبة، كانوا الملاذ للحائر في رحاب الكلية.. كم لجأنا إليهم فلم يتوانوا عن المساعدة دون مقابل ولا مساءلة ولا تبرم! بل كانوا يرحبون بكل من يستطيع المساعدة من دون شروط، وفعلا تطوعت في إحدى المحطات الثقافية وانضممت إلى ما كانوا يسمونه “نادي البشارة” وهو معرض للكتب يصاحب فعاليات ثقافية وفنية أخرى.. وأثارت انتباهي كلمة “البشارة”، وبدأت أسأل: لماذا اختيار هذه الكلمة؟ فأُخبرت بأن الكلمة تحيل على حديث يبشر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة على منهاج النبوة 2“.

لم تكن الجغلالي قد اطلعت على الحديث من قبل، ومع مرور الوقت اكتسبت صداقات جديدة؛ تحكي قائلة “كانت إحدى صديقاتي الجديدات قد تعرفت حديثا على الجماعة، فوجدتني داخل دائرة النقاشات، وبدأت أطلع على كتب الشيخ.. سلبني فكره المتقد وعلمه الواسع الجامع لمقاصد الدين، وسلبتني أخلاق حامليه الذين لم يضربوا يوما في زملائهم الذين يفرق بينهم الانتماء الفكري، عكس ما وجدت عند غيرهم من محاولات حثيثة لتشويه صورتهم والحؤول دون مجاراتهم، حضرت مع صديقتي بعض المجالس التربوية، وهنا تبدد ما كان بقي في نفسي من تردد، فطلبت الانتماء بنفس راضية مطمئنة”.

محبة وصحبة تطوي الطريق في أرض الاستقامة

تمضي السنين، ويكبر البرعوم ويتفتح زهرا يفوح شذاه، وتتسع مدارك الشباب وسط عائلة وفقها الله في أداء الأمانة وجماعة كانت نعم الدال والمعين على تثبيتها وإنمائها، وفي هذا تخبرنا كوثر ابنة آسفي: “كلما مرت بي الأيام في هذه الجماعة أدركت أكثر أن الحياة ليست فسحة، وأن الخالق خلق الخلائق ليُتعبد، يُسبح ويُحمد، أن الدنيا للفناء، والآخرة هي البقاء، ورحمته هي الرجاء.

في كنف الجماعة أدركت أن الخلاص الفردي، ليس أبدا كل ما يبتغيه الإله لنا، فالدعوة إليه هي السبيل. وإخراج المسلم التائه من مستنقع البعد عنه، خير من التعبد، وحيدا، بغار حراء. صرت لا أخاف من الوقوف أمام عاتيات الظلم، فكلمة الحق أبدا لا تموت.

مرت 24 سنة، ولا زلت طفلة الجماعة التي علمتها أن تكون نبراسا يضيء ما حوله، في ظلمة حالكة كالتي نعيشها اليوم”.

ويزيد الصورة نصاعة قول عمر ابن طنجة العالية الموجز في القانون: “اليوم، وقد شبّ عمرو عن الطوق، ولله الحمد والمنة أجد فضل الله علي عظيما أن أنشأني بين أظهر الرجال في محاضن التربية والإيمان. كانوا يحدثونني بما حدثهم الشيخ الوقور عن غاية ما يطلب وأسمى ما يقصد؛ وهو وجهه سبحانه، فقد خاب وخسر من لم يفز بالله، “ومن مات ولم يفز بالله فلا نهاية لحسرته”. وأن السبيل إلى ذلك صحبة تدلك على الله، تحملك وتحمل عنك، وتعينك على عثرات الطريق. وأن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي العروة الوثقى والصلة العظمى. وإنما الدين تدرج في المراتب؛ إسلام ثم إيمان فإحسان. ثم حدثوني على أن ديننا ليس دين دروشة وانزواء واستكانة وانحناء، بل هو دين مدافعة ومجابهة واقتحام. وأن هذا الدين يمقت الظلم والظالمين والطغاة المستكبرين وأن النداء الإحساني لا يسلك في الأذن الجائعة.

ثم حدثوني على أن مطلب العدل نحن أولى به من غيرنا، وأن الحكم شورى بيننا. وأن الأمر سيعود لما بدأ عليه: خلافة على منهاج النبوة. والموفق السعيد من اصطفاه ربه لإعداد الطريق”.

أما السعدية الجغلالي فتعود بذاكرتها إلى تلك الأيام الخوالي بفرح من عثر على كنز ثمين ما يزال يشد عليه بالنواجذ ويرضعه الوافد قطرة قطرة: “في مجالس الإيمان تعرفت على معاني جديدة للدين، عرفت أن الفرائض لا تكفي وأن النوافل تثبت الفرائض، وأن حالك مع الله وسيرك إليه وفوزك به هو الغاية والمنتهى، ووجدت الطريق مهيأة فهذا “يوم المؤمن وليلته” يأخذ بمجامع الفضائل ويدلك على برنامج عملي يرسخ قدمك في زمن العبادة والجهاد. في رياض الجنة تعلمت أمور الدين، وختمت الكتاب المبين حفظا ومدارسة وتجويدا، وفيها أخذ بتلابيبي دفء محبة ذللت الصعاب وثبتت الأقدام على طريق الصلاح، وصحبة أيقنت معها أن القناعة من الله حرمان.

تعلمت أيضا أن خلاصك الفردي لا يكفي، فقد خلقك الله عز وجل مربوطا بأمة لها عليك حق تبليغ رسالته والدعوة إليه، ورفع الظلم عن المظلومين والوقوف في وجه الظالمين صدحا بكلمة الحق.. فيهما معا -خلاصك الفردي والجماعي- تفتل أعمال ليلك ويومك، الأول ينظم لك الثاني، والثاني يكمل الأول، بهما تؤدي حق الله تعالى عليك، وحق نفسك وأمتك التي جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس”.

زكاة العلم بذله.. يد ممدودة يشد بها السابق على يد اللاحق

تكمل عضو الهيئة العامة للعمل النسائي الحديث عن حكاية عمرها يناهز 31 سنة قضتها في العمل التربوي والدعوي والجهادي طيبة بها نفسها: “عرفت بحمد الله تعالى طريق الحق فلزمتها، وما أزال إلى اليوم أتعلم وسط إخواني وأخواتي، ساعية أن يكون يومي أفضل من أمسي وغدي أفضل من يومي، فأخذت على عاتقي منذ وقت مبكر أن لا أكتم ما عرفت، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، لذلك اجتهدت ما وسعني الجهد في تبليغ كل ما أتعلم لمن بعدي، يستوي عندي في ذلك أبنائي مع أبناء المسلمين أجمعين، نأخذ بيدهم وندلهم على الخير كما دلنا من سبقنا، نسأل الله تعالى أن يكتبنا في صحائف السابقين ويكتب اللاحقين في صحائفنا”.

عمر بن زيان على حداثة سنه يؤكد هذا المعنى فيسترسل معلنا أن مع كل ما حدثه به من سبق فإنهم “أخبروني أنه ليس نحن من نقول كلمتنا ونمضي، بل نقول كلمتنا ونجلس لنعد لها؛ تربويا وعلميا وعمليا، ومن هذا الإعداد “بناء القاعدة العلومية التكنولوجية الكفيلة بإعطائنا القوة المادية التي أمرنا في القرآن المنزل من عند رب العالمين بإعدادها” 3، فاجلس معنا تسعد وتفلح”.

نداء محبة وحنو وغيرة على الشباب، كل الشباب، أن تجرفهم دواهي الحياة إلى الآسن من مستنقعاتها، نداء من يرغب في تكبير قاعدة الأخوة والصحبة كي يزداد بهم ثباتا، فإنه “اليوم، لا يزال ذلك الطفل يلتمس خطواته في طريق القوم، في كنف جماعة مجاهدة تتوب وتدعو الناس إلى التوبة، ولسان حاله يقول: اللهم كما أنعمت فأتم”؛ أتم علي وعلى أقراني من شباب المسلمين، يختم عمر الذي يستقبل مرحلة أخرى من مراحل حياته، لا خوف عليه بعدها بإذن الله تعالى ما تشبث بطريقه السالك إلى الله تعالى في صحبة السالكين، أليس يقال “من شبّ على شيء شاب عليه”.


[1] عبد السلام ياسين، إمامة الأمة، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ص 62.
[2] روى الإمام أحمد في “المسند” (30 / 355) عَنِ حُذَيْفَةُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ).
[3] عبد السلام ياسين، الإحسان، ط 2018/2، دار لبنان للطباعة والنشر-بيروت، ج 2، ص 81.