تندحر الإنسانية تحت أقدام الاستكبار العالمي في القطاع والبقاع. ينقضي عام على الطوفان المقدسي المبارك، ولا ينفك إجرام العلو ينكل بالمستضعفين في أمة الإسلام في مشاهد عتادها المسلمون. منهم المتفرجون من على مدرجات سياسة أنظمة الجبر، ومنهم المتكلمون في كيت وكيت، ومنهم الخائفون على متاعهم وتحصيل حطام الدنيا لا تنغص حياتهم حوادث أو سياسة. ومنهم قليل يحترق بجمر الاستبداد يوقنون في وعد الله الناجز في إزهاق الباطل وحمم الجاهلية الملتهبة من لدن الإفساد الصهيوني في غزة ولبنان. يقومون ما بين سقطة ونهضة يحررون ويتحررون. ينجزون بعدة ما أوتوا من الأسباب، يدافعون بلاء روح الجاهلية المسلطة.
نقرأ كلام الله الأزلي مصورا لنا أصناف إقبار أهل الباطل ونسف وجودهم. حاربوا الوحي ورسل الله بشتى السبل نكاية في بزوغ نور الحق المهدى من رب العالمين لعباده. لم ينقض عهد هذه الحرب بعد إنما تتعدد وتتجدد أشكالها ومخططاتها عبر قرون، حسب تطور العلم والعقل وانحسارهما عن الوحي وهدي النبوة. لكن مع طوفان الأقصى شاءت قدرة رب العالمين أن تكتمل فصول المشروع وترفع الستارة ليفتضح ويكشف للعالم وجه سفاح البشرية المارد فكرة، وتخطيطا، وتنفيذا: الاستكبار العالمي الصهيوني.
1- قضاء أمضاه ووعد ينجزه
يقول تعالى في سورة الإسراء بعد أن ابتدأ بذكر قضاء الله سبحانه في إفساد العلو اليهودي، ووعد الآخرة في التحرير المنتظر، وتلاه بنماذج حية، استفزاز وتنكيل الطاغوت الفرعوني بالناس عدوانا وكفرا. يسلي نبيه ليعتبر من خلفه رجال ونساء أمته في أسباب النصر والهزيمة: ” وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”[1] وعد الله مفعول لا ريب. يقين يرتجى تحمله القلوب المؤمنة بالوحي والغيب المنبعثة من عتمة الجاهلية، رغم أنها قلة متناثرة في هذه الأمة المتنامية الأطراف. حين يتجدد اتباعهم لمنهاج النبوة تحيا فيهم رسالة التغيير والجهاد تحريرا للإنسان والأرض، يطعنون الباطل ولو بعود. “عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول:” جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد”[2]. أصنام مكة الحجرية لهي أهون ما كانت عليه عبادة غير الله سبحانه جل وعلا، وهي أعتى وأضل اليوم في أرض الإسلام. لقد أوهن الأمة عبادات شردتها وطردتها عن فطنة الحق. توزعت ما بين الهوى والشيطان، والمال والسلطان، حتى صارت لقمة سائغة للاستكبار. لا تستمطر نصرا، وتستمرئ على مضض علقم الهزيمة.
الباطل اليوم المتمثل في طاغوت الاستبداد والاستكبار هو سلطان مصطنع مؤقت، يرمي بسهام الكبر والغطرسة عتوا وغرورا على سلطان الله عز وجل في ملكوته وكونه، هو الخالق البارئ لطينة البشر العالم بضعفها ،القابض لروحها ،المالك بزمام حياتها ومعاشها. سبحانه هو صاحب الحق، بيده إزهاق الباطل ودحره متى شاء وكيف شاء، ” فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق”[3]. إن ركون الناس للباطل إما خوفا وطمعا، أو صمتا واستكانة وغفلة هو عمى غشى على العيون والقلوب. فالباطل إرهاب ينخر في الضعف البشري ويستنزفه جسدا وروحا، “وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة. فالباطل ينتفخ وينفش، وإن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا، لكنه هش سريع العطب، لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته”[4]. أصل مادته استكبار شيطاني يزين السلطان للإنسان ليطغى، ويستأسد على بني جنسه. أما الحق فهو سلطان الله الأقوى، ووعده الأوفى صدقا وعدلا، يصدق به كل مؤمن يوقن بكلام ربه أن العاقبة للتقوى وأن جند الله العاملين بمقتضى وحيه، الموقنين في مدده هم الغالبون.
2-العاجزون الملتصقون بالأرض
إن كاد الذين تحالفوا على إزهاق الحق لترفع راية الباطل أن يفتنوا رسول الأمة صلوات ربي عليه عما جاءه من الوحي. كفار قريش تربصوا بأهل الإيمان استفزازا وإخراجا ومنعا وعسفا. تلك سنة جارية على الأمة بعد قبض نبيها الرحمة المهداة للعالمين. تتكرر في إبادة إجرامية وحشية يثخن فيها العلو المستكبر الجراح في قطاع غزة وأطراف لبنان. تشتد الحرب وتمحص الأمة في إسلامها وإيمانها وجهادها. لقد تعطلت لأسباب عدة عجلة ما صنعته النبوة في القرون الأولى الشامخة وهي التمسك بحبل الله وإعداد أسباب وعدة الجهاد. لا غرو أن فتنة فساد الحكم هو المعول الأول الذي هدم بنيان الأمة. من غير أن ننسى أن سر شقاء المسلمين فيهم، وفي تقاعس أنفسهم عن النفير لأجل التغيير على منهاج النبوة وبإزاء القرآن. استغلت جاهلية الاستكبار اختلافهم فيما بينهم طيلة قرون العض والجبر والفتن الطائفية لتمعن في احتلال الأرض واستعباد الإنسان.
يا ليت رجعة إلى منهاج الوحي ليتتلمذ على يديه الرجال والنساء. كان قد جمع فرقتهم من قبل عبادا على هدى من ربهم وبالآخرة هم يوقنون. سدد تعلمهم من نبيهم طاعة وأسوة الرمي أمام العدو. يغرفون العبر والمواعظ من النصر والهزيمة معا فيمحص إيمانهم. يخاطبهم محفزا: ” ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين”[5]، ثم يحثهم مقرعا بعد هزيمة أحد: “قل هو من عند أنفسكم”[6]، ” وحين يضعف الإيمان وتكون الأمة أخف، فالمدد الغيبي على مقدار ذلك”[7]. وعد الله بالنصر على الباطل أبقاه الله مشروطا وفق سننه في الكون، ولو شاء لرفع بلاء روح الجاهلية الصهيونية عن فلسطين والأمة، لكنها سنة الله وشروطه سبحانه في إعداد الأمة للهمم العالية الحرة، لجند الله المؤمنين العالمين بأوامره العاملين بمنهاج نبيه صلى الله عليه وسلم.
ضبابة الوهن تلصق المسلمين بترف الأرض، وعقبات المعاش اليومي، وفتن اليل والنهار ثم اعتياد الاستعمار والانقياد لوكلائه العلمانيين اللائكيين. رسخ جميعه في الأنفس المنهزمة عجزا وشللا تارة ،وتارة أخرى زوابع فذلكة كلام مسموم بفكر الطامعين المستكبرين ومن والاهم من بطانة النفاق ، يجتره ذراري المسلمين وهم غافلون. اضطرمت حرب السابع من أكتوبر مخلفة ورائها دمارا شاملا في غزة المحاصرة، ولا تزال أشكال الإسناد الشعبي في أمة المليار خجلة متثاقلة الأيدي والأرجل قد أنهكتها أغلال الاستبداد الإقليمي والقمع والخوف، وسياط التطبيع المخترق للشعوب فسادا وإفسادا. يقول الله تعالى: ” مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض”[8]، يستنكر رب العزة القعود والتخلف عن الجهاد في شتى ثغوره وقد علا صوت النفير. نسمعه اليوم في كل دقيقة صرخات الغزاويين غرقى في دماءهم وجوعهم وعريهم ومرضهم وصواريخ الاحتلال فوق جماجمهم. يفضح الوحي داء التخلف عن الركب النبوي والنكوص عن استنصار المستضعفين من المسلمين قائلا: “أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة”[9]. فهل تقوم همم ناعسة ملتصقة بهم اليوم وليلته، غافلة عن الوحي، وعن مصيرها ومصير أمتها، تصد العدوان عن غزة وفلسطين وكل ربوع الشام والأمة؟
3- هل فينا راحلة؟
يخبر رسول الأمة صلوات ربي عليه عن زمن اشتداد الباطل والفتن المتربصة بأمته عن داء وهن النفس المسلمة وتثاقلهها عن إنكار منكر أو أمر بالمعروف، فلا تجد الأمة راحلة من بين أعدادها الكثر تلك التي تذب عن دين الله، و تعلي كلمة الحق. فتلكم الرواحل قلة، وأهل الفضل من الأحرار قليل والله المستعان.
روى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة”[10]، هذا الحديث أورده في باب رفع الأمانة وإسناد الأمر لغير أهله. الراحلة المركب من الإبل الصالحة للركوب والترحال. ضرب مثل من جناب النبوة الحكيم لحال العباد في أمة الإسلام. هم غثاء عددي لا تكاد تجد فيهم من يحمل رسالة التبليغ والتغيير ورفع الظلم إلا طائفة قليلة. فكذلك ” الراغب في الآخرة قليل كقلة الراحلة في الإبل”[11]، وأضاف القرطبي في شرح الراحلة” الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم عزيز الوجود كالراحلة في الإبل الكثيرة”[12]. وقال ابن بطال أن: “المراد بالناس في الحديث من يأتي بعد القرون الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم حيث يصيرون يخونون ولا يؤتمنون”[13]
الرواحل القلة هم من يقاومون الطاغوت الصهيوني في أكناف بيت المقدس اليوم. وهم أيضا في بعض ثغور الأمة يدافعون الباطل والإفساد وجور الحكام. ويدعمون بما أوتوا إخوانهم المقدسيين. هم بشارة النبوة في أمة آخر الزمان واندلاع الفتن، لا يهمهم من خذلهم وخانهم. يصبرون على اللأواء محتسبين لعدوهم قاهرين. نحمل بكل فخر البشارة النبوية نستأصل بها تلك الانهزامية القرونية ونقول: “لله جند من هذه الأمة ظاهرين أخفياء أوفياء لرسالة الهدى والنور للعالمين يظهرهم الله على فترة من الزمان.”[14] الطائفة التي بشر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهم سماتها الظهور على الباطل والقهر للعدى. يقول النووي رحمه الله في شرح حديث الطائفة: “هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين منهم: شجعان مقاتلون ومنهم فقهاء ومنهم محدثون ومنهم زهاد آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين بل يكونون متفرقين في أقطار الأرض” أنفس من الأمة المحمدية الغثاء ومن هذا الغثاء يأذن الله سبحانه وتعالى أن تنبعث أمة الخلافة الثانية الموعودة “[15]
[1] الإسراء.81
[2] تفسير ابن كثير سورة الإسراء 81
[3] في ظلال القرآن سيد قطب سورة الإسراء 81.
[4] في ظلال القرآن تفسير سورة الإسراء
[5] آل عمران.139
[6] آل عمران. 165
[7] سنة الله ص12
[8] التوبة 38
[9] نفسه
[10][10] كتاب الرقاق الفتح.ابن حجر العسقلاني ح.6498 ص134
[11] نفسه ص135
[12] نفسه ص136
[13][13] كتاب الرقاق فتح الباري الحديث سبق تخريجه ص136
[14] من كتابي “خطة التحرر من الإفساد. من استكبار بني إسرائيل إلى علو الصهاينة” ص120
[15] نفسه ص120 و121.